نوافذ: لقد دخل بيتنا !

20 يونيو 2021
20 يونيو 2021

هدى حمد -

كل الاحترازات لم تكن لتمنع الضيف الثقيل من دخول بيتنا كما دخل بيوتا أخرى، وبقدر ما كنا نصده بالمعقمات والتباعد والكمامات، بقدر ما تبدت شراسته وهو يخترق الزجاج والأبواب، مُشهرا أسلحته الفتاكة، مُبتدئا بالحُمى المستبدة والكُحة الصاخبة، وذلك الإنهاك الشديد والخمول الذي يشلُ الجسد. أمّا لو تسلط على جهازك التنفسي، فتلك قصة أخرى من العذابات. بقيتُ أطارده لعدّة أيام بالمنظفات والأدوية والوصفات المنزلية، ولكن عدوي الجبان الذي لا يُرى، ظل يحيكُ مؤامراته، ويُشيد مستعمراته مُتنقلا بين أجساد الكبار والأطفال لعدّة ليالٍ.

شعر ابني الصغير - والذي دخل عامه الثالث في هذا الظرف الحرج- أنّه منبوذ، لأنّ أحدا منا لم ينحن ليقبله أو ليحضنه. كان أصغر من أن يعي المفردة التي تتكرر حوله كل يوم بصيغ مختلفة، حتى أنّه في فترة ما كان يفر من أمامنا وهو يصرخ «كورونا.. كورونا»، وكشأن أطفال العالم كان عاجزا عن تصديق رفضنا ذهابه للمراكز التجارية أو الحديقة، بسبب مفردة «الحظر». الأمر الذي دفعني لأفكر في كل التحولات التي يُكابدها أطفال اليوم، المحشورون في الغرف الإسمنتية، والذين تقل خياراتهم يوما بعد آخر. لقد بدا لي أنّ أطفال «البلادين» أكثر حظا بمزارعهم الشاسعة، وخفقان الماء في أفلاجهم، بينما يقبعُ أطفال الشقق المسقطية متسمرين قرب أجهزتهم البائسة!

يتجلى العجز في أبشع صوره، وأنت تضع الطعام لأحبتك على بعض أمتار، غير قادر على أن تضع يديك على جباههم، لتطمئن على درجة حرارتهم. غير مستوعب الوقت الذي يمر ببطء شديد، في انتظار أن تعود الحياة لما كانت عليه. تسمحُ أكثر الأمراض شراسة للمريض بأن يحظى ببعضٍ من الرفقة والدعم النفسي.. من يشدُّ على يديه ويمسحُ على جبينه، تلك المؤازرة الرقيقة التي تسبقُ مغادرة الحياة. أتخيلُ الآن الأوقات الصعبة التي كابدها من ينتظر نهايته دون حُضن أو قُبلة، دون أن يتبين هيئات أقربائه إلا من وراء الزجاج العازل في أفضل الأحوال، أو عبر سماعة هاتف إن ساعده جهازه التنفسي على هذا الترف. الأطباء والممرضات يمضون على عجل، دون التفاتات كافية لهذا المُودِع للحياة، ومن عساه يلومهم وهنالك عشرات المهام في انتظارهم!

أتذكرُ حسرة البعض لمجرد أنّهم لم يُغسلوا جثمان أحبتهم، ولم يحظوا بتلك الملامسة الأخيرة، والتي كانت ستعني شيئا ما، وكأنّ كورونا الهمجي، يشطبُ البشر من الحياة ومن لائحة الذكريات، فنغدو غير مصدقين رحيل أحدهم، لأنّه كان مخفيا عنا، معزولا ومتواريا، وكأننا في كابوس سنصحو منه بعد حين. أتذكر ما كتبه إبراهيم العريس في إحدى مقالاته المهمة عن رواية «موت في البندقية»، حيث تفشى الوباء وتزاحمت الجنازات في الشوارع قائلا: «أترى أفلسنا، وقد راحت الحياة مرّة أخرى تقلّد الفن بدلا من أن تترك الفن يُقلدها؟».

نحن نتوق لحياة هادئة كما قال الشاعر البريطاني بايرون «أشكُ أحيانا إن كانت حياة هادئة وغير هائجة ستناسبني، ومع ذلك أتوق إليها»، ولكن ليس لذلك الانفصال القسري والمؤلم عن الحياة. نحن نتوق لعزلة «هانتا» الصاخبة جدا، حيث قضى 35 سنة من حياته لا يفعل شيئا سوى إتلاف الكتب في مستودع قديم، مستمدا سلطته من قراءة وتدوين المقاطع التي تعجبه قبل عملية الإتلاف، لكن عزلة «هانتا» كانت اختيارية، بينما عزلتنا يتحكم بها كائن بالغ الضآلة، لا يرى إلا عبر مجهر مخبري. «إيجر» أيضا في رواية «حياة كاملة» كان يُقدر عزلته بعذوبة نادرة كما يُقدرُ حزنه الصافي، بينما العالم يغرق في تحولاته الكثيفة، دون امتعاضٍ من المدينة التي قوّضت أحلامه، ولكن أكثر ما يؤلم هو أنّ «إيجر» رغم خساراته المتتابعة، لم يكن يُظهر لوما أو حسرة، وإنما يُظهر تصالحه البارد مع الحياة، وكأنما النقمة في حد ذاتها تضيعا للوقت!

ولا أدري كيف يمكن أن نتحلى بالقدرة على عدم لوم الحياة على ما نحن فيه الآن من فنتازيا، حيث ينتصف العام الثاني مع فيروس غيّر حياتنا وعاداتنا، وأظهر عجزنا وتواضع إمكانياتنا.. أرجو فقط أن نكون «كحبات الزيتون، التي تُعطي أفضل ما لديها عندما تُهرس»، أو كما قال الشاعر روبرت هايدن «الأشجار كما في فصول مضت/ سوف تنجو من أثقالها/ ورغم كسورها ستزهر».