السلطنة.. وإدارة عجلة السلام في اليمن !!

14 يونيو 2021
14 يونيو 2021

ليس من المبالغة في شيء القول: إن الأيام القليلة الماضية كانت، ولا تزال، أياما عمانية بالمعنى الكامل والحقيقي، ليس بادعاءات ولا مزاعم إعلامية، ولا بحملات تلفزيونية ولا بتحركات جماعات ضغط مدفوعة الأجر، ولا ببيانات إبراء الذمة على هذا المستوى أو ذاك، ولكن بتحركات وجهود عمانية عملية وملموسة على الأرض، ومع مختلف الأطراف المعنية بالتطورات في اليمن الشقيق، وبما يتسع لكل الأطراف اليمنية والإقليمية والدولية، وهذه كانت، وستظل سمة مميزة للسياسة والأداء الدبلوماسي العماني، ليس فقط حيال التطورات في الجمهورية اليمنية، والتي ترتبط وتؤثر بشكل كبير وعميق على الأمن القومي العماني، بمثل تأثيرها، وإن كان بدرجات متفاوتة، على الأمن القومي لكل الدول المجاورة لليمن الشقيق، وكذلك الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بما يجري على الساحة اليمنية بغض النظر عن البعد الجغرافي أو المسافة التي تفصل كلا منها عن اليمن الذي يتمتع بموقع استراتيجي بالغ الأهمية أسال ويسيل لعاب ومطامع الكثيرين ممن استهدفوا اليمن، الدولة والمجتمع على مدى قرون وعقود وسنوات عديدة، ومنحتهم التجربة، بغض النظر عن قسوتها عادة، فرصة اكتشاف صلابة وقوة الشعب اليمني وقدرته على التمسك بمصالحه وأهدافه وتماسك بلاده ودون أن تنال منها أية ظروف اقتصادية أو مصاعب تمر بها اليمن كدولة وكمجتمع مثلها مثل الدول والشعوب الأخرى في المنطقة والعالم.

ولعله من الأهمية بمكان التأكيد على أن التحركات العمانية المكثفة والمتواصلة، والتي ظهر جزء منها على الصعيد العلني، خلال الأيام القليلة الماضية، ليست تحركات مفاجئة ولا طارئة ولا تتسم بالمصادفة على أي نحو، ولكنها في الواقع تمثل استمرارا لجهود ومساعٍ حميدة عمانية بدأت منذ سنوات، فهي بالتأكيد سابقة على بدء عاصفة الحزم في مارس 2015، صحيح أن أعمال القتال في اليمن والعمل على وقف القتال والدفع نحو استعادة السلام في اليمن قد استحوذ على كثير من الجهد العماني خلال السنوات الست الأخيرة، ولكن الصحيح أيضا هو أن السلطنة حرصت منذ إعلان الوحدة اليمنية عام 1990 وما بعدها على العناية باليمن الشقيق والعمل على تطوير العلاقة الثنائية معه في مختلف المجالات، وكذلك الدفع نحو تعزيز العلاقات بين الجمهورية اليمنية وبين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وكانت قمة مسقط الثانية والعشرين لقادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 2001 نقطة تحول بإتاحة الفرصة لبناء شراكة تتسع تدريجيا لبناء علاقات تعاون أوسع وأعمق بين اليمن ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهو ما بدأ بالفعل في عدد من المجالات التنموية والصحية والرياضية، ومن المأمول أن يتواصل ذلك ويتسع ليشمل مجالات أخري خلال السنوات القادمة، وهو ما ستبلوره على الأرجح الاجتماعات القادمة للمجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية والتي ستشارك فيها، أو في جانب منها على الأقل، الجمهورية اليمنية لبحث ما يتصل بعمليات إعادة الإعمار في اليمن في الفترة القادمة والسير نحو إعادة السلام والاستقرار إلى الساحة اليمنية وبما يتجاوب مع مصالح وأهداف وأولويات الشعب اليمني الشقيق. وإذا كنا في غير حاجة إلى الإشارة إلى الجهود العمانية العديدة والممتدة خلال السنوات الست الأخيرة من أجل العمل لاستعادة السلام والاستقرار، وهي جهود حرصت القيادة العمانية على تجاوز أية معوقات تظهر في طريق تلك الجهود، وبما يسمح دوما باستمراريتها وكسب ثقة كل الأطراف، يمنية وعربية وإقليمية ودولية، وذلك عبر تفهم وتقدير مواقف ودوافع وحسابات مختلف الأطراف، بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الخلاف معها، فانه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: إنه في الوقت الذي تمتلك فيه السلطنة رؤيتها وتقييمها وحساباتها لمصالحها الوطنية فيما يتصل بمختلف التطورات والقضايا ذات الصلة بها، ومنها التطورات في اليمن الشقيق، فان السلطنة انطلقت في تحركاتها ومساعيها الحميدة لاستعادة السلام والاستقرار إلى الساحة اليمنية من منطلقات محددة، بالغة الوضوح والبساطة، ولا يمكن لأي طرف الاعتراض عليها، وتتمثل هذه المنطلقات في المبادئ التي حكمت وتحكم السياسة العمانية على مدى العقود الماضية، وحتى الآن، والتي تتمثل في الإيمان واليقين بأن الاحترام المتبادل والالتزام الحقيقي والعملي بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وعدم السماح بتهديد أمنها ومصالحها بشكل مباشر أو غير مباشر، والتعاون المثمر والعملي مع مختلف الأطراف لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة، والتعاون لتحقيق السلام والاستقرار لكل دول وشعوب المنطقة، وحل الخلافات بالطرق السلمية وعبر الحوار الإيجابي، وتجنب استخدام القوة، هي أفضل السبل لبناء افضل العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف أيضا، ولتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وحولها، فإن السلطنة جعلت من الواضح دوما أنها تتمسك بهذه المبادئ في علاقاتها وفي جهودها ومساعيها الحميدة بالنسبة لمختلف القضايا.

وبالرغم من أن ذلك لم يرق للبعض أحيانا، بغض النظر عن الأسباب والدوافع وراء ذلك، في مرحلة أو أخرى، إلا إن هذه المبادئ هي نفسها المبادئ التي تتبناها كل الهيئات والمنظمات الدولية العاملة من أجل السلام والازدهار والتعاون بين الشعوب، من الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، إلى المنظمات والهيئات الإقليمية والقارية، مثل الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي والآسيان.

ومن هنا فإن تحركات السلطنة، بالنسبة لليمن أو غيرها، تضع دوما قاعدة أو أرضية راسخة ليقف الجميع عليها وينطلق منها، وهي أرضية لا يمكن الخلاف بشأنها. وإذا كان ذلك يمثل أحد عناصر نجاح التحركات العمانية التي تبحث عن عناصر الالتقاء والتوافق في مواقف الأطراف المختلفة، فإن عنصر النجاح الآخر والمهم إلى حد كبير، هو أن السلطنة التي لم تفرض رؤيتها على أي طرف، ولم تقحم نفسها في أي خلاف، سوى بمقتضيات مصالحها الوطنية، وبدعوة الأطراف المعنية، ولم تتأخر أبدا عن بذل كل ما بوسعها لصالح دول وشعوب المنطقة، تتمتع إلى حد كبير، ودوما تقريبا، بثقة وتقدير مختلف الأطراف، وهى ثقة تنبع من إدراك الجميع لحقيقة أن السلطنة في تحركاتها ومساعيها لا تنطلق من أجندة خاصة، ولا لخدمة مصالحها الذاتية، ولا تسعى للاستفادة من أي خلاف، ولكنها تكرس جهودها لبناء أوسع توافق ممكن بين الأطراف المعنية وبما يسمح بالسير نحو حل سلمي يحقق مصالح مختلف الأطراف المعنية ويحقق السلام والاستقرار لدول وشعوب المنطقة. ويتعزز ذلك كله بوضوح ومصداقية وشفافية المواقف العمانية داخل الغرف المغلقة وخارجها أيضا، مع إدراك أن ذلك لا يعني العلنية المبتذلة ولا التكرار الممجوج للمواقف والتصريحات، خاصة أن السلطنة تدرك أن كل الأطراف المعنية تعرف مواقف السلطنة ومصالحها المباشرة وغير المباشرة أيضا.

ثانيا: إنه مع إدراك الجهود والتحركات التي سبق القيام بها، من جانب العديد من الأطراف الخليجية والإقليمية والدولية، بالنسبة للعمل لاستعادة السلام والاستقرار إلى الساحة اليمنية، والتي كانت السلطنة جزءا منها، فإنه يمكن القول: إن الجهود العمانية المكثفة والمتواصلة في هذه الفترة تأتي في ظل توفر عدد من العناصر التي تساعد على نجاح تلك الجهود، ومن أبرزها أن الرافعة الأمريكية بدأت تعمل من أجل وقف الحرب في اليمن بعد أن تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن منصبه منذ يناير الماضي، يضاف إلى ذلك أن مختلف الأطراف الإقليمية المعنية بالتطورات في اليمن أيقنت تماما أن الحل واستعادة الاستقرار إلى اليمن لن يتحقق بالحرب والطرق العسكرية، ولكنه يتحقق عبر المفاوضات والحل السلمي والتوافق بين الأطراف اليمنية بشكل أساسي، وفي إطار ما تمخض عنه مؤتمر الحوار الوطني اليمني وتوصياته بشأن مستقبل اليمن والصيغة السياسية له، وتذليل أية خلافات بين القوى اليمنية، وفي إطار استجماع كل القوى اليمنية وعدم استبعاد أي طرف أو استئثار أي طرف باليمن. وعلى الصعيد الإقليمي فانه بات من المهم والضروري العمل لتحقيق أكبر قدر من التوافق بين الأطراف الإقليمية والالتقاء بين مصالحها دون المساس بالمصالح الوطنية اليمنية، وينسحب ذلك على الأطراف الدولية المعنية كذلك.

وفي ظل تعقيدات الأوضاع في اليمن، وما خلفته سنوات الحرب، والحاجة إلى كثير من المهارة والصبر والثقة أيضا، فإنه ليس مصادفة أن تعود السلطنة إلى إدارة عجلة السلام في اليمن، بموافقة وتشجيع وتأييد مختلف الأطراف المعنية، يمنيا وعربيا وإقليميا ودوليا، وبقدر ما يسعد ذلك السلطنة بقدر ما يلقي عليها من عبء، ولكنها تشعر بالسعادة لأنها تعمل من أجل استعادة السلام والاستقرار إلى اليمن الشقيق، وبكل قواه الوطنية والاجتماعية ومن أجل مستقبل أفضل للشعب اليمني الشقيق. وفي هذا الإطار فإن الرسائل المتبادلة على مستوى القمة بين جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وبين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ملك المملكة العربية السعودية، ومجموعة الاتصالات على المستوى الوزاري بين السلطنة والمملكة العربية السعودية، والزيارة التي قام بها وفد عماني إلى صنعاء الأسبوع الماضي وما تم خلالها من لقاءات مع قيادات جماعة أنصار الله، وما ترافق معها من زيارة لوزير الخارجية اليمني أحمد عوض بن مبارك إلى مسقط، والاتصالات على المستوى الوزاري بين مسقط و كل من واشنطن وطهران، وكذلك اللقاء الذي تم في شرم الشيخ قبل أيام قليلة بين الرئيس المصري وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وبالطبع الاتصالات والمحادثات التي استضافتها مسقط خلال الآونة الأخيرة، ومنها ما تم مع المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن جريفيث، والمبعوث الأمريكي إلى اليمن ليندركينج، تلك الاتصالات والتحركات تلتقي وتصب لدى مسقط التي باتت تشكل بحق بوتقة الحل في اليمن، بحكم قدرتها على الجمع بين كل الأطراف دون استثناء. وقد عبرت التصريحات التي أدلى بها كل من وزير الخارجية اليمني أحمد عوض بن مبارك خلال زيارته إلى مسقط قبل أيام، وما كتبه وزير الإعلام في صنعاء ضيف الله الشامي على «تويتر» يوم الخميس الماضي، وما أشار إليه السفير السعودي عبد الله بن سعود العنزي المعين لدى السلطنة خلال استقبال صاحب السمو السيد فهد بن محمود آل سعيد نائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء له يوم الثلاثاء الماضي، عن تقدير هذه الأطراف للجهود والمساعي الحميدة العمانية، وهو ما يدعم فرص النجاح للجهود والمساعي العمانية، خاصة أن الأطراف المعنية الأخرى تلتقي عند نفس التقدير الرفيع للمساعي العمانية.

ثالثا: إنه إذا كانت السلطنة تسعى جاهدة من أجل تأمين أكبر مساحة ممكنة من التوافق بين الأطراف اليمنية وكذلك بين الأطراف الإقليمية المعنية بالسلام في اليمن، وتهيئة أفضل مناخ ممكن لقطع خطوات عملية نحو الاتفاق على وقف إطلاق النار بشكل كامل وملزم، والدخول في مفاوضات جادة ومثمرة تقود إلى تحقيق السلام للشعب اليمني الشقيق واستعادة الدولة اليمنية لدورها في الحفاظ على إقليمها وتضميد جراح حرب السنوات الستة وتحقيق سبل التنمية للشعب اليمني، بالتعاون مع الدول الشقيقة والصديقة بالطبع، إلا أن الواقع هو أن الأطراف اليمنية، وكذلك الأطراف الإقليمية ذات الصلة المباشرة بالتطورات في اليمن هي التي ستقوم بعبء التفاوض، وتقديم التنازلات الضرورية، واتخاذ المبادرات المسؤولة للسير عمليا نحو السلام، لأن السلطنة لن تقوم من جانبها بذلك، فالمسؤولية تقع أولا على الأطراف التي شاركت وتشارك في القتال في اليمن بشكل مباشر وغير مباشر، وتحاول السلطنة كسب تأييد كل الأطراف لوقف القتال والانخراط في مفاوضات تفضي إلى السلام والاستقرار في اليمن في أسرع وقت ممكن. وبالنظر إلى أن القتال في اليمن استمر عدة سنوات، واجتذب أطرافا عدة وبأشكال مختلفة، وبالنظر أيضا لأن الحرب خلفت الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والسياسية بالطبع، فإن التغلب على ذلك وإفساح الطريق للسير نحو السلام سيستغرق بعض الوقت بالضرورة، وسيتوقف المدى الزمني لذلك على مدى استعداد الأطراف للانتقال إلى التفاوض والسير العملي نحو السلام، في ضوء تقييمها لمصالحها الآن وفي المستقبل. ومع الترحيب بالاستعدادات لفتح مطار صنعاء وميناء الحديدة وكذلك بوقف التحالف لعمليات القصف الجوي على صنعاء ومواقع حوثية أخرى، وما أبدته مختلف الأطراف وخاصة المملكة العربية السعودية الشقيقة من استعداد لوقف القتال والسير نحو السلام ومبادرتها المعروفة في هذا المجال، فإن الأمر سيحتاج بالضرورة تعاون كل الأطراف والقوى اليمنية، وكذلك الأطراف الإقليمية والدولية مع الجهود والمساعي العمانية لإدارة عجلة السلام في اليمن بسرعة وكفاءة، وبما ينتقل باليمن الشقيق إلى مرحلة جديدة ووفق الأسس والمبادئ التي لا يمكن لأحد الاعتراض عليها وما تقوم به السلطنة من جهد في هذا المجال ولعل ذلك يكون قريبا.