أماكن الحركة: بين الحواضر والضواحي

03 مايو 2021
03 مايو 2021

أصبحت رياضة المشي - مع مرور الوقت- جزءا من نظام حياة المجتمع العماني. و الملاحظ والمراقب، لن يحتاج إلى تركيز ليرى أن هناك شغفا كبيرا بالمشي، خاصة بعد النصائح الكثيرة التي تتوالى على الأسماع والأبصار والمتعلقة بأهمية المشي اليومي ودوره في القضاء على معظم الأمراض، والتقليل من مفعولها في الفتك وخاصة مرضي الضغط والسكر المنتشرين.

عليه فإن الحكومة وهي تخطط لمدن جديدة من المهم أن تخطط - كذلك - (وبصورة أساسية) لتهيئة مماش واسعة ومناسبة ومستقبلية. حيث نلاحظ اختلاطا واضحا بين ممرات ومعابر السيارات و بين الذين يبحثون عن مواطئ للمشي. يجب أن نعلم بأن المشي ليس هنا بغرض الترفيه، فمعظم من يمشون -أو نصفهم- يفعلون ذلك نتيجة وعي صحي جميل، وإلا فأي ترفيه سيحصل وأنت تمشي والسيارات تحيط بك من جميع الجوانب.

بل هناك من عليه أن يذهب بسيارته مسافة ليجد مكانا وبراحا صالحا للمشي! وعادة سيجده ممتلئا عن آخره بمتعطشي المشي الذين يزدادون وبمختلف الأعمار نساء ورجالا، حتى أن المرء يمكنه أن يقرأ من الآن ماذا سيكون عليه مستقبل هذه المماشي ( وخاصة البحرية) المحدودة المساحة، وما الذي ستكون عليه من زحمة كبيرة في المستقبل القريب. وإذا أراد أن يمارس رياضة الحركة بالدراجة فلن يجد مكانا بسهولة. فالحدائق لا تستقبل أصحاب الدراجات الهوائية، وهذا أمر طبيعي. لذلك يضطر إلى أن يغامر بشق طريق دراجته بين طرق السيارات. لذلك فإن وجود أرصفة مستقلة، خاصة وأن لدينا سيوحا كثيرة في عمان غير مستغلة كما يجب. فتوفير مثل هذه الأرصفة المستقلة العريضة التي تتمتع بهواء نقي لايختلط بهواء عوادم السيارات أصبح ملحا، إذا كنا نبحث عن صحة مجتمعية، تساهم - على المدى البعيد - حتى في تقليل الضغط على المستشفيات. فنحن نعلم -أشد العلم- ما للرياضة من مفعول سحري في صحة الإنسان وسلامته الجسدية والنفسية.

وطالما أن الحكومة تتجه حاليا إلى تنمية الولايات، فإنه من المهم أن تضع في الاعتبار هذا الجانب، نظرا لما تتمتع به هذه الولايات من طقس جميل وهواء نقي يمكن أن يكون موضوعا هندسيا مغريا لتخيل وابتكار بيئة صحية للمشي.

ومن يسافر في مدن العالم، سيرى كيف أن البلديات هناك تولي اهتماما شديدا بموضوع المشي. حيث يهيئون لرياضتي المشي والدراجات الهوائية أماكن مثالية للحركة.

وبالعودة إلى ذاكرة الحركة في ثقافتنا العمانية التقليدية، سنرى أن هناك اهتماما فطريا بهذا الأمر. فوجود مساحات محايدة في غاية الأهمية لممارسة الحركة وأنشطة العمل. وذلك حسب الأحجام والخصوصيات الجغرافية والطبيعية والنشاط البشري والزراعي الموجود في ذلك المكان، فمن المرافق الموجودة في ما يمكن تسميته أراضي (الرم)، نجد مداخل القرى، ساحات الاحتفالات كالأعياد والرزحات والمخارج والعزوة، ومراكيض النوق والأحصنة. وهناك كذلك أماكن الشريعة في الفلج، وأماكن أحواض السقاية التي تستخدم للسباحة(أو اللجن) وأماكن استخدام المحاصيل ( أماكن التجفيف) وأماكن التخزين والتبسيل، وأماكن للرحى والطحن وأماكن التنور، وقد يكون أكثر من تنور في القرية والبلدة وخاصة في مواسم التبسيل. إلى جانب فضاءت السبل. ناهيك عن الأماكن المحيطة بالاستحكامات العسكرية، مثل القلاع والحصون والأبراج والأسوار. وأماكن الأسواق والمحيطة بها والمساجد وأوقافها. هذا كله داخل محيط البلدة ومساحاتها الداخلية أو على حوافها القريبة وضمن حدودها، وإن كان بعضها خارج مناطق الزراعة ولكنه ضمن حدودها. وهي أماكن عامة للجميع لايمكن استغلالها من فرد واحد، أي أن الاستفادة منها جماعية.

لذلك فإن التفكير بإنشاء البيوت والشوارع لايجب أن يغفل عن إيجاد بدائل لهذه الحركة التي اعتاد عليها المجتمع وخطها لنفسه على مر الأجيال والحقب. إلى الدرجة أنه كان باستطاعة القروي أن يمشي في دروب القرية في الظلام الدامس من غير أن يخاف غدر الطريق، وذلك لأن الطريق ليس هامشا يتطلب الرؤية والالتفات، إنما هو جوهر مكنون. وليس هكذا الأمر في شوارع الحواضر المخترقة بالسيارات، حيث سيتحرك الماشي على هامش ما توفره هذه السيارات من أرصفة جانبية.

الحاجة مهمة إلى مساحات يملكها الجميع و يشترك فيها الجميع، من مشاعات المدينة كالشوارع والساحات والأرصفة والحدائق. كما كان يشعر الفرد، كل فرد في القرية العمانية، أنه يمتلك شيئا من الرم، وأنه حين يمشي عليه فهو يضع خطوته على شيء يخصه، شيء منه، شيء يذهب إليه ويعود منه.

وإذا كانت مسقط - فيما سبق - قد خططت ( في الأغلب) لمراعاة شوارع السيارات والبيوت والمرافق العديدة، ونتيجة لتنامي الوعي الصحي وضروراته، فإن هذا التخطيط المقبل سواء للمناطق الحضرية أو للضواحي، من الجيد أن يكون تعميم المماشي الصحية هو ما تتجه إليه الحكومة حاليا- و أن يراعي في كل تخطيط جديد -البحث عن أماكن للمشي والحركة وتبديد الطاقات، وإلا فإننا سنواجه تحديات صحية كثيرة ( جسدية ونفسية) تخنق حتى وعي المجتمع الذي يشهد تطورا واسترفادا عالميا، فبالحديث مثلا عن الوعي الصحي، فقد شهد طفرة كبيرة، وفي السابق، فإن الناس كانوا يحجمون عن المشي، وارتداء الملابس الرياضية، أما الآن فإنك ترى حتى كبار السن يرتدون (شورت الرياضة) بدون ارتباك. ولكن بالمقابل تراهم يبحثون عن مكان ليمارسوا فيه هذه الراضية الصحية، ولايجدون ذلك إلا في زحمة السيارات. كما أن البيوت العصرية أصبحت تصغر مع الوقت، لذلك كان من الأهمية الكبيرة إيجاد أماكن للنشاط البشري تتحرك فيها الأجساد خارج السيارات، وبعيدا عن أجهزة التكييف. فالجو في عمان معتدل شتاء وبذلك يغري بالمشي، كما أن البحر يجذب الناس إليه صيفا. ومع التنامي الديموغرافي وتحضر المجتمع سنرى هذه الشواطئ مزدحمة بصورة كبيرة، لذلك من المهم كذلك توسيعها وتذليل كل العقبات لتنمية الشواطئ العامة التي لا تقطعها المشاريع الخاصة، في سياق إعادة تصحيح تستجيب لمتطلبات وشروط المرحلة الآنية والمستقبلية.