دمشـق مسـتهدفـة لأنـها ملتـقـى الحضـارات.. لكنـها سـتنتصـر -
الروائية السورية كوليت الخوري:-
حاورها في دمشق : عاصم الشيدي -
عندما رأيت الشاعرة والروائية السورية كوليت الخوري للمرة الأولى في دمشق الأسبوع الماضي قلت في نفسي هذه امرأة تشبه دمشق . كانت تسير بشموخ يشبه شموخ دمشق وعنفوانها، وجبلها العتيد «قاسيون» ورغم أنها أكملت ثمانية عقود من عمرها إلا أنها ما زالت صبية تختال بجمالها. وعندما جلست أتحدث معها في بهو فندق الشام وسط دمشق قالت أكثر من مرة «أنا الشام». وعندما عدت لأبحث أكثر عن هذه التي تحمل الشام في قلبها ويجري نهر «بردى» في دمها وجدت نصا قصيرا كتبه الشاعر الجميل نزار قباني في كوليت يقول فيه:
«هل صادفك أن تعرفت إلى امرأة، هي مدينة؟
أنا متعلق بكوليت لأن كوليت تشبه دمشق!
لا تستغرب، كوليت بالنسبة لي هي، دمشق».
وليس نزار قباني وحده من يتغزل في كوليت، بل كوليت نفسها بعد كل هذه العقود تعترف صراحة أنها كانت مجنونة بحب نزار قباني وكانت في طريقها للزواج منه.. وعندما لم يتم مشروع الزواج وقعت في حب الشاعر عمر أبو ريشة فيما كان سعيد عقل «يغزلها بحروفه جنة على اجنح الطير، ويكتبها مدينة امرأة ملكة توجها الحب».. وربما تصدر كوليت قريبا سجل المراسلات بينها وبين نزار قباني.
لمّا طلبت منها أن نجري حوارا لصالح جريدة «عمان» ، قالت: منذ مدة طويلة لم أتحدث للصحافة، ولم أظهر على شاشات التلفزيون ولكن إذا كان الأمر يتعلق بعُمان فليس في وسعي أن أعتذر. وبدأت كوليت متدفقة رغم العقود الثمانية التي تحملها فكرا وإبداعا وكتابة تاريخية.
نظرت في وجهها وكانت تبتسم وسألتها: بوصفك روائية وكاتبة في التاريخ وشاهد عيان.. ماذا حدث في سوريا؟
لم تبطئ الإجابة وقالت وكأنها ترد هجوما وقع عليها أو على شامها: في رأيي منذ بدء التاريخ كانت العين على دمشق، دمشق ابنة سوريا البكر، ودمشق مخولة للحديث باسم أمها، وأنا دمشقية ومخولة بالحديث عنها، دمشق مستهدفة، دمشق أكثر بلد حضاري في العالم، أنا لا أمدح دمشق أنا منها، دمشق مرت عبرها كل الحضارات، دمشق كانت المنطقة الوحيدة في طريق الحرير التي تمر عليها كل الأديان والثقافات، محاطة بجبال وفيها أنهر وخضير، وأي قافلة تمر تسكن في دمشق وكل قافلة كانت تحمل معها حضارتها وعاداتها وتقاليدها، واستطاعت هذه المدينة أن تخلط كل هذه الحضارات وتعمل منها حضارة واحدة.
واصلت كوليت اندفاعها في الحديث: دمشق البلد الوحيد الذي إذا استخدم كفعل دلّ على التنوير والحضارة، فعندما نقول «تدمشق»، أو أن دمشق «تُدمشق» ساكنيها فهذا يعني أنها تجعلهم حضاريين ومتنورين، فالتنوير والحضارة لا بد أن تعبر عبر دمشق.. تعبر دون أن تسأل سؤال الدين والمذهب السائد اليوم. والمعروف أنها مدينة تحتها سبع مدن وهذا دليل عراقة وحضارة طويلة جدا.
أما ماذا جرى فأعود وأقول لك: دمشق مستهدفة.
حاولوا أن يخلقوا بيننا فتن: مسلمين ومسيحيين ولم ينجحوا. ثم حطت الدول الكبرى عينها على دمشق على اعتبار أن تغيير النظام في دمشق سوف يسهل عليهم تغييره في بلدان كثيرة وتغيير صورة المنطقة. وعندما بدأت الأحداث الدموية في دمشق قالوا في وسائل الإعلام إنها الحرب، لكني احتججت عليهم وقلت هذه ليست حرب.. هذا عدوان كوني على سوريا، الحرب ليست كذلك.
صمتت كوليت برهة ثم قالت: أنا أعيش في حي صغير وغيرت زجاج بيتي أكثر من مرة مما يحدث، والآن توقفت عن تغييره ووضعت على النوافذ المكسورة قطع كرتون وعندما ينتهي كل هذا سوف أغير النوافذ.. كل يوم تسقط قذائف في حارتنا.. وأنا واثقة من النصر.. دمشق لا تفشل أبدا.
قلت لها مرة ثانية.. لكن ماذا جرى يا دكتورة كوليت؟
ماذا جرى؟ جرى أن هناك كانت معارضة بعضها مع الحكم وبعضها ليس مع الحكم اتفقوا وراحوا مع الأجنبي ـ لاحظ أنا لست حزبية واليسار يتهمني أنني رجعية برجوازية أنا مع الوطن يا أخي أنا مجبولة بهذا الوطن وبترابه أنا الشام ـ وكان بينهم من لديه طموحات غير طموحنا الوطني وأطماع في السلطة وراحوا لدى الأجنبي من يطمع ومن لا يطمع وأنا لا أتفق مع من يذهب للاتفاق مع الأجنبي أبدا. لكن كانت هناك نافذة مكسورة في هذا الوطن وخرجوا منها، خرجوا من هذه القلعة الحصينة وراحوا للأجنبي.
• إذن كيف استطاعوا أن يفتحوا تلك النافذة في قلعة حصينة كسوريا؟
كانوا مع الحكم.
• لكن هم أيضا سليلو هذه الحضارة العريقة.. أحدثك عن مواطنين سوريين؟
لا أعرف كيف يكونوا سليلي هذه الحضارة، يبدو أننا مررنا بمرحلة قلّت فيها التربية التي نحن تربينها والتعليم الذي تعلمناه والإيمان الذي نؤمن به، كانت مرحلة صعبة ونحن كنا نشعر أن ثمة خطأ يحدث.. لكن لم أتصور أن يحدث الأمر لهذا الأمر.
• ألا تؤمنين بالمعارضة؟
بل أؤمن. المعارضة موقف وطني حر ومطلوب ويجب أن يكون في كل بلد حضاري، ولكن المعارضة تحتج من أجل أصلاح البلد نحو الأفضل وليس من أجل الحصول على مناصب... المعارض ليس الذي يتفق مع أجنبي من أجل تدمير بلده.. «عيب». من خرج من سوريا من أجل حماية نفسه ليس في الأمر مشكلة ليسوا مضطرين للبقاء إذا اختلف الحزب، ولكن من ذهب من أجل أن يتفق مع الأجنبي فهؤلاء ليسوا معارضة ... أروح أتفق مع أجنبي من أجل تدمير بلدي!! «يا عيب الشوم».
جاءوا إلى ديجول في تلك الزمانات وقالوا له نريد أن نتخلص من سارتر فليس لديه إلا انتقاد البلد فقال لهم: دعوه يمارس مهنته.. مهنته أن ينتقد نحو الأفضل.
• منذ عرفنا سوريا ونحن نسمع أنها دولة علمانية.. كيف وصلت هذه التجربة «العلمانية» لتعيش حربا مذهبية بخطاب مذهبي؟
أنا لا أعترف بهذا، أنا أعترف بشيء اسمه أخلاق، علماني ديني أو أي شيء آخر لا بد أن يكون هناك أخلاق.. ونحن في سوريا مرينا بمرحلة فقدنا فيها الكثير من الأخلاق.. مرينا بمرحلة ضعف.
• إذن أنت ترين أن المشكلة هي مشكلة أخلاق وليست مشكلة بنيوية في بناء مؤسسات الدولة وفي خطابها؟
طبعا في المدارس وفي التعليم قبل كل شيء علينا أن ندرس الأخلاق، والتربية أم، التربية ليست رجلا بل أم، ونحن لم ننتبه للأمهات، الأمهات كانت تحتاج إلى إعداد، وبعض الأمهات التهت بالسياسة والأيديولوجيا، لا بأس ولكن في المقام الأول لا بد أن تكون المرأة أماً، والأم مدرسة للأخلاق، إن لم تكن أماً فهذا يعني أنها لا تصلح لشيء آخر.. السياسة شيء ثان تماما.
• كيف تنظرين إلى إبداعك في مثل هذه اللحظة التي تعيشها بلدك، ماذا استطاع أن يفعل في لحظة الحقيقة التي تمر بها سوريا؟
للأسف أنا لم يلتفت الأعلام إلى كتاباتي كثيرا، احتفى الإعلام بآخرين، ولكن ما أفخر به أن الجيل الجديد يقرأ لي كثيرا، وهذا أمر يفرحني كثيرا، إنهم يجدون فيها الأصالة والصدق رغم أن كتبي لم تحظ بأي دعايا، وفي الحقيقة لم يقف أحد إلى جانبي، كنت متهمة أنني برجوازية. ولكن وجود الشبيبة إلى جواري الآن يعطيني شعورا بالاطمئنان ويسعدني أن تعرف هذه الشبيبة آرائي وأنني مجبولة بحب هذا الوطن وبترابه، دون أن تهمني السياسة. وأقول بوضوح لا يهمني في الشخص إلى أي حزب ينتمي أو إلى أي مذهب ما يهمني أن يكون هذا الشخص يبني بلده أو يساهم في بنائه أم لا.
• في ظل ما يحدث اليوم هل نحن أمام أزمة مثقف عربي.. المثقف العربي يمكن أن يكون صوتا مسموعا في ظل ما يحدث في العالم العربي وهذا من ضمن مسؤوليته؟
المثقف العربي مسكين، هناك في العالم العربي كتّاب كبار لا أحد يعرفهم، بعضهم لجأ للسياسة حتى يصبح مشهورا ومعروفا، ليس على المثقف أن يصبح وزيرا حتى يعرفه الناس ويقرأوا له.. من وجهة نظري الأديب أهم من أي وزير، أريد من الناس أن تسمع صوت المثقف من أجل ثقافته وفكره لا من أجل منصبه.
نريد مثقفين يسندوا هذا البلد دون أن يكون الهدف أن يصبحوا أغنياء. وليس ضروريا أن يكون المثقف معارضا ويتحدث ضد بلده، أهم صفة في المثقف أن يكون وطنيا، فإذا لم يكن وطنيا فعلى الدنيا السلام.
• هل يعول اليوم على المثقف العربي في إعادة المجتمع؟
والله، المثقف صدى للمرحلة التي يمر بها، فإذا استطاع أن يبقى صامدا على رجليه ويكتب مشاعره بصدق فهذا أمر جيد أما إذا كان غير ذلك فلا يعول عليهم.
• قلتِ ونحن نتناقش قبل بدء هذا الحوار أن التاريخ مزور لا يعتد به دائما.. كيف ذلك؟
التاريخ مزور في المرحلة الأولى، ولكن بعد تقريبا 50 سنة عندما تعود للمذكرات وللشعر والأدب، لاحظ ليس للتاريخ، تجد في ذلك الأدب حقيقة التاريخ، تجد معاناة الناس، تجد صوت الجوع وصوت الاضطهاد، هناك تجد التاريخ ويمكن أن تقارنه بكتب التاريخ التي كتبت في المرحلة الأولى. ثم إن التاريخ يكتبه المنتصرون، لا بأس أن تأخذ التاريخ ولكن عليك العودة إلى ما يكتبه الأدباء لأنهم، يفترض، أن يكونوا هم المرآة الصادقة لما حدث في مجتمعهم.
لكن ليس كل الأدباء، نحن في مرحلة عيّن فيها أدباء وعيّن فيها مطربين.. المثقف لا يعين، إما أن تكون أديبا أو لا.
هناك مسرحية جميلة لدريد لحام يقول فيها للثاني: عينوني مستشارا، فرد عليه باستغراب كيف حدث ذلك والمواصفات تقول إنه لا بد أن يكون طولك مترا وسبعين وأنت متر وستين. فقال له: بالواسطة عينوني أطول! نحن بالواسطة يعينّ كاتبا. ربما يبقى كاتبا ولكن لن يصبح أديبا.
ولذلك المثقف لا يعين، المثقف ابن بيئته.
• لكن هل المثقف اليوم قادر في ظل هذه الأحداث على ملامسة الواقع؟
يستطيع نعم. صار هناك طموح أكثر، وصار فيه غيرة أننا نريد أن نكون ونريد مركزا، والأيديولوجيا فتحت لهم إنه يمكن أن يصير لديهم حكم/سلطة، والحكم يبدأ بغش. هناك أدباء انغروا فصاروا يبحثون عن مركز، صاروا يريدون أن يصبحوا وزراء.. أنا لم أغر في حياتي. وأنا أعتقد أن أي أديب لديه مؤلف جميل هو أهم من أي وزير، أي شاعر كبير أهم من أي زعيم، وعلى الأديب أن يعرف قيمته. أنا عشت في مرحلة لما كنت صغيرة كان رجال الحكم يبحثون عن أي موهبة ويتبنوها تدريسا واهتماما ويأخذ فيها الأديب ما يستحق من أجل أن تكون في البلد مواهب، اليوم المواهب إذا لم تكن معك تقتل.
• ربما بسبب هذا القتل الذي تتحدثين عنه لا يستطيع الكاتب أن يكتب؟
إذا كان فنانا جيدا يستطيع، يستطيع أن يكتب ويستطيع القارئ أن يفهم. يكتب عن الألم ويكتب عن الحزن وكل ذلك بفنه.
• مرت الدول العربية بمراحل تغير كثيرة هل نحتاج اليوم إلى رواية جديدة غير الروايات التي كتبتموها في المراحل السابقة تستطيع أن تعبر عنّا؟
لا. رواياتنا تاريخ وستعود لوهجها، رواياتنا لم تكن على الموضة. اليوم نسمع كل شيء على الموضة. زمان كنا نسمع نهج البردة وفيروز وشوقي وقباني، الآن وصلنا إلى أمر مضحك جدا ومؤسف، هناك مؤامرة لوأد اللغة العربية، لأنها لغة حضارة، اللغة العربية هي وطن وهذا الوطن محارب من كل الجهات. نحتاج إلى تغيير.
• هل سنحتاج إلى رجل مثل فارس الخوري؟
لا لا . موجودين.. أنا معجبة ببشار الأسد، هذا الشاب المثقف والهادئ لديه صفة من صفات الرجال وهي الشجاعة. لا لا. لدينا رجال ولا نحتاج إلى اجترار الخوري ولو لم يكن هناك أحد لانتحرت، ونحن معهم حتى تعود سوريا وبعد أن نعود يمكن أن «نحكي».
• هل تقرأين كتابات الشباب؟
نعم أقرأ، وهم يأتون عندي ونتحاور.
• هل وجدتي في هذه الكتابات من استطاع التعبير عما حدث في سوريا بشكل فني؟
لا. ما زال الأمر باكرا جدا. ما يكتب في قلب الأحداث هو عبارة عن لمحات. أنا لو أردت مستقبلا الكتابة عما جرى سأعود إلى مقالاتي لمعرفة المراحل التي حدثت فيها انتقالات، أتلمس شعوري وحماسي متى برز الأمر ما ومتى خفت.
حتى الذين يشتغلون بالتاريخ ويؤرخوا بشكل جيد لا بد أن يروا الأمور من الداخل.. لا يمكن ان يقرأ ما يحدث في سوريا من الخارج. التقيت بمجموعة عادت قريبا من خارج سوريا، قالوا أنهم وجدوا أمرا مختلفا.
«صمتت الخوري قليلا ثم رفعت رأسها وقالت بشيء من الحماس»: أنا مؤمنة بسياسة جدي فارس الخوري وهي سياسة حافظ الأسد، أنا لا أؤمن بالانقلابات السريعة نحن في مرحلة متدهورة حتى الأسفل إذا لم تطلع خطوة خطوة لن تصل. لا بد أن أصلح ما حولي خطوة خطوة لا يمكن أن أصلح كل شيء دفعة واحدة، الأجيال الجديدة تريد من يوجهها إلى الصواب.. الشجرة لا تهز بهذه الطريقة.
نحتاج اليوم إلى بناء الإنسان وبناء المرأة.. المرأة الحقيقة عندي هي التي تبني جيلا، وإذا لم ترب جيلا فليست امرأة، حتى لو كانت وزيرة وأبناؤها على غير تربية فلا تساوي عندي أي شيء. وأنا طلبت علنا أن تُفتح فصول لتعليم النساء، تعلمهّن كيف تبنى الأوطان ودورهن في ذلك.
• ماذا أخذت من فارس الخوري؟
أخذت من عائلتي كلها، جدي كان سياسيا ويحب الوطن، وخالي كان لديه صحيفة اسمها «المضحك المبكي» أخذت منهم وزاوجت بين الصحافة والسياسة ولكن «أنا لا بدي لا سياسة ولا صحافة بدي أخلاق، الأخلاق حضارة».
• هل ما زلت تكتبين الروايات؟
اكتب «صفحات من ذاكرتي» أستعيد كيف قابلت فلانا ومتى والظروف التي تعرفت فيها عليه.. مثلا كيف تعرفت على سليمان العيسى، أو سعيد عقل ومن خلال ذلك أتحدث عن ذكريات وتفاصيل.
• ونزار قباني؟
«ضحكت» قد أنشر كتابا يحمل المراسلات التي كانت بيننا.
• تعملين بشكل كثيف إذن؟
أنا أؤمن بالعمل «أنا الشام،، أنا الشام تدفاق بردى... سندس الغوطة شذى الورد، أنا اللحاظ الشامية، نبع الهوى، أنا السيف الدمشقي...أنا المجد».