أخلاقيات النشر والمنصات الإعلامية الجديدة

27 يوليو 2021
27 يوليو 2021

أ.د. حسني محمد نصر -

فرض الإعلام الجديد نفسه كلاعب رئيس على الساحة الإعلامية والسياسية في كل دول العالم تقريبا، ولم يعد الأمر يقتصر في التأثير على المواطنين على قنوات ومنافذ الإعلام التقليدي التي يمكن ضبط خطابها وتصحيح مسارها سواء بالقانون أو مدونات السلوك.

في ضوء ذلك لجأت دول كثيرة في العالم إلى تقنين استخدام الأفراد للوسائط الإعلامية الجديدة، إما باستحداث قوانين خاصة بهذه الوسائط أو بإدراجها ضمن قوانين الإعلام التقليدي. ومع ذلك فإن المساحة التي لم يتم الاقتراب منها هي المساحة الأخلاقية التي يجب أن تحكم استخدام منصات هذا الإعلام خاصة شبكات التواصل الاجتماعي التي اختلط فيها الحابل بالنابل وأصبحت -لغياب المحدد الأخلاقي- ساحة لتبادل السب والقذف والتشهير والإهانة.

في ظل المعطيات السابقة، فإن الأمر يحتاج إلى إعادة تذكير مستخدمي المنصات الإعلامية الجديدة بمفاهيم وأخلاقيات العمل الإعلامي، والترويج لها ليس في أوساط الإعلاميين المحترفين فقط ولكن لكل المواطنين الذين يقع عليهم العبء الأكبر في أي محاولة جادة لوقف نشر الأكاذيب والمعلومات المضللة على هذه المنصات.

ومن باب التربية الإعلامية الغائبة في عالمنا العربي نقول إن علينا كمستخدمين لشبكات التواصل الاجتماعي والمنافذ الإعلامية المختلفة على شبكة الويب أن ندرك جيدًا أن الأخلاقيات بوجه عام هي قواعد أو مبادئ أخلاقية توجه سلوكنا في مواقف محددة، أو توجهنا إلى الطريقة الأفضل أو الفعل الأصح للتصرف في موقف معين.

وتوصف الأخلاقيات بأنها تهتم بالتمييز بين الصحة والخطأ. ويعني الأصل اللاتيني للكلمة مقياس أو قواعد مرشدة في الحياة لا يتم تحديدها بواسطة القانون فقط، ولكن أيضا من خلال رغبة البشر في عيش حياة جيدة وسعيدة. وعلى ذلك فإن الأخلاقيات هي السلوك البشري الطوعي الذي يمكن الحكم عليه بالصحة أو الخطأ استنادا إلى مبادئ ومعايير محددة.

وتُستمد الأخلاقيات من مصادر متعددة مثل الأديان السماوية وأقوال الفلاسفة والعادات والتقاليد. ففي فترة مبكرة من التاريخ الإنساني تساءل الفلاسفة عن سبب وجود الأخلاق، ومن أين جاءت. وعلى أثر ذلك تشكلت ثلاث نظريات رئيسية.

أولها (وربما الأقدم) أنها جاءت من الدين. فمعظم الأديان لها مدونة أخلاقية مرتبطة بها.

وتقول النظرية الثانية: إن الأخلاق هي ميثاق يضعه المجتمع لأفراده، يسمح لهم بجني الفوائد من العيش معا. ويتم تعليم هذه الأخلاق وتناقلها بين الأجيال من قبل الأباء والأمهات والأجداد ومؤسسات التربية، لكي يواصل كل فرد فعل الشيء الذي يعتقد المجتمع أنه صحيح، وعدم فعل الشيء الذي يعتقد المجتمع أنه خاطئ.

وتقوم النظرية الثالثة على فكرة الحتمية الأخلاقية، التي تعني أننا، كبشر، أخلاقيون بطبعنا، لأننا نُقبل بشكل طبيعي على فعل الشيء الصحيح، ونعرف بطريقة غريزية ما الصواب وما الخطأ. وحتى وإن لم نتعلم كيف نتصرف في مواقف محددة، فإننا سوف نتصرف بشكل غريزي أخلاقي.

والواقع أن النظريات الأكثر أهمية والتي تتضمن التزامات أخلاقية لكل من يستخدم منصة إعلامية لنشر الأخبار والآراء تعود إلى عدد من الفلاسفة والمفكرين، من أبرزهم الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي كان يعتقد أن وظيفة الإنسان في الأرض أن يسعى إلى تحقيق السعادة. ولتحقيق هذه السعادة، قال أرسطو «إن المرء يجب أن يعيش باعتدال». ولذلك تُعرف نظريته باسم «الوسط الذهبي».

وجادل أرسطو بأنه ينبغي للمرء أن يعيش بدون إفراط ودون تقتير وإنما باعتدال بين الطرفين. وتعتبر نظرية أرسطو مفيدة للغاية بشرط أن تقرر ما الإسراف وما التقتير وأين يكمن الوسط؟ ومع ذلك، هناك مشكلة في نظرية أرسطو حول المتوسط الذهبي للأخلاقيات، وهي أن هناك بعض الفضائل أو الأخلاق التي تبدو مطلقة. فالصدق على سبيل المثال لا يمكن أن يكون له متوسط، فالإنسان إما أن يكون صادقًا أو غير صادق. ولذلك تعتبر نظرية أرسطو في الأخلاق نظرية ناقصة.

وتُعد الأديان أساس الكثير من التعاليم الأخلاقية في العالم. وإذا كان الغرب قد تأثر بالأخلاق اليهودية المسيحية، فإن العالم العربي وشمال إفريقيا تأثر بالأخلاق الإسلامية، فيما تأثرت دول الشرق بالهندوسية وغيرها من الأديان غير السماوية. ورغم أن التعاليم الأخلاقية الدينية، والتي تقوم على ثنائية الخير والشر، تتطلب الإيمان بالله لدعمها، فإن هذه التعاليم أصبحت متجذرة في الثقافة في معظم الدول الغربية حتى لدى هؤلاء الذين لا يؤمنون بوجود الله.

ويتحدى البعض وجهة نظر أرسطو القائلة بأنه يجب على الناس أن يتصرفوا من أجل تحقيق السعادة. ويرى هؤلاء أن الهدف من فعل الصواب ليس جعلنا سعداء، وإنما لتحقيق مصلحة ذاتية. ولذلك يقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت: إن «من واجبك أن تكون صادقًا». ومع ذلك يجب أن نفرق بين الصدق كقيمة مطلقة وبين الصدق كمنفعة ذاتية قد يكون نابعا من الخوف من العواقب الضارة. فالصدق كقيمة مطلقة يمثل قانونا عاما، أما كمنفعة ذاتية فيعنى أن علينا أن ننظر حولنا أولًا لمعرفة النتائج التي تترتب على الصدق في مواقف معينة. ولذلك يعتقد «كانت» أن الأخلاق تقاس بالإرادة البشرية، بمعنى أنه إذا كانت إرادتنا لفعل شيء ما جيدة، فعندئذٍ يكون العمل أخلاقيا. لكن أن تفعل شيئًا لأن عواقب عدم القيام به قد يؤدى إلى الإضرار بأنفسنا فإن هذا يجعل الصدق مجرد مصلحة ذاتية. ولا يمكن فصل الفعل الأخلاقي عن المصلحة الذاتية.

ويرى أصحاب مبدأ المنفعة، أو مبدأ السعادة الأعظم، أن الأفعال الصحيحة أخلاقيا هي تلك التي تزيد السعادة وتقلل من الضرر. وتعد النفعية أو الغائية مقبولة على نطاق واسع في الغرب كنظام أخلاقي. ويعتقد النفعيون أن الفعل الذي ينتج عنه فائض من الآثار المفيدة تفوق الآثار الضارة هو الفعل الأخلاقي الصحيح.

والواقع أن مذهب النفعية له قبول وجاذبية كبيرة لدى الصحفيين ونشطاء شبكات التواصل الاجتماعي، لكن مشكلته تكمن في الاعتماد على من يتخذ القرار. ويقربنا ما سبق كثيرا من فكرة أو فلسفة الحتمية الأخلاقية وهي الفلسفة الأقرب -في تقديري- إلى استخدام منصات الإعلام الجديد من جانب الأفراد.

وتعود هذه الفكرة إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804) الذي ساعد في تطوير مفهوم علم الأخلاق أو أخلاقيات الواجب.

في هذه الفلسفة يعتقد «كانت» أن الفعل الأخلاقي هو فعل ينكر الذات ويتبع الالتزام فقط. وعلى سبيل المثال إذا كنت قد وعدت شخصا بأن ألتقي به الليلة فأنا ملزم أخلاقيًا بفعل ذلك بغض النظر عن ميولي. ومع ذلك، إذا لم أقطع مثل هذا الوعد، فأنا حر في اتباع ميولي. لكن كل ما أفعله سيكون مجرد مسألة ذوق وليس عملًا أخلاقيًا. وقد طور كانت نظرية الكونية الأخلاقية، التي سمحت بتطوير مجموعة من القوانين العالمية الأخلاقية في مجال الصحافة، يمكن بالتالي استخدامها لتطوير قوانين عالمية أخلاقية لاستخدام منصات الإعلام الجديد. ولعل من أبرز ملامح هذه النظرية الاعتراف بأن «لكل شخص قيمة متساوية ونفس الحق في أن تكون له وجهة نظر يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار»، وبالتالي دحض مقولة «إن الغاية تبرر الوسيلة».

وعلى هذا لا يمكن تبرير اقتحام بعض مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي حياة الآخرين لمجرد توفير الترفيه لمتابعيهم. إذ يكونون بذلك قد عاملوا هذا الشخص كوسيلة للترفيه وليس كإنسان له الحق في الخصوصية.