نوافذ: عن «كورونا».. المرض والملل

19 يونيو 2021
19 يونيو 2021

سليمان المعمري -

كتب خوسيه ساراماجو مرةً: «لستُ مريضًا، كل ما في الأمر أن كل شيء يُتعبني ويُضجِرني». والحقيقة أن هذا هو أدق وصف للحالة التي يمكن أن تنتاب مريضًا بكورونا، مضى على إصابته عدة أيام، ويشعر في قرارة نفسه أنه تعدى مرحلة الخطر. إن هذا المريض يشعر بالإنهاك الدائم وكأنه واصلٌ للتو من سباق ماراثون بذل فيه مجهودًا كبيرًا، في حين أنه لم يفعل شيئًا طوال أيامه الماضية سوى النوم. هذا فيما يخص التعب، أما الضجر فناجمٌ عن الرتابة والتكرار والتشابه في أفعاله اليومية التي يمكن تلخيصها في ثلاثة أفعال: نام مُنهَكًا، استيقظ مُتعبًا، نام منهكًا من جديد.

«إن أكثر ما يجعلنا نشيب هو الملل»، ترد هذه الخلاصة في فيلم «الحياة الحلوة» لفيليني. والملل عدوّ لدود، مثله مثل المرض، فكيف إذا كان الثاني سببًا للأولّ!. لا يأتي الملل عادةً إلا من الوقت الرجراج الذي لا يمكن القبض عليه. قبل نحو عام، وفي عز الإغلاق المنزلي العام بسبب كورونا، كتبتُ أن الدرس الأول الذي يمكن أن نصل إليه من ذلك الإغلاق هو «الانتباه إلى قيمة الوقت القصير الذي نملكه، فهو أهم من الوقت الطويل الذي يحيط برقبة أيامنا كحبل ويحاول خنقها». قلت حينها: إن الوقت القصير مبارَكٌ لأنه واضحٌ وصادق، لا يكِلنا إلى الملل، ولا إلى الاتكالية، ويجعلنا نركِّز فيما نود إنجازه خلاله، على عكس الوقت الطويل الذي هو «مخاتِل، مخادع، ثعلب ماكر مجبول على اللف والدوران، صحراء شاسعة شديدة الحرارة تنظر منها وأنت حافٍ إلى آخر الأفق بحثًا عن ظل شجرة، أو كوخ صغير يقيك الشمس الحارقة، بلا جدوى».

اليوم أنا أنظر إلى هذا «التنظير» وأبتسم سخريةً من نفسي. فلكي يجري مجرى التطبيق ينقصه شيء بسيط لكنه مهم: الصحة. أي أنه حتى الميزة الوحيدة التي يمكن أن يدّعيها مريض كورونا، وهي فائض الوقت لديه بسبب الحجْر، لا يستطيع الاستفادة منها. لأن الإنهاك أقوى من أي شيء آخر، وكلما نام المرء لينسى الهشاشة التي يشعر بها في عظامه، شعر بها أكثر، وازداد رغبة بالنوم من جديد.

على أن البحث عن «لا ملل» في وقت المرض هو ترفٌ زائد عن الحاجة، إذا ما علمتَ أنك – بصفتك مريض كورونا محجورًا في بيتك - في اللحظة التي تصارع فيها الملل، يصارع غيرك الموت في غرفة العناية الفائقة بالمستشفى، رغم أن مرضكما واحد. تذكّر فقط أن الله قد لطف بك ولم يعرضك لما تعرض له غيرك. تذكر وأنت تتنفس بشكل متعب، ولكن منتظِم، أنه في اللحظة نفسها، ثمة رجل عجوز أشيب الرأس، ليس بسبب الملل، يجاهد الآلات ليتنفس، أو فتى في مقتبل العمر تنمل جسده من النوم لمدة أسبوعين، أو امرأة لما تصل الأربعين بعد، تكافح من أجل البقاء على قيد الحياة. لذا فإن تلك العبارة التي قالها لك صديق وأنت تعزيه بوفاة عمه الذي مات هذا الأسبوع بكورونا هي التي تستحق التأمل، وتستأهل أن تبقى ترن في أذنيك طويلا: «لا يعرف معنى كورونا مَنْ لَمْ يُصَبْ به، ولا معنى الفقد بسببه مَنْ لم يفقد عزيزًا بكورونا».

بيد أن تأملنا في حيوات الآخرين، وصبرهم على المرض، وكفاحهم ضد الملل، هو الذي يملأنا بطاقة إيجابية، ويجعلنا نرى مكامن القوة فينا. في هذه النقطة يكمن إعجابي بأحمد بوعناني، الروائي والسينمائي المغربي، الذي قضى ستة أشهر كاملة في العزل الصحي بمستشفى مولاي يوسف في الرباط بعد إصابته بداء السلّ عام 1967. من ذلك المعتزل بعث برسالة مؤثرة لزوجته يخبرها فيها أن «للملل سيقانًا طويلة، طويلة وباردة، ورأسًا وحشيًّا». تلك الأشهر الستة هي التي ألهمت بوعناني كتابة رواية جميلة بالفرنسية اسمها «المستشفى» (ترجمها إلى العربية محمد الخضيري وصدرت عن دار الكتاب)، تحدث فيها عن تلك الفترة العصيبة من حياته، متوسعًا في الحكي لا عن مرضه فقط، وإنما سرد حكايات رفاقه المرضى كنماذج من المجتمع المغربي ناقلًا حكاياتهم وتأملاتهم، وأحزانهم. لكن متى حدث ذلك؟. متى كتب بوعناني «المستشفى»؟ بعد سنوات طويلة من خروجه من المستشفى، أي بعد انتصاره على كلا العدوّين معًا؛ المرض، والملل. وهذا هو بيت القصيد.