هوامش... ومتون :العودة إلى «أبي البحر»!

16 يونيو 2021
16 يونيو 2021

زرتُ محافظة مسندم أكثر من مرة، بمناسبات ثقافية مختلفة، كانت أوّلها خلال مشاركتي عضوا في لجنة تحكيم الملتقى الأدبي الذي كانت كلّ دورة من دوراته تقام في محافظة من محافظات السلطنة، تبعتها زيارات، تعرّفت خلالها على معالمها السياحيّة، والأثرية، وحكاياتها، وأساطيرها المحفورة على صخور جبالها الشمّاء، بدءا من مركز المحافظة، ولاية خصب ذات الجمال الآسر، وطبيعتها التي تمتاز بالتنوّع البيئي، والشواطئ الصخريّة التي تتهادى عند أقدامها المياه الرقراقة، وهي تلوذ بحواف الجبال، ثم تندفع نحو الأخوار، على إيقاعات الأمواج الهادرة، وليس انتهاء بالمناطق المحيطة التي لا تقل جمالا، وروعة عنها، ولن أنسى الرحلة البحريّة، التي كانت ضمن البرنامج المقرّر، وفيها أمضينا وقتا ممتعا، على متن السفينة البحرية السلطانية العمانية، التي كانت تشقّ الأمواج، وعلى جوانبها تتراقص الدلافين، حتى بلغنا محطّتنا الأخيرة، مضيق هرمز، أحد أهمّ الممرّات المائية في العالم، لم يكن الوصول إلى المضيق المحاط بالجبال، والصخور، بالأمر اليسير، لصخب الأمواج، وتعرّجات الطريق البحري، الذي يمرّ بالعديد من الجزر، ومن بينها جزيرة «أمّ الغنم» التي اكتسبت تسميتها من كونها كانت مرعى للأغنام في الجزيرة المعزولة الآمنة البعيدة عن هجمات الحيوانات المفترسة، ولاحت لنا جزيرة «سلّامة وبناتها» التي ارتبطت بحكايات شعبيّة تتحدّث عن (سلامة) التي تبحث عن أزواج لبناتها، الساكنات في قاع البحر، فتقوم باختطاف البحّارة، كما ورد في المتن الحكائي، الخرافي، لكنّ ألسنة الوقائع تقول كلاما آخر، فبلوغ الجزيرة يعني فرحة كبيرة للبحّارة، لأنها بشارة خير تعني وصولهم منطقة الأمان، و(سلامة) العودة، فتزول الشدّة، وابتعادهم عن كلّ ما يخبئ البحر من أخطار، فكثيرا ما يواجه البحّارة مثل هذه الأخطار، حتى أن المخيلة نسجت حكايات عديدة من بينها حكاية (بابا دريا) أي: أبو البحر التي تقول إنّ هذا الكائن الخرافي يخرج للبحارة في عرض البحر، محاولا إمساكهم، واعتاد البحّارة، كما ورد في الحكاية، أن يربطوا حبلا حول خصورهم، فإذا كان قويًا فإن بابا دريا سيتمكن من سحب البحّار إلى الماء، أمّا إذا كان الحبل ضعيفا، فإنه ينقطع، فينجو، في تلك الرحلة، لم أشعر أننا في مضيق، بل في مكان يتّسع، وكنّا كلّما نتوغّل به، ينفتح على عوالم مضمّخة بالدهشة، فانثالت الرؤى، والتساؤلات:

زهرة الرؤيا التي روّيتُها

من عروقي

مطرَ الضوءِ الوريقْ

كيف جفّتْ

وذوتْ

وانقبضتْ

زمنًا

واتّسعتْ

عند (المضيق)؟

ومسندم ليست فقط جغرافيا آسرة، بل تاريخ موغل في القدم، في نوفمبر 2013 أعلن عن العثور على كتابة مسمارية تعود لحضارة بلاد الرافدين، وكانت الأولى من نوعها التي تكتشف خلال التنقيبات الأثريّة التي قامت بها وزارة التراث والسياحة في موقع الدير بمسندم، وجاءت لتؤكد وجود تواصل، وتبادل تجاري، وهجرات قديمة، وصلات عميقة الجذور بين شعوب منطقة الخليج منذ فجر التاريخ

وخلال مشاركتي بمهرجان الشعر العماني في دورته (الحادية عشرة)، الذي أقيم في الفترة من 16 وحتى 20 من ديسمبر 2018 تجدّدت عرى المودة، التي لم تفصمها الجائحة، واليوم في زيارتي لمسندم برفقة د.محمود السليمي، رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي، والكاتبة أزهار أحمد مديرة النادي، للقاء مسؤولي المؤسسات الثقافية، ومثقفي المحافظة، وفرع النادي، ومتابعة أعماله، لتنسيق الجهود في مرحلة تتطلب وقفة من الجميع.

لقد استرجعت تلك التفاصيل، رغم أن المكان حصلت به تغييرات عمرانية، لكنها ظلّت محفورة، وستظلّ مع حالة التطوير التي تشهدها المحافظة.

وإذا كانت حكاية ( بابا دريا) الخرافية، تقول بأنّ (أبا البحر) لا يظهر للشخص سوى مرّة واحدة في حياته، فإذا نجا البحار منه فإنه لا يعود إليه مرة أخرى، لكنني عدت مرّات أخرى إلى (مسندم)، فمن يمرّ بها سيجد نفسه مشدودا بحبال خفية إليها، مأخوذا بجمال صخورها، وجبالها، ومياهها، وحكاياتها، ورقصات دلافينها التي تؤديها بانتشاء.