نوافذ : المنحنى السلوكي ..

07 مايو 2021
07 مايو 2021

في فترة زمنية، إبان ما كنت صحفيا في جريدة عمان، كلفت بمهمة عمل إلى جزيرة مصيرة، بمحافظة جنوب الشرقية، وأثناء تجوالي بصحبة الزميل المصور سالم المحاربي؛ في الصباح الباكر؛ مررنا على الشاطئ حيث يهب الصيادون العائدون من رحلة صيدهم المعتادة في إنزالهم حمولة قواربهم، وهناك على الضفاف تقف مجموعة السيارات المخصصة لنقل ما حملته قوارب الصيادين، إلى هنا والمسألة عادية جدا، ولكن ما هو غير عادي أن من التقينا بهم من أبناء هذه الجزيرة في ذات الموقع، كانوا يحملون شكوى ضمنية – ليست ضد أحد من الصيادين – ولكن لما آل إليه حال معظم الصيادين الذين كانوا يخصصون جزءا من صيدهم للسكان قبل زمن قريب، فيما يسمى بـ "تحلية" ومعناها تخصيص جزء من السمك، وتوزيعه على بعض السكان، وهو جزء بسيط جدا، يستفيد منه الكثير من سكان الجزيرة، ويعفيهم من مغبة ركوب البحر للبحث عن حاجتهم اليومية البسيطة، وعلل هؤلاء؛ أنه مع دخول شركات الاستثمار في مجال الصيد في الجزيرة اختفت هذه العادة، وأصبح الجميع أمام سوق فيه بيع وشراء، بمعنى آخر أنهم دخلوا في مفهوم الرأسمالية التي تتقصى كل ما كان مشتركا بين الناس، سواء أكان على شكل هبة، أو مبادلة، أو صدقة، وأصبح الحال خاضع لمسألة الربح والخسارة، وهذا الحال يتوغل في كل مفاصل الحياة اليومية، وأصبح مسلما له بكل تكلفته المادية والمعنوية على حد سواء، وتأتي الأجيال اليوم لتجده حقيقة ممارسة، دون أن تعي أن هذا الواقع لم يكن بهذه الصورة قبل زمن قريب، وأن الناس كانوا كفلاء بعضهم لبعض، إلى درجة النسيان إن كانت هناك أرصدة مادية تحدد مكانة أحدهم عن الآخر.

وإذا كان التكافل في وقت ما، كان كميّ الممارسة والتنوع، فقد استبدل الآن بصور الرأسمالية التي لا تؤمن إلا بمعيار القيمة، وليس بمعيار الاشتراكية، وإن هناك من يحاول أن يظل على قيم العادات في هذا الشأن إلا أن محاولاته تظل نسبية، ومؤقتة، ولن تستمر طويلا، فقد تسلم أمرها لهذا المارد الضخم الذي تمثله الرأسمالية، وسيبقى في الميدان المكافح والمناضل هو ما ينضم تحت المسألة الدينية بحوافزها الغنية، وهي المرتبطة بتعاليم الله عز وجل، ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه مسألة أيضا؛ ليس يسيرا استيعابها بصورة مباشرة، حيث تحتاج إلى كثير من الاستعداد الذهني والنفسي، وعقد المقارنات بين حياتي الدنيا والآخرة، وإلا فكيف ستجد فردا ما سوف يخرج زكاة ماله، أو يتبرع بمشروع يكلفه مئات الآلاف من الريالات، هكذا بطيب خاطر.

"المنحنى السلوكي .." مشروع أخلاقي قديم بقدم البشرية، تأسس منذ ذلك الزمن البعيد، ولا يزال؛ حتى يومنا هذا؛ يشهد الكثير من التعديل، والتبديل، والتغيير، وهل سيعود إلى مربعه الأول؟ يقينا لن يعود، وكل ذلك خاضع لظروف العصر، وتعدد الأدوات التي يستخدمها الإنسان في كل عصر، ومدى استيعابه لتوجهات هذا المنحنى ومآلاته المتقصية كل صغيرة وكبيرة في حياة أبناء المجتمع الإنساني، ولا أخص مجتمعا دون آخر، وإنما كل فرد يعيش على هذه البسيطة المترامية الأطراف، ومسألة من هو الصائب، ومن هو المخطئ، ليس سهلا حسمها بجرة قلم، أو بلفظة كلمة، لأنه في كلا الجانبين هناك ممارسات من الأفعال والسلوكيات، ومن القبول والرفض، ومن المناقشات والمجادلات، ومن تجارب الخطأ والصواب، ولعلنا نعيش الكثير من الممارسات في سلوكيات أبنائنا التي تذهب هذا المذهب، بخلاف ما نؤمن به نحن، وهكذا تتوالى الأجيال في اعتناقهم لكثير من الممارسات السلوكية التي يؤمنون بها، والتي تعبر عن عصرهم الذي يكونون فيه، وهذه سنة الله في خلقه، وأجزم أن من هذه الناحية تأتي الحوافز الربانية ليقترب الناس أكثر من تشاركياتهم المختلفة.