التماسك المجتمعي وتكامل أداء المؤسسات .. ضرورة ملحة!!

21 يونيو 2021
21 يونيو 2021

من المؤكد أن الجميع، مهما كانت الرؤى أو التوجهات، يتفق على أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها السلطنة، كغيرها من الدول الشقيقة والصديقة في المنطقة وخارجها، فرضت وتفرض تحديات عديدة مباشرة وغير مباشرة، وهي تحديات تمتد إلى مجالات ومستويات مختلفة وعلى نحو يحتاج بالضرورة إلى حشد كل الطاقات الممكنة، بشرية ومادية وتنظيمية، ليس فقط لتجاوز التحديات المطروحة الآن، سواء بالنسبة لملف تشغيل الباحثين عن عمل من الشباب، أو بالنسبة لتجاوز تحدي ازدياد الإصابات والوفيات بسبب فيروس «كوفيد-19» وتحوراته، ولكن أيضًا للانطلاق العملي في مختلف مسارات العمل الوطني بقوة وعزيمة ورؤية متكاملة نحو تحقيق أولويات وأهداف «رؤية عمان 2040» وخطة التنمية الخمسية العاشرة (2021-2025) وتوفير كل ما تتطلبه عملية تحقيق الاستدامة المالية والتوازن المالي والاستفادة المثلى من الإمكانات والموارد الوطنية المتاحة، وبما يزيد من كفاءة وفعالية الأداء على المستوى المؤسسي، وعلى المستوى المجتمعي العام أيضا.

ولعل مما له دلالة عميقة وأهمية بالغة أن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - قد أكد في خطاباته وتوجيهاته السامية أكثر من مرة على أهمية وإلحاحية وضرورة الإسراع بالعمل، على المستوى الحكومي وعلى المستوى المجتمعي أيضا، من أجل تحقيق ذلك وعلى نحو يرتكز على منهجية علمية ودراسات موضوعية لمختلف المعطيات والمتطلبات، وصولًا إلى أنسب السبل والوسائل لتحقيق الأولويات والأهداف الوطنية.

ومن حسن الحظ أن هناك بالفعل الكثير من الجهود والإسهامات والدراسات التي جرت في الفترة الماضية للكثير من القضايا والمشكلات، والتي يمكن الاستفادة منها، أو البناء عليها، وتطويرها وفق متطلبات الحاضر وتطلعات المستقبل، والاعتماد في ذلك على ما يمكن أن تقدمه جامعة السلطان قابوس وبعض الجهات المؤسسية الأخرى من إسهام في إلقاء الضوء على أفضل الخيارات والبدائل الممكنة ووسائل التطبيق، على المدى القصير والمديين المتوسط والطويل لتحقيق الاستدامة والتوازن المالي من ناحية، واستيعاب طاقات الشباب والاستفادة الصحيحة منها إلى أبعد مدى ممكن، والحفاظ على دوران عجلة التنمية الوطنية لتحقيق مزيد من التقدم والازدهار لكل فئات المجتمع العماني في الحاضر والمستقبل من ناحية ثانية.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي: أولا: إنه من المعروف أن من أهم السمات المميزة للمجتمع العماني خاصة في ظل النهضة العمانية الحديثة والمتجددة أنه مجتمع متماسك اجتماعيًا وقيميًا، فهو مترابط بشكل قوي بين قواه وشرائحه وأنساقه الاجتماعية المختلفة، وحتى الآن على الأقل لم تستطع عمليات التحديث والتطوير المتواصلة أن تهز هذا التماسك، أو تضعفه، فلا تزال الاعتبارات الاجتماعية قوية التأثير على سلوكيات ورؤى الشرائح المختلفة في المجتمع، وهو ما يفيد في الواقع، خاصة إذا تمت الاستفادة من ذلك لحشد وتوجيه الطاقات الكامنة في المجتمع، وخاصة طاقات الشباب والقوى الاجتماعية ذات التأثير، لدعم ومؤازرة جهود الدولة التنموية والإصلاحية في المجالات المختلفة، وهناك أمثلة كثيرة ومفيدة في هذا المجال في العقود الماضية، وهو ما يمكن الاستفادة منه الآن وفي المستقبل.

وإذا كانت التوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم، سواء خلال ترؤس جلالته للاجتماع الأخير لمجلس الوزراء الأسبوع الماضي، أو في خطب جلالته، قد عبرت عن إدراك عميق واهتمام كبير بهذا البعد، فإن مما له دلالة عميقة أن يؤكد جلالته - أعزه الله - على «أهمية تكامل الجهود المبذولة من مختلف قطاعات الدولة من أجل إتاحة الفرصة للشباب للمساهمة في مسيرة البناء والتنمية... وأن المرحلة المقبلة تتطلب تناسق وتناغم جهود كافة مؤسسات الدولة في تقديم الخدمات وتذليل العقبات والمعوقات التي تعترض مسيرة التنمية الشاملة وإيجاد آلية عمل جديدة وفعالة لعمل كافة القطاعات لتجويد العمل وتسريعه».

وفي حين يحدد ذلك مرتكزات وأسس العمل في الحاضر والمستقبل بالنسبة لمختلف قضايا وأولويات التنمية الوطنية، وهو ما ينبغي أن تضعه كافة مؤسسات الدولة في مقدمة اهتماماتها عند قيامها بمهامها وأدوارها المختلفة، فإن الإجراءات العملية التي تم اتخاذها، خاصة فيما يتصل بمبادرات التشغيل والبرنامج الوطني للتشغيل، وإتاحة الفرصة للكثيرين من الشباب لنيل شرف الانتساب لقوات السلطان المسلحة وشرطة عمان السلطانية، وكذلك جهود توفير أكثر من 32 ألف فرصة عمل، وغيرها تشير بوضوح إلى العزم الكبير من جانب القيادة والحكومة العمانية لبذل كل ما يمكن من أجل توفير حياة أفضل للمواطن العماني اليوم وغدًا، والتغلب على أي تحديات راهنة، وتشير أيضًا إلى أن مختلف مؤسسات الدولة تحرص على ترجمة التوجيهات السامية إلى خطوات وإجراءات يستفيد منها المواطنون والشباب منهم على وجه خاص.

على أنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى نقطة شديدة الأهمية وهي أن مشكلة الشباب الباحثين عن عمل، والتي طرحت نفسها بقوة في الآونة الأخيرة، ليست مشكلة جديدة ولا طارئة، ولكنها مشكلة تعود لسنوات عدة، وبقدر احتياجها لسياسات وبرامج عملية مناسبة ومدروسة للتعامل معها، وهو ما تحاول الحكومة القيام به الآن، بقدر احتياجها إلى تعاون الأسر والشباب الباحثين عن عمل أنفسهم، ليس فقط فيما يتصل بالإقبال على تطوير مهاراتهم وخبراتهم ومعارفهم، والقبول بالوظائف والمهن المتاحة، ولكن أيضا في العناية بالمشروعات الفردية وريادة الأعمال، إذ لم يعد ممكنًا الانتظار حتى توفر الحكومة وظائف للجميع، فدور الشباب في البحث عن فرص عمل، وفي الاهتمام بالقطاع الخاص بات ضروريًا، وهنا تظهر بوضوح مسؤولية الأسر في تشجيع الأبناء للعمل في الوظائف المتاحة في القطاع الخاص، لأن الوظائف الحكومية المتاحة باتت محدودة جدا من ناحية، ومسؤولية القطاع الخاص العماني في توفير مزيد من الفرص والسير بشكل جاد في عمليات الإحلال والتعمين، خاصة أن الحكومة قد عرضت المساهمة في تمويل عمليات التدريب، وفي مرتبات من يتم تعيينهم في القطاع الخاص لمدة عامين، وهي فرصة يمكن للقطاع الخاص الاستفادة الحقيقية منها من ناحية ثانية.

ومن المأمول أن تتحقق درجة عالية من التعاون والتنسيق بين القطاع الخاص، الذي بات يشكل بوابة التشغيل الرئيسية للباحثين عن عمل، وبين الحكومة ممثلة في وزارة العمل وما تقوم به من جهود مشكورة في هذا المجال أشار إليها معالي الدكتور محاد بن سعيد باعوين وزير العمل.

وليس من المبالغة في شيء القول بأن التعاون والتنسيق بين الحكومة والقطاع الخاص والباحثين عن عمل أصبح من أهم مفاتيح التعامل مع هذا التحدي، ويمتد ذلك إلى الأسر وضرورة العناية بتطوير رؤيتها ونظرتها لعمل الأبناء ولأهمية المشروعات الفردية عندما تتوفر القدرة على ذلك، أو حتى الرغبة الحقيقية للاستفادة مما تقدمه الدولة من تسهيلات عديدة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

وبالنظر إلى أن المصالح مترابطة ومتداخلة ولا يمكن فصلها، فإنه ينبغي العناية بالتأكيد على ذلك وتعميق الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية حيال المجتمع والدولة في الحاضر والمستقبل أيضا وذلك من خلال المؤسسات والوسائل الإعلامية والثقافية القادرة على الإٍسهام في ذلك.

ثانيا: إنه مع التقدير لخطوات وإجراءات التنسيق والتكامل في الإجراءات المتعلقة بتشغيل الأبناء من الباحثين عن عمل، وهو ما أشار معالي الدكتور وزير العمل إلى جانب منه عندما قال: «إنه تنفيذًا للتوجيهات السامية.. تواصل وزارة العمل بالتنسيق مع الجهات العسكرية والأمنية وديوان البلاط السلطاني وشؤون البلاط السلطاني توفير فرص عمل للباحثين عن عمل فيها وأن الوزارة أصدرت منذ بدء التوجيهات السامية سبعة إعلانات لوظائف بالمستويات التعليمية والتخصصات المختلفة في الجهات العسكرية والأمنية، حيث تم خلال الأسبوعين الماضيين مباشرة إجراءات التقييم والاختبارات والمقابلات للمواطنين الباحثين عن عمل في مختلف الجهات العسكرية». فإنه من المعروف أن هناك أيضًا جهودًا للتنسيق الحكومي مع مؤسسات القطاع الخاص، وما تقوم به غرفة تجارة وصناعة عمان يظل مهمًا ومفيدًا، غير أن الأمر على المستوى الوطني يظل في حاجة إلى تنسيق وتكامل أعمق وأكثر استمرارية وعلى نحو يشكل ركيزة للأداء الوطني.

صحيح أن التنسيق الجاري وما تقوم به الحكومة بالتعاون مع القطاع الخاص مهم ومفيد، ولكن الصحيح والضروري أيضا هو أن يتحول ذلك إلى آلية عمل دائمة ومستقرة وقادرة على العطاء في كل الظروف في الحاضر والمستقبل، بمعنى إلا يكون الجهد الحالي جهدًا مناسبًا لمواجهة متطلبات محددة، تنتهي أو تخفت بعد مدة ما، ولكن من الضروري أن يتحول ذلك إلى جهد دائم ومتواصل، والمرجح أن ذلك سيحتاج إلى جهد مركزي، أي على الصعيد الوطني، للتنسيق ولتحقيق التكامل بين مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية والقطاع الخاص وحتى جمعيات المجتمع المدني وضمها وإدخالها وتفعيلها مع بعضها البعض وفق الرؤية الاستراتيجية العليا للدولة، وهى مهمة بالغة الأهمية والضرورة والإلحاح.

نعم توفر «رؤية عمان 2040» رؤية مستقبلية خلال السنوات القادمة وتسعى خطة التنمية الخمسية العاشرة إلى ترجمة ذلك على المدى الزمني القصير، ولكن من المهم أن تكون هناك جهة يناط إليها القيام بعملية التنسيق تلك وعلى نحو عملي واقعي يستطيع التعامل مع حركة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، الإنتاجية والخدمية المختلفة على المستوى الوطني، حتى يمكن ضمان أن كل الجهود، أيا كان القطاع الذي يقوم بها، تسير وتصب في مجرى المصلحة الوطنية العليا للدولة وفي إطار الأولويات التي يحددها جلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه.

وإذا كانت السلطنة قد عرفت هذا النوع من التخطيط في مراحل مختلفة من مسيرتها التنموية، فإن ما أشار إليه جلالته خلال الاجتماع الأخير لمجلس الوزراء ينطوي على الكثير من الأهمية في هذا المجال خلال الفترة القادمة، خاصة أن هناك عملية إعادة صياغة وإعادة ترتيب للجهاز الإداري ولمؤسسات الدولة المختلفة لتتمكن من الانطلاق بقوة وفاعلية، وبما يتناسب مع متطلبات وتحديات الحاضر والمستقبل، خاصة أن مسألة الباحثين عن عمل ما هي إلا واحدة من المسائل التي ينبغي التعامل معها بمنظور وطني ووفق استراتيجية عليا تنصهر فيها جهود كل القطاعات وتسخر في إطارها كل الجهود.

وبذلك تتوفر بالتأكيد عوامل وفرص النجاح، أما من حاولوا ويحاولون تصوير ما حدث الشهر الماضي على أنه مؤشر سلبي بشكل أو بآخر، فإنه يكفي للرد عليهم أن الشباب العماني هو شباب واعٍ يحب وطنه ومستعد للتضحية من أجله، وأنه تم استيعاب ما حدث والتعامل معه بمسؤولية وبعد نظر وحب أيضًا لكل أبناء الوطن، وأنه يتم الاستفادة من كل ما حدث لبناء إطار وطني واضح ومحدد للتعامل مع مختلف التحديات والاستفادة من كل الجهود، وعبر تنسيق عميق ومتواصل بين كل مؤسسات الدولة تنفيذية وبرلمانية وقضائية وقطاع خاص وحكم محلي ومجتمع مدني وفي القلب منها المؤسسات العسكرية والأمنية، وهذه مهمة ضخمة وبالغة الأهمية تضطلع بها القيادة الحكيمة، وتحدد الإجراءات الخاصة بها والسبل الملائمة لتحقيق مصلحة الوطن والمواطن اليوم وغدًا وبعد غد، وكما نجحت عمان بقيادة السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- خلال العقود الماضية، فإنها ستنجح بالتأكيد في الحاضر والمستقبل، بقيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - ليس فقط في الحفاظ على ما تحقق، ولكن أيضا في البناء عليه وتطويره والانطلاق به إلى حيث يتطلع المواطن، وإلى حيث تتحقق مصلحة الدولة العمانية الحديثة، والحفاظ على كل مقدراتها وترابها الوطني، وهذه مسؤولية ومهمة وطنية تتسع بالضرورة لمشاركة كل أبناء الوطن، وفي المقدمة منهم الشباب وتتوفر لها كل مقومات النجاح.