أماكن مهجورة

11 مايو 2021
11 مايو 2021

لا شك أن تجربة الهجر قاسية، لكن الشعور بها يبقى ذاتيًا، فيما تعد الأماكن المهجورة بمثابة أحد الأشياء التي يمكن أن تمثل تجربة شفاهية للدلالة على الهجر. أثار هذا الموضوع اهتمامي منذ سنوات، بدأتُ أنتبه لرصد الأماكن المهجورة في الأدب مع قراءة الرواية الأولى للكاتب الفلسطيني الموهوب محمود عمر والمعنونة بـ«سينما غزة» «ألقيت نظرة على واجهة السينما. لن يصدق أحد أن مكانًا خربًا كهذا يخبئ الأعاجيب. لا يهم ليلى معي ورأت ما رأيت» ص١١ و« - بدنا نعمل تقرير عن دور السينما بغزة قابلني عند سينما النصر / - لم تكن عندي معلومات كثيرة عن دور السينما في غزة. أحب الأفلام كثيرًا لكنني لم أحظ بفرصة لأكتشف مشاعري حيال السينما. المفردة في حد ذاتها غير مستعملة. وقعها غريب على أذني. دور السينما في غزة. أي دور وأي سينما؟» ص٢٥ سرعان ما نكتشف سينما النصر المهجورة، وببحث بسيط نعرف أن سينما النصر تعرضت للحرق من قبل الحركات الإسلامية في غزة عام ١٩٩٥م، ومن هذا المكان المهجور، يتغرب بطلنا، ويحبُ، ويؤلف مشهدية غزة التي تتصارع تحت قدميه. لقد بدأت بإدراك أن الأماكن المهجورة والقدرة على توثيقها من خلال الفن والأدب هو نوع من الثورة على التعميمات، وإيجاد تقاطع حقيقي مع المكونات الجوهرية لأي أمة.

فهذه الأماكن تعد بمثابة مسرح للكارثة، وقد استعرتُ هذا التعبير من زيبالد وإن كان قد استخدمه في سياق مختلف تمامًا، واعتبر هذا المسرح سجلًا للتجربة الحسية للناجين، فبدوري أعتبر الأماكن المهجورة المسرح نفسه للتجربة الحسية للسياقات التي أنتجت الحياة المعاشة التي نتحرك فيها اليوم.

مصطفى حجازي في كتابه «التخلف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور» يشرح تلك المقاربة المهمة التي تجعل الطبيعة في مقام الأم، أو العكس، فقسوة الطبيعة وما تحمله من هلاك في صوره المختلفة مثل الأوبئة والعواصف وغيرها هي استعارة للأم القاسية والنابذة، ويربط حجازي بين الشعور بانفلات الطبيعة وعدم القدرة على السيطرة عليها بإثارة «أكثر المخاوف طفلية بدائية» في لاوعي الإنسان، الخوف من هجر الأم والوحدة، هذه الصورة التي «تثير قلق الفناء» والتي لا يمكن أن يتم ضبطها خصوصًا لدى الأطفال الذين يتفجر لديهم الذعر الوجودي منذ تلك اللحظة.

وأريد شخصيًا تأمل هذه المقاربة، هل يمكن أن تثير الأماكن المهجورة نوعًا من هذه المشاعر والأفكار، إذن عندما يصبح وقعها مهدئًا هل يمكن أن نعتبر أن الإنسان قد تمكن من عقد هدنة مع أكثر مخاوفه طفليةً، وهي حالة ينطوي عليها الاستسلام الضمني للأم النابذة، إذن هي حالة من الإقرار بعدم استحقاق الإنسان لمصير أفضل من ذلك الذي يعيش فيه؟ صورة مضادة للنرجسية، والشعور بالتفوق، نقيضها الذي يتمثل في إدراك الضعف والفناء وقربهما؟ فلنعد قليلًا للأماكن المهجورة، في ديسمبر ٢٠١٤ كنتُ أستعد للتخرج من جامعة الكويت، وكنتُ أعد لمشروع التخرج فيلمًا سينمائيًا عن واحد من المباني المهمة في تاريخ الكويت الحديث وهو «بيت القرين» والذي انطلقت منه المقاومة الكويتية أثناء الغزو العراقي عام ١٩٩١م قد لا يصح اعتبار البيت مهجورًا، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه يمثل وجهة سياحية وتعليمية هامة بالنسبة للكويتين أولًا وزوار الكويت ثانيًا، وتقام العديد من احتفالات الأعياد الوطنية مقابل البيت في مساحة فارغة أمامه، إلا أنني وفي الأيام التي ذهبتُ فيها للبيت لم يكن فيه أحد عداي وزميلاتي في المشروع، وبينما كنتُ أركز نظري على آثار طلقات الرصاص على الجدران والأبواب وأتخيل تلك المعركة، فوجئتُ بتوقيعات لأصدقاء مع تواريخ حديثة على الجدران نفسها، محمد ومشاري ٢٠١١ مثلًا، حسمتُ أمري واعتبرتُ المكان مهجورًا، لكن لماذا نريد أن نترك هذا الأثر هناك، حتى في مكان يستدعي أوقاتًا مؤلمة وقاتلة في تاريخنا؟ كثيرًا ما تتحول الأماكن المهجورة إلى متاحف، وبهذا يعاد تأهيلها لتجربة جديدة تمامًا، لكن الأماكن المهجورة التي تهمني في هذه المقالة، تلك التي يمكن اعتبارها شواهد على عصرها، وقد لاقت من الإهمال والنبذ ما جعلها غير مرئية على الإطلاق، فلنأخذ تجربة زيبالد، الكاتب الألماني الذي اعتبر هزيمة ألمانيا في الحرب مستمرة، حتى بعد انتهاء الحرب بسبب ذلك الصمت الذي أحاط الخوض في الحديث والكتابة عن الحرب وتركتها، برع زيبالد في الكتابة عن الأماكن المهجورة ليس هذا فحسب، بل عُرف عنه في أوقات الفراغ خصوصًا بين المحاضرات التي يلقيها في الجامعة لطلبته أن يزور مصانع مهجورة ويلتقط لها صورًا. وقد رصد في أعماله الإيقاع داخل الأماكن المهجورة كعلامة على البؤس، أذكر أنني قرأت مقالة عن زيبالد لا أتذكر كاتبها الآن، كلما كان يقرأ لزيبالد شعر بأن الوفرة كانت سمة الحياة في وقت من الأوقات داخل كل مكان مهجور، زيبالد بارع في أن يريك أكثر من نقطة زمنية داخل كل مكان مهجور.

أحد الأماكن المهجورة التي تحظى باهتمام متعقبي هذه الأماكن حسب كتاب «الأماكن المهجورة» لريتشارد هابر هو «فندق DEL SALTO» في العاصمة الكولومبية، إذ كان ملتقى الأثرياء للاستجمام والابتعاد عن الصخب، بإطلالته الفريدة التي لا تضاهى يكتب عنه هابر«سطح البيت المبلط مكسو بعقود من الطحالب، ونبتت في المزاريب صفوف من الشتلات، وتزدهر على الشرفات الأشجار، والنوافذ مغطاة بأوساخ الطحالب الرطبة، يتأرجح الفندق على حافة هاوية ضبابية كما لو كان مستعدًا لإلقاء نفسه في هلاك الشلال المائي أسفله، مبنى مضطهد، ينسج عنه السكان المحليون قصص الأشباح».

ومع هذا الوصف الدقيق الذي ينبئ بعودة الطبيعة لما سُلب منها عنوة، نستطيع أن نرى الإمكانيات الكثيرة والمكثفة حول التغيير داخل مساحة مسورة، يبدو لي التلاقي مع هذا النوع من الهجر، شكلًا من الطقوس الروحانية، حتى أنني وبعدما صار هذا الموضوع والتأمل فيه هاجسًا بالنسبة لي، فكرتُ في بيوت الحجارة في قرية «القنوت» التي سكنت فيها عائلتي قبل النزول للقرى الساحلية، ما الذي يمكن أن نستنطق من تلك الأماكن من موقعنا الحضاري اليوم، أي شيء يمكن أن تمدنا به من سحر وقصص وفنون؟ إن الاختراق الذي يحدثه فينا لقاء المكان المهجور يشبه مطلع قصيدة أحبها لأليس ستيجر، بترجمة جميلة ليارا المصري تقول فيها: «أضعتُ ذلك المفتاحَ الذي أعطيتني إياه فلم أستطع فتح هذه الغرفة التي مضى عليها من الدهر ما مضى.

حتى أنني أضعتُ ذلك الحذاء الأحمر الذي أهديته لي! من الأفضل أن أبقى خارج الحكاية وأهيم متجولة، أدور ليل نهار، عارية القدمين، أطأُ النهر المتجمِّد، البركان، وألاحق الزمن الفضي.

تطير الكثير من الأشياء المعتمة بجانبي، أزيحها بخفة بحركة من يدي، ولا أُبقي لها أثرًا».