طفل جلاسكو الذي يحب أمه

22 يونيو 2021
22 يونيو 2021

أمل السعيدي

طالعتُ قبل أيام دورية بعنوان: «لو لم يكن هذا الجدار» في عدد خاص عن السجون والمعتقلات، وأماكن العزل للمضطربين نفسياً، إنها نشرة تحاول أن تفكر حول أماكن العزل هذه، ولماذا تمثل خيارنا الأول في إيداع من تسببوا بالإيذاء، كنتُ قد قرأتُ في وقت سابق، فصولاً من كتاب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو «المراقبة والمعاقبة» عن ولادة السجن، كما اعتاد فوكو أن يحفر في تاريخ بنى الأفكار، لكن هذه الدورية مختلفة، إذ أنها ومن يقفون وراءها مضادون للمؤسسة. فتحاول التماس مع ما تتبناه بطريقة مختلفة، فنشاهد فيها كتابة وأعمالاً فنية تسعى لتجسيد هذا الاختلاف، من حيث إنه مولود من الحاجة إليه، لقد دفعني ذلك للتفكير في الأشكال التي نقدم بها الفن اليوم، محاولين التملص مما طبعته السلطة بأنواعها والواقع المأساوي الذي نعيشه على إنتاجنا، دون أن ينجو من شروط هذا الواقع وحدوده.

الرواية التي أرغب في مشاركة انطباعي عنها، تعدُ تمثيلاً لما تدعو إليه، إنها رواية «شوجي بين» للكاتب دوغلاس ستيورات، والمترجمة حديثاً للغة العربية، عبر دار صفصافة والمترجم ميسرة صلاح الدين، إذ وفي الوقت الذي تعتبر فيه هذه الرواية نقداً حاداً لسياسات النيوليبرالية وتأثيرها المباشر على المجتمع، لا تقدم نفسها في طابع قابل للاستهلاك بوصفها قصة عادية، ولا تأخذ بالخيارات السهلة والمعبدة إذ توجه نقدها في رسالة واضحة لهذه السياسات، بل تقدمُ نفسها عبر بطء متوحش، نابذة بذلك السرعة والقابلية السريعة للاستخدام، فبقسوة نشهد تدهور امرأة جراء انفصالها عن زوجها وإدمانها للكحول، في غلاسكو واحدة من أكبر مدن اسكتلندا في ثمانينات القرن الماضي، بينما يقف بجانبها طفلها «شوجي» الذي يقابل هذا الانهيار الذي تمر به والدته بالحب وحده، والرغبة في الاحتواء، فرغم طفولته، لا يسخط شوجي ولا يملَّ من نزوات أمه، بل يكبر كل يوم ليحبها. لا أبالغ إن قلت إن الرواية ليست إلا هذه الحياة اليومية لهذه الأسرة الصغيرة، حتى أن ذلك دفعني للدهشة من خيار دار النشر ترجمة هذا الكتاب، الذي يعد جريئاً بمعايير السوق التي تحكمها ضوابط النيوليبرالية وارتكاساتها مجدداً.

يحدث هذا بينما تقرر مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك سياسات جديدة تقوض من الرعاية التي تقدمها الدولة لمواطنيها وتدعو لخصخصة كل القطاعات، فهي لا تؤمن بوجود المجتمع، وتقمع إضراب نقابات العمال بطريقة ضارية، حتى يصبح وضع جلاسكو كما هو في هذا العمل، مشهداً للفقر، والتفاوت الطبقي، وانعدام التكافؤ حتى في التعليم. فبالنسبة لتاتشر المجتمع هو ميدان للصراع التنافسي، والبقاء للأوفر حظاً، فتقول: «إنه من مهمتنا أن نمجّد اللامساواة وأن نحرص على إطلاق المواهب والقدرات وتحرير طاقاتها التعبيرية لصالح الجميع». تشرح هذا وتفصل فيه عالمة الاجتماع الأمريكية سوزان جورج، في كتاب لها بعنوان «تاريخ موجز للنيوليبرالية» إذ تقول أن مساهمات أبناء الأسر الثرية والقوية ستفيد الجميع، وأن الضعفاء لا يستحقون شيئاً من الدولة، ودعت لما أسمته «إطلاق سراح» نظام المنافسة. واسمحوا لي أن أقتبس من كتابة سوزان جورج «في بريطانيا قبل عهد تاتشر، كان حوالي شخص واحد من عشرة يصنّف على أنه يعيش تحت خط الفقر، لم يكن ذلك سجلّاً باهرًا لكنه مشرّف بالقياس لسائر الأمم وأفضل ممّا كان عليه الوضع قبل الحرب. والآن شخص واحد من أربعة، وطفل واحد من ثلاثة أطفال، معلنٌ عنه رسميًّا أنه فقير. هذا هو معنى البقاء للأقوى: الناس الذين لا يستطيعون تدفئة بيوتهم في الشتاء، المضطرون أن يضعوا قطعة معدنية في العدّاد قبل أن تكون لهم كهرباء ويكون لهم ماء، والذين لا يملكون معطفًا واقِيًا من المطر، إلخ. إني أستخدم هذه الأمثلة من تقرير العام ١٩٩٦ لـ«مجموعة العمل عن فقر الأطفال البريطانيين».

وفي سياق متصل، قدم الباحث والأكاديمي السعودي كتاباً عن النيوليبرالية «فخ النيوليبرالية في دول الخليج العربية، إنقاذ اقتصاد، أم إغراق مجتمع» مستحضراً سياسات دول الخليج التي وإن لم تكن تصرح باتجاهها نحو أدبيات النيوليبرالية التي تعني حرية السوق دون فرض أي ضوابط كانت من قبل الحكومة، تحت مبدأ «دعه يعمل، دعه يمر» القائم أساساً على خصخصة المشاريع العامة وخفض الضرائب على الشركات، بدعوى أن الاستثمار مثلاً سيجلب مزيداً من الوظائف والرفاه لأي مجتمع. إلا أن النتيجة وبحسب توصيف البريدي «طبقية جائرة» ضاربة بعرض الحائط العدالة الاجتماعية، ومساهمةً في مراكمة أصاحب رؤوس الأموال لأموالهم. والذي يؤدي إلى امحاء مظاهر التكافل الاجتماعي، ومن تجلياتها سوقنة وتسليع كل شيء. أدعو لنلتفت يميناً ويساراً بعد قراءة هذه الجملة، ألا نعيش في واقع استهلاكي، تزداد قبضته كلما مر الوقت؟ ألا يعد كل شيء اليوم سلعة؟ حتى علاقاتنا الإنسانية، التي نعتقد أن بالإمكان استبدالها عندما تبلى تماماً مثل المنتجات التجارية؟ كيف نحكم على الآخرين؟ من مظهرهم، مما يمتلكون، من الوظيفة التي يشغلونها، أو المؤسسة الأكاديمية التي تخرجوا منها، ألا نقرأ يومياً عشرات المنشورات، عن «كيف تسوق ذاتك؟» كيف تتجاوز الفقد بسرعة دون فترة حداد، لأن التوقف يعني عرقلة في ميدان التنافس فأماكنه محدودة، ألا يحوز فلان مكاناً فيه لأنه ابن عائلة وجيهة ليس إلا. مع تراجع مستوى التعليم العام مثلا في دول الخليج العربية، ألا يعد حظ أبناء الطبقات الثرية وفيراً، بتلقيهم التعليم في الخارج أو في المدارس الخاصة، مما يعني حجز كل الأماكن الشاغرة في ميدان التنافس ذاك للفئة نفسها، فيما يمكن أن نطلق عليه إعادة تدوير لتوزيع الثروة داخل الطبقة نفسها. عندما تتركنا الدولة أمام خيار الذهاب للقطاع الصحي الخاص، بسبب رداءة خدماتها، أو تأخرها، ألا يعدُ هذا أيضاً مثالاً على واقع تتوحش فيه رؤوس الأموال، ويزداد فيه الفقير فقراً.

يكبر شوجي، وجلاسكو تعاني مع أهلها، يمر اغتصاب أمه في الرواية كما لو أنه حادثة بديهية، يمكن استغلالها للحصول على المزيد من المال والكحول، اذ لا شيء يعد صادماً في مجتمع تفككت فيه علاقاته، والعدالة فيه، يجب أن تقوم وأن تصبح ثرياً مهما اقتضى الأمر، وإلا ستموت أو ستهرب إلى ما يجعلك تفقد كل شيء على الرغم من أنك حي بيولوجيا. كانت قراءة الرواية رحلة قاسية وشاقة، إلا أنها طبعت في قلبي مزيداً من التصميم لمعرفة أشياء كثيرة عما حدث أو سيحدث في المستقبل، متأملة في انهيار منظومات الصحة العالمية جراء جائحة كورونا داخل بلدان عرفنا عنها تقدمها، لكنها تركت خدماتها الصحية بيد القطاع الخاص وحده، دون أن تضبط تنظيماته. كم شوجي يعيش هذه المأساة مع أمه التي يحبها اليوم؟