كيف نكتب بالآلة الحاسبة؟

05 مايو 2021
نوافذ
05 مايو 2021

في عام ١٩٢٧ دخل الروائي البلجيكي جورج سيمونون قفصا زجاجيا، وجلس إلى طاولة كتابة وبدأ في النقر على الآلة الطابعة.

في هذا القفص الزجاجي، استغرق سيمونون في كتابة رواية مسلسلة من ستين حلقة لصالح إحدى الصحف، كان التحدي أن يتمكن من إنجاز الرواية في ثلاثة أيام لا غير، فقد كان يشاع عنه أن هناك من يكتب بالنيابة عنه.

كان من الصعب تصديق أن بإمكان شخص ما أن يكتب رواية في أحد عشر يوما، لكن هذا بالضبط ما كان سيمونون يفعله، كان يكتب بغزارة مذهلة، بحيث أنتج في حياته الإبداعية أكثر من أربعمائة رواية، وأكثر من ألف قصة قصيرة وتحقيق صحفي.

في كتاب عنوانه “رسائل مختومة بطابع المسرة” وهو عبارة عن مجموعة رسائل تمت بين جورج سيمونون والسينمائي الإيطالي الأبرز فريدريكو فيلليني، ورد في الرسالة الثانية من فيلليني إلى سيمونون هذه العبارة “حين نستحضر موهبتك التي لا حد لها، وقوة انضباطك للعمل الإبداعي التي تفوق كل قوة بشرية، نشعر في دخيلة أنفسنا بدهشة كبيرة، مثلما ينتابنا خجل كاسف لا ينقذنا منه إلا تذكر نبلك وشيمك الإنسانية الفاضلة”.

لم يكن فيلليني المبدع الوحيد المعجب بنتاج سيمونون، فلقد قال عنه أندريه جيد الروائي الفرنسي الحائز على نوبل ١٩٤٧، بأنه أعظم من كتب بالفرنسية في القرن العشرين. إذا نحن أمام روائي جاد، وإن لم تتصف كل رواياته بالجدية، فهذا الروائي كتب حوالي مائتي رواية بوليسية، بحبكة مكررة، وحوالي مائتي رواية جادة، وعميقة جدا، لها طابع فلسفي.

أمام عبارة فيلليني “ ينتابنا خجل كاسف” توقفت طويلا، وشعرت مثله بالخجل الكاسف أمام سيمونون، ليس لأنه كاتب غزير، بل لأنه كاتب منضبط في المقام الأول، يجلس يوميا- لم يخل بهذا الالتزام يوما- على طاولة الكتابة من الساعة الرابعة فجرا حتى السادسة مساء، لينتج حوالي ٦٠- ٨٠ صفحة، بمعدل يفوق عشرين ألف كلمة في اليوم.

أدرك بالطبع تفاوت القدرات بين البشر، وطرق التفكير والدوافع، لكنني مع ذلك لجأت إلى الآلة الحاسبة وحسبت، ماذا لو أن المرء يكتب خمسمائة كلمة في اليوم، ولنقل لأربعة أيام في الأسبوع، فكان الحاصل أنه سيتمكن وفي سنة واحدة من انتاج رواية واحدة على الأقل.

سيطيب للبعض أن يصف هذه الكتابة أنها كتابة ميكانيكية، كتابة خالية من الإلهام، كتابة تهتم بالكم على حساب الكيف، كتابة تخلو من العمق والبعد المعرفي.

أنا شخصيا لا أؤمن بالإلهام، بل بالانضباط، فالإلهام كما قال فوكنر “ نسمع عنه ولا نراه”، أما تراكم الكم فبالإمكان اعتباره تدريبا دائما يصقل الموهبة، أما العمق ففي ظني أن هذه كلمة مائعة لا تعريف واضح وقار لها.

الكتابة مثلما هي موهبة فهي حرفة أيضا، تكتسب وتصقل بالتدريب الدائم وبالفشل أحيانا،وهي تحتاج أكثر ما تحتاج للانضباط والالتزام.

لذا من المهم أن يحدد الكاتب لنفسه روتينا محددا، يكرس فيه ساعات معينة للجلوس إلى طاولة الكتابة، وأن يلتزم بذلك بشكل يومي قدر الإمكان، أن يجلس كل يوم في انتظارها في ساعة محددة، وهي ستأتي، فكما قال جوزيف ساراماغو “شرط الكتابة الأول هو الجلوس ثم تأتي الكتابة”.