البدو المعاصرون

04 مايو 2021
04 مايو 2021

تكتب أولغا توكارتشوك في "رحالة" عن الفرق بين المزارعين والبدو، إذ إن الشعوب المقيمة من أمثال المزارعين يفضلون "الزمن الدائري الذي فيه كل غرض وحدث يجب أن يعود إلى مبتدئه، يلتف ثانية على نفسه بصورة جنينية ويكرر عملية البلوغ والموت." أما البدو والتجار عندما كانوا ينطلقون في رحلاتهم، "كانوا بحاجة إلى ابتداع زمن يلائمهم، زمن يستجيب على نحو أفضل لاحتياجات أسفارهم. ذلك الزمن هو زمن خطي، عمليّ أكثر لأنه قادر على قياس التقدم صوب هدف أو وجهة، يزداد بنسب مئوية. كل لحظة متفردة؛ لا يمكن لأي لحظة أن تتكرر أبدا. هذه الفكرة تفضل المجازفة، عيش الحياة إلى أقصاها، اقتناص اليوم" هذا العمل الذي زاد الاهتمام بترجمته بعد فوز كاتبته بجائزة نوبل للأدب ٢٠١٨ سيصبح أكثر أهمية في ضوء الفيلم الذي حاز على جائزة الأوسكار هذا العام فيلم (NOMADLAND ) الذي يحمل الاسم نفسه، وإن جازفت بتعريبه ( رحالة) الذي يختلف مع مفارقة أولغا توكارتشوك التي بدأت بها هذه المقالة إذ إن هنالك بدواً رُحّلاً في أصقاع القارة الأمريكية ممن اضطرتهم الظروف للعيش داخل شاحناتهم الشخصية، فيما يبدو كالبيوت المتنقلة، وبهذا لا يوجد وجهة في معظم الوقت، الطريق هو الوسيلة والغاية معاً. القريب من الثقافة الأمريكية قد يظنها تقليعة جديدة مثل تلك التي نشأت في الستينيات مع تصاعد موجات "الهيبيز" في أمريكا، أو أشباه مجتمعات شبيهة بتلك التي عُرفت بأتباع أوشو و الذين صنعوا ديناً وطقوساً للسير وراء فكرة نبيهم الجديد، والذي أنتجت عنه نتفليكس مسلسلاً وثائقياً مثيراً " Wild Wild Country

عادة ما تقترب الأعمال الفنية من هذه المواقف الاجتماعية بوصفها جذابة ومثيرة للفضول في الخصوصية الحارة والواضحة التي تمتلكها هذه المجموعات الإنسانية في ظل عالم معولم ومتماثل! لكن سرعان ما تكتشف أن الفيلم يبحث في سرديته عما هو أهم من ذلك، إنه نقدٌ للسياسات الاقتصادية التي عمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ولم تترك للبسطاء ما يمكن أن يمنحهم الرعاية اللازمة بعد سنوات العمل الطويلة.

إن وجه التقاطع بين تلك المجموعات التي عُرفت بعيشها المقتصد والمتقشف وبعدها عن المدينة للمساحات الصحراوية المفتوحة، كنوع من إعلان الرفض للحياة المدينية بكل ما تمخض عنها، في أننا هنا في قصة هذا الفيلم أمام مجتمع كهذا، ملتقى هؤلاء الرحالة السنوي، الذي يشرف عليه بوب ويلز الذي يتبنى فلسلفة مناهضة للدولة بشكلها الحالي، حتى وإن لم يتم التصريح عن ذلك طوال الفيلم، تُخطف أنفاسنا عندما يقول إن هنالك عشر وصايا للتعامل مع إيقاف الشاحنة الشخصية في المواقف الليلية، ورقم عشرة هنا يخزنا إذ يبدو ترميزاً للوصايا العشر في المسيحية واليهودية، إلا أن الفيلم عموماً لا يتكئ على هذا النوع الرخيص من الترميز الذي يريد التملق للمشاهد وإشعاره بأنه قادر على اكتشاف شيء ما بعيد يُشار إليه بالرمز، ذلك أننا لن نستمع للوصايا ولا تبدو ذات أهمية في الإيقاع البطيء والذي يهتم بتمرير مشاهد للمساحات المفتوحة، تخترقها شاحنة البيت المتنقل.

الدور الذي تؤديه فرانسيس مكدورماند في هذا الفيلم يبدو وكعادة أدوارها، جزءاً عضوياً من روح الفيلم ومراميه، فمنذ اللحظة التي تُخرج فيه لسانها ممازحة لزميلتها في عملها المؤقت لصالح شركة أمازون، بينما كانت تردد قواعد الأمن والسلامة بكل سعادة في نوبة العمل الصباحية، دلالة على السخرية من الجدية المفرطة التي تصيبها بالحرج من هذا الفعل البسيط عند بداية يوم عمل. مروراً بالطريقة التي ترد بها على أمنيات الآخرين بأن يحظوا معها بوقت أطول، فعندما يقول لها أحد الذين تعرفت عليهم في ترحالها أن تذهب معه لمنزل أبنائه لأنه ينتظر حفيداً ولابد من العودة لسقف البيت، وكنا قد شعرنا بالانجذاب بينهما فإنها تقول: بالتأكيد سأزورك. رد مراوغ ليس هو الجواب على السؤال الذي طرح عليها للتو، تلقائية مكدروماند وتعابيرها، حتى علامات التقدم في السن تضفي عليها هالة من الحزن المتماسك، والذي غالباً ما يعينها على أداء أدوارها، إن الدور الذي لم يكن فيه الكثير من الكلام، يمكن أن نراه موازياً للسنين الطويلة التي تقضي على العمال تحت جور نظام غير عادل ومنحاز. تلعب فرانسيس مكدورماند دور "فيرن" أرملة تضطر لمغادرة سكن الشركة في نيفادا بعد أن أعلن واحد من أهم مصانع الجرانيت الإغلاق بسبب انخفاض الطلب عام ٢٠١١، وبعد وفاة زوجها بو الذي كان يعمل معها لصالح الشركة نفسها تجد "فيرن" نفسها مضطرة للعيش في شاحنة! لكنها ليست مشردة وقد وضع هذا الاعتراف رداً على ابنة قريبتها التي صادفتها في السوبر ماركت حداً فاصلاً مهماً بين نمط حياة الرحالة المقصود في هذا الفيلم وبين واقع حياة المشردين. تعتمد فيرن على الأعمال الموسمية في خط سيرها ومنها العمل الذي سبق وأن أشرت إليه في أمازون، والذي أثار حفيظة إدارة الشركة وعملائها، حول التعاقد مع العمال والأجور وظروف العمل في هذه الشركة الضخمة العابرة للقارات.

ثمة مشهد في الفيلم يجمع فيرن بزميلات لها يعشن نمط الرحالة هذا، يدخلن فيه لشركة تبيع شاحنات البيوت المتنقلة الحديثة، تدعي فيرن قيادة هذه الشاحنة الضخمة والواسعة جداً من الداخل على عكس شاحنتها في مشهد رغم عاديته يثير نداء حارقاً حول التفاوت الطبقي. الجدير بالذكر أن الشخصيات التي رافقت "فيرن" لم يكونوا ممثلين محترفين، بل ومثلوا أسماءهم نفسها حتى بوب ويلز، في سياق لتوثيق واقع حضور هذه الجماعة المترحلة اليوم.

على عكس أولغا توكارتشوك الرحالة هنا، لا يدورون في زمن خطي، بالعكس تماماً هم أشبه بالشعوب المقيمة، فكل ما فقدته يمكن أن تجده على الطريق، لا يوجد وداع نهائي، التقى صديق فيرن بابنه المنتحر في رحلاته المستمرة كما يظن. ويتداخل الناس مع بعضهم البعض دون حواجز، يعقدون الصداقات على الفور، أو يتحدثون عن أنفسهم، في مشهد رائع ستقرأ "فيرن" السونيتة رقم ١٨ لشكسبير والتي أدتها في يوم زفافها، لشاب صادفته للمرة الثانية في ترحالها، وكان قد جرب كل شيء ليحظى باهتمام محبوبته البعيدة، تسأله هل جربت الشعر؟ إن هذا المشهد يشبه السراخس التي تطفو فوق النهر أو فيرن تحملُ قنديلاً مضيئاً والدنيا مظلمة تقريباً، إنه شعر أيضاً، لكنه شعرية سينماتوغرافيا هذا الفيلم الرائع.

ببساطة يبدو هذا الفيلم مثل دعوة رقيقة تعد بإطلالة على واقع بالغ القسوة، إلا أن الإنسان يحاول التكيف معه، الإنسان القوي الذي يمكن أن يستعيد زمام السيطرة على انفلات العالم في الظلم والتهجير واستلاب حقوق الإنسان.