إرث الدولة ونجاح الصين

07 ديسمبر 2022
07 ديسمبر 2022

عندما يحلل أهل الاقتصاد والمؤرخون الغربيون التحول الاقتصادي المذهل في الصين على مدار العقود الأربعة الأخيرة، فإنهم يميلون إلى التأكيد على طفرة الإنتاجية التي أُطـلِق لها العنان مع بدء الإصلاحات الموجهة نحو السوق في عام 1978، لكن الدور الذي اضطلعت به النخبة السياسية في الصين محرك رئيسي لظهورها بوصفها قوة اقتصادية ظل يفتقر إلى الدراسة الوافية.

يرجع هذا جزئيًا إلى صعوبة قياس مساهمة النخبة السياسية في التنمية الاقتصادية، ولحسن الحظ توفر دراسة حديثة أجراها توماس كاساس آي كليت وجويدو كوتزي من جامعة سانت جالن إطارًا نظريًا مفيدًا لفهم النموذج الاقتصادي الصيني. أنشأ كاساس وكوتزي مؤشر جودة النخبة السنوي، الذي يقيس ويصنف القيمة التي توجدها النخب الوطنية في أي بلد، مثلها كمثل دول أخرى في شرق آسيا، اعتمدت الصين على قدرة الدولة القوية والبيروقراطية الفَـعّـالة لتعزيز وتنسيق التنمية الاقتصادية.

في أحدث مؤشرات جودة النخبة، تحتل الصين المرتبة السابعة والعشرين (من أصل 151)، وهذا أعلى تصنيف بين الاقتصادات ذات الدخل المتوسط الأعلى، وفي مؤشر القوة السياسية الوارد في الدراسة، الذي يقيس تأثير النخبة الوطنية على تنظيم الأعمال، ووضع القواعد، وقانون العمل، احتلت الصين المرتبة الستين، في حين تفرض النخبة الصينية قبضتها المحكمة على مؤسسات الدولة، فإن المؤشر يعترف بوضوح بمساهمتها الهائلة في التنمية الاقتصادية في الصين.

وفيما يتصل بالدور الذي تضطلع به النخبة في توزيع الدخل وتعزيز الأمن العام والرفاهة الاجتماعية، احتلت الصين المرتبتين السادسة والتاسعة على التوالي. وفي حين وجد التقرير أن النخبة توجد القيمة للمجتمع الصيني في المجال السياسي، فقد احتلت الصين المرتبة الثانية والثلاثين في مساهمة النخب في الأسواق والنمو الاقتصادي، وتعجز النظرية الاقتصادية السائدة في الغرب عن تفسير نموذج النمو الفريد في الصين.

لقد أربكت التركيبة التي تتألف من الأسواق والسياسة الصناعية في الصين المراقبين الغربيين، الذين يبالغون في التأكيد على ميول الدولة الاستخراجية ويستخفون بدورها المغذي، لكن التقرير يسلط الضوء على الوظيفة التي تضطلع بها الدولة الصينية كمحرك للدينامية الاقتصادية والنجاح.

عندما يتعلق الأمر بما يسمى «الهيمنة الاندماجية»، والتي تشير إلى القوة التي يتمتع بها المطلعون من الداخل في إدارة الاقتصاد السياسي في الصين، تحتل الصين المرتبة الـ138، في الوقت ذاته، احتلت الصين المرتبة السادسة في «التدمير الـخَـلّاق»، مما يشير إلى أن نظامها الموجه نحو النخبة أفضل كثيرا في التكيف مع الظروف الخارجية المتغيرة مقارنة بما يعتقد بعض خبراء الاقتصاد في الغرب. قد تحير طبيعة التدمير الخلاق، التي تحدث عنها جوزيف شومبيتر، والتي تتسم بها النخبة السياسية في الصين المراقبين الغربيين، لكنها لن تفاجئ من هم على دراية جيدة بتاريخ الصين الطويل وكيف تشكلت الدولة الصينية في البداية قبل عدة آلاف من السنين، كما لاحظ المؤرخ الأمريكي الصيني الراحل راي هوانج، تُـعَـد الصين دولة مبكرة النضج سياسيا والتي أكملت عملية التحول إلى دولة حديثة قبل 1500 عام من أوروبا.

تَـعَـجَّـبَ هوانج، ومعه العالم السياسي فرانسيس فوكوياما، إزاء فترات الحكم القصيرة بدرجة استثنائية التي ميزت حكام الصين الإقطاعيين. كانت الممالك المتحاربة الضئيلة التي سبقت الصين الإمبراطورية عاجزة عن مقاومة الغزوات المتكررة من جانب البدو الرحل الشماليين أو إدارة الكوارث الطبيعية، مما أوجد احتياجًا سياسيًا إلى حكومة موحدة، والتي جاءت في هيئة إمبراطور الصين الأول، تشين شي هوانج، الذي حكم الصين خلال الفترة من 221 إلى 210 قبل الميلاد، والذي كان مشروعه السياسي يتلخص في إقامة نظام مركزي قوي.

كانت الصين في عهد تشين سابقة للدولة الحديثة في كثير من النواحي، والتي حددها عالم الاجتماع ماكس ويبر، في ظل بيروقراطية مركزية واسعة ونظام ضريبي يتمتع ببنية جيدة، على النقيض من ذلك، لم تتخذ أوروبا خطواتها الأولى نحو التحديث السياسي حتى القرن الخامس عشر بعد الميلاد، لكن التطور المبكر لم يخل أيضا من عيوب، ففي حين كان التجار الأوروبيون قادرين على حشد النفوذ السياسي قبل تشكيل الدولة المركزية، عملت القوة المتماسكة التي ميزت النظام الصيني على تمكينه من وقف مثل هذه التطورات في مهدها، لهذا السبب، عجزت الرأسمالية عن الظهور في الصين القديمة، على الرغم من وجود مؤسسات الدولة الحديثة نسبيا هناك.

كانت النتيجة ما يسمى «التباعد العظيم»، حيث بدأت الدول الغربية التصنيع أولا ثم تجاوزت الصين. بعد التوحيد، سمح عدد سكان الصين الهائل ونظامها البيروقراطي الفَـعّـال للإمبراطوريات الصينية المتعاقبة بتجربة فترات طويلة من الازدهار وتحقيق تقدم ملحوظ في العلوم، والتكنولوجيا، والثقافة. لكن الصين عزلت نفسها أيضا عن العالم لقرون من الزمن، مما أدى إلى تدهورها التدريجي.

تُـظـهِـر تجربة الصين على مدار السنوات الأربعين الأخيرة أن النمو الاقتصادي يسير جنبًا إلى جنب مع الاندماج في الاقتصاد العالمي، ولا تزال هذه العملية جارية، والطريق إلى الأمام لا يزال طويلا، حيث تحتل الصين المرتبة الثمانين في حرية التجارة والمرتبة الـ104 في العولمة الاقتصادية على مؤشر جودة النخبة، لكن الإرث المؤسسي الغني الذي تتمتع به الصين يُـفـضي إلى النمو الاقتصادي القوي، وهذه أيضا حال تأكيد الصين الثقافي، الذي يمكن تتبعه إلى كونفوشيوس، على التعليم والادخار.

وتواجه بلدان عديدة اليوم صعوبات جمة في تحفيز النمو، بسبب انعدام الكفاءة البيروقراطية، والاستيلاء التنظيمي، والفساد المستشري، لكن مسار الصين يسلط الضوء على قوة النخبة السياسية الديناميكية المقتدرة في دفع الازدهار فضلًا عن خطر الاستخفاف بالدور الاقتصادي الحاسم الذي تضطلع به دولة قوية وفَـعّـالة.