نوافذ: ورقات تتساقط

14 مايو 2021
14 مايو 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

يشتكي لي أحدهم بأنه يكمل عقده الثالث، ويرى ما أنجزه خلال الـ(30) سنة الماضية لا يثير فيه الدهشة، أو يرى فيه ذلك الإنجاز الذي يستحق، وأن خسارة العمر التي مرت لم تعوض له ما يحس في دواخله أنه يوازي هذا المعترك العمري، ويعقد مقارنة ميكانيكية في حالة أكرمه الله بمدة توازي نفس الفترة ووصل الـ(60) فماذا عساه أن يفعل في هذه المدة المتبقية المقدرة بـ(30) سنة الأخرى، مع أن الوصول إلى عمر الستين هو وصول فوق أنه محفوف بالمخاطر أكثر من سابقه إلا أنه كحال من يصل إلى خط النهاية في سباقات الجري المعروفة، يحتاج إلى لحظات لاستنشاق الأنفاس، فقد تداعت كل مقومات القوة، ولم يبق له سوى هذا اللهاث المتزاحم والمتدفق.

يقع؛ أغلبنا إن لم يكن الكل في فهم مرتبك بخصوص المنجز العمري، في العمر المتاح لكل فرد على حدة، هذا الفهم المرتبك، يتموضع حول الذات الآمنة بأن سنوات العمر طويلة، ويمكن إنجاز الكثير فيها، فمن تدور على مخيلته الـ(60) سنة، تتضخم عنده القناعة، بأن هذه سنوات ضخمة، وأنه يمكن أن تتيح الفرص الكثيرة للإنجاز، وبذلك يبدأ بالمنجز الـ «مقسط» حيث يقسم المدة التي تتراء له في أفق الذاكرة على ما يود إنجازه: إكمال تعليم، الحصول على وظيفة؛ إنشاء مسكن، زواج؛ إنجاب أبناء، ويضع لذلك مددا زمنية عبر متتالية هندسية، حيث يكون حدها الأول «المرجع» هو الفرد الذي يعمل على تتالي المنجزات الواحدة تلو الأخرى، ويكون حدها الثاني، هو مجموعة المتغيرات «المنجزات» حتى الوصول إلى التحقق الكامل، كما يفكر كل واحد منا، وهو وجود كل ما خططنا له لتحقيقه في سنوات العمر الـ(60) المتوقعة، هذا تصور للحالة العمرية لكل منا، استحضرناها عبر ورقة وقلم في معادلات حسابية، أو أوكلنا أمر متابعتها على الذاكرة، فهي هكذا بترتيباتها الممكنة.

ولكن الذي يحدث، وعبر تجربة عمرية شخصية مشابهة، أن المسألة لا تسير وفق هذه المتتالية الهندسية، وأن مشروعاتنا الإنسانية في هذه الحياة لا تسمح لتحقيقها بأي انفصال زمني محدد، فهي تنشأ شبه مجتمعة تقريبا وإن حصل هناك تفاوت زمني بسيط، فأغلبنا: يدرس، ويعمل، ويعمل ويتزوج، وفي خضم الزواج ينجب أطفالا، ويبني مسكنا، وقد ينشئ أرضا يزرعها، ويشتري مركبة، وقد يبادل بين المركبات؛ صغيرها وكبيرها، ويقيم مشاريع استثمارية متعددة، إن لم يكتف بوظيفة واحدة، ويقيم علاقات من الود، ومن المصالح، وقد يدخل في معارك شخصية، ومعارك اجتماعية، وقد يورط نفسه في معارك سياسية، وقد يسافر ويعدد أسفاره.

يحدث كل هذا في الفترة الزمنية المتاحة من عمر الـ(60) سنة، دون أن تكون هناك فترات زمنية منفصلة لكل منجز من هذه المنجزات، وطبعا يتفاوت الأفراد في حجم المنجزات وتعددها خلال هذه الفترة، وهناك من يفشل فشلا ذريعا، ولا يذهن إلا وهو أمام (حافة) هذا المارد الزمني الضخم الـ(60) سنة، كما كان الخوف الذي انتابه عندما وصل الـ(30) سنة، وهو لم ينجز ما كان يتوقعه، فارتبك حينها، وعدها سنوات عجاف، وإن خالطتها الفتوة والصبا واللهو واللعب، فلم يشعر بوطأتها وبحملها الثقيل، ولكن مع ذلك تركت أثرا شعوريا مغلفا بشيء من الحزن والأسى.

لن نختلف حول تسمية العمر على أنه مشروع يحتمل كل المسميات، وأن هذا المشروع يحتاج إلى كثير من الانتباه، ولكن مشكلة هذا المشروع أنه يخضع لشرط تراكمي شديد القسوة، وأن هذه التراكمية هي العصا السحرية التي لا ينتبه إليها إلا بعد فوات الأوان، ومشكلتها أيضا أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمنجز الزمني، فالواحد منا لا يستطيع أن يفكر بعمر الأربعين إلا لما يصل إلى هذا العمر، ولا بعمر الستين إلا لما ينجز الستين سنة أولا، وأن المنجزات الفردية لا تنفصل عن هذا الاستحقاق الزمني المشروط، ولذلك عندما نكون في عمر ما، ندرك مجموعة الأخطاء التي وقعنا فيها، وندرك مجموعة الخسائر التي خسرناها.