أحمد بن سالم الفلاحي -
shialoom@gmail.com -
الإنسان بإمكانه أن يصنع فضائله، وما أكثرها، فهناك فضائل الجهد والعطاء، وتزدهر هذه الصورة في مواقع العمل والإنتاج، ففي هذه البيئات تتسع المساحة أكثر، وإن يشترط فيها قدرة البيئة على احتواء الذين لديهم طاقات غير عادية للإنتاج والمبادرات، فقدرة المسؤول على استيعاب مثل هذه الطاقات، وتوظيفها التوظيف الحسن، لها دور كبير في «تفريخ» الفضائل الأخرى من التضحيات بالوقت والجهد، والمبادرات بالأفكار والرؤى،
تسجل مفردة فضيلة في المعجم بعدا معرفيا متعدد المعاني؛ والدلالات، والمفاهيم، ولكنها تعود كلها الى مزايا الأشياء ومحاسنها، وتنيخ ركابها على السمو بالشيء؛ والإشادة به؛ وإلباسه مرتقى اعتباريا يجد مكانته الخاصة في وسط المجتمع، وفي نفسية صاحبه أكثر، ويحظى بالاحترام والتبجيل، والإكرام والتقدير، وهي بذلك تسجل وزنا معنويا بالغ الأهمية في قياس الأشياء، والسلوك، والممارسات لدى الأشخاص، وتحفز الأنفس على بذل المزيد للارتقاء، والتقدم، وإلباس الحياة العامة والخاصة ثوبا زاهيا من النضارة والعطاء والسمو والكمال، ومحاولة انتزاع الإنسان من مظان هواجس الفقر والحاجة، والنقائص، والخوف والتقهقر، والتكور على الذات، والتواري خلف الأعذار التي ترجعه خطوات الى مربعه الأول، وكأنه لم يبعث لإعمار الحياة، التي تحتاج الى كثير من الجهد والعطاء، والمخاطرة والمجازفة العقلانية «وإذا كانت النفوس كبارا: تعبت من مرادها الأجسام» ففضائل الأشياء ليست بذلك الأمر اليسير، فمتى أردنا فضيلة في الأمر أنزلناه من رفوف الدواليب، وكما قيل أيضا: «لن تبلغ المجد؛ حتى تلعق الصبِرا».
نعيش بين أناس متعددي المشارب، والبيئات والأسر، ونحتكم كثيرا إلى مسألة الأخلاق الفاضلة فيهم، ففضائل الأخلاق والتربية هي التي تعطي المجس الأول نحو عنوان هذا الشخص او ذاك ضمن قائمة كبيرة من الذين نعيش بينهم، ويقينا لا أحد يريد أن يسعى ليلبس الآخرين صفات ليست فيهم، ولا خلقا ليس بهم، لأن في ذلك منقصة كبيرة، ومثلمة واسعة، ولذلك قيل: «وإذا أتتك مذمتي من ناقص: فهي الشهادة لي بأني كامل» وهذه مسألة في غاية الحساسية، وهناك تشديد قاس على الذين يتناوبون في إلصاق الخلق الذميم على الآخر، خاصة عندما لا يكون هذا الآخر حاضرا، ويفضل أن تستبدل النقيصة بالفضيلة في مثل هذه المواقف، حتى وإن كان الواقع غير ذلك تماما، وذلك اتقاء للوقوع في مأزق الظلم، والظلم عواقبه وخيمة كما هو معروف بالضرورة، وما ينطبق على الخلق «السلوك» المتبادل بين الناس، ينطبق على كثير من الأنشطة المتبادلة بين الناس، فالناس بعضهم لبعض دائما، وتبادل هذه المنافع فيما بينهم يقتضيه واقع الحال أن تكون هناك فضائل عدة تحفز هذه المنافع المتبادلة، وبدون هذه الفضائل لا يكون التبادل صادقا، وإنما يتجه نحو المعنى الآخر، وهو النقائص؛ حيث تتأجج المصلحة الخاصة أكثر، وتحضر شاهد عصر على مجموعة السلوكيات غير السليمة إطلاقا، وهذا مما يعفي الفضائل عن الوقوع فيها، لتظل فضائل بحق، والإنسان مع قرارة نفسه، لا يريد أن يقع في مأزق النقائص، او يشار إليه بذلك، حتى وإن هو استشعر هذه النقائص في ذاته.
يعول كثيرا على الحاضنة الأسرية في وفرة الفضائل، والبعد بالناشئة عن النقائص، وذلك من خلال قوانينها وأنظمتها التي تعض عليها بالنواجذ، لأن لذلك أثرا كبيرا على تأصيل التربية السليمة لدى الناشئة، وبما ينعكس أثره المباشر على مجموعة الفضائل التي تزكي هذا الطفل الناشئ من الوقوع في مستنقع النقائص، وعندما تأتي محددات الأسرة قاسية، وثقيلة على النشء فإن في ذلك تأسيسا سليما لمستقبل هذه الناشئة، وتقويما مبكرا لمساراتها المختلفة في الحياة، ولقد قرأت قصة شابة منذ زمن بعيد، كان والدها يقول لها على مسمع أفراد أسرته؛ وبصورة متكررة: « ابنتي فلانة لن تعمد إلى ارتكاب الخطأ» وظلت هذه المقولة تتردد على مسامعها حتى أصبحت منهج حياة لديها، تقول هذه الفتاة: بعد دخولي الحياة العامة، تعرضت للكثير من المضايقات والإغراءات والنداءات والمجادلات والمناوشات؛ سواء من جنسي أو من جنس النوع الثاني، ولكن في كل مرة «قاب قوسين أو أدنى» من الوقوع في مأزق الجهل، استحضر فيها مقولة والدي: « ابنتي فلانة لن تعمد إلى ارتكاب الخطأ» فأعانتني هذه كثيرا على البقاء على فضائلي الإنسانية والأسرية، ولم أنزلق إلى مواطن النقائص؛ وما أكثرها.
يشاد كثيرا؛ عندما يكون الحديث عن الكرم؛ بمواقف حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الكرم والجود، والكرم؛ كما هو معروف؛ فضيلة سامية من فضائل الأخلاق الكريمة، ولذلك، يقال في صيغ المبالغة: «أكرم من حاتم» وسجية الكرم، ليست شرطا أن يكون الفرد على وفرة من المال والجاه، مطلقا، وإنما هو خلق زائد ينحى منحى الكرم فقط، فما في يديه، يظل هو الأقرب إلى الآخر، دون أدنى شرط، أن يكون هذا الآخر قريبا؛ قربى نسب، او معرفة، وتأتي المبادرة هنا؛ غالبا؛ عبر مبادرات تستحثها النفس، فتنطلق إلى الآخر عبر ممارسات مختلفة، وإن كانت بعض المواقف تحتاج إلى شيء من التحفيز، لأن النفس قابضة؛ بطبيعتها؛ خاصة عندما يتعلق الأمر بالمال، ومما يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في إحدى الغزوات حضر كثير من الناس يودون المشاركة، فكان البعض منهم تنقصه الراحلة، وبعضهم الآخر ينقصه الزاد، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل» رواه مسلم، ولنا في الأبيات الرائعة لشاعر العربية الكبير زهير بن أبي سلمى مبلغ الحكمة وأثر العبرة، والتي يقول فيها:
«ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله: على قومه يستغن عنه ويذمم
ومن يجعل المعروف من دون عرضه: يفره ومن لا يتق الشتم يشتم»
وخاصة عندما يكون الفرد معروفا لدى قومه بأنه ذو مال، أو ذو جاه، حيث يعاب عليه مواقفه القابضة عن المشاركة مع بني قومه في أفراحهم وأتراحهم بما تجود به يده، وبما تجود به خلقه من فضائل مادية، وفضائل معنوية، وهي؛ أي هذه الفضائل؛ إن اجتمعت في فرد واحد من أفراد المجتمع علا سهمه بين أفراد مجتمعه، وأنزل المنزلة المباركة، ومن كان دون ذلك، فيقينا سوف يقع عليه قول أبي سلمى: «ومن يجعل المعروف من دون عرضه: يفره ومن لا يتق الشتم يشتم» وما بين الكرم «وهو فضيلة» والبخل «وهو نقيصة» خيط رفيع جدا، كما هو الحد الفاصل بين الماء واليابسة، فمن يعي هذا الفاصل، لن يكون عليه الأمر صعبا لأن يرتقي بخلقه فيعلي فيها فضائل السمو والشرف، ومن يعي ويتجاهل علمه بذلك، فهو يتعمد الإساءة الى نفسه أكثر، وهذه نقيصة لا يذهب إليها فرد بملء عقله، وحصافة تفكيره.
أرى من وجهة نظر شخصية أن الإنسان بإمكانه أن يصنع فضائله، وما أكثرها، فهناك فضائل الجهد والعطاء، وتزهر هذه الصورة في مواقع العمل والإنتاج، ففي هذه البيئات تتسع المساحة أكثر، وإن يشترط فيها قدرة البيئة على احتواء الذين لديهم طاقات غير عادية للإنتاج والمبادرات، فقدرة المسؤول على استيعاب مثل هذه الطاقات، وتوظيفها التوظيف الحسن، لها دور كبير في «تفريخ» الفضائل الأخرى من التضحيات بالوقت والجهد، والمبادرات بالأفكار والرؤى، فبيئات العمل بقوانينها المشجعة، وأنظمتها السلسلة التي تعلي من شأن المجتهد، وتقدر جهده وكفاءته، تعد معوانا كبيرا على تفعيل الطاقات الكامنة في النفوس، فهناك من الفضائل لدى كثير من الناس تظل كامنة، إن لم تجد المشروع الآمن للعطاء، والعكس صحيح أيضا، وهنا تظهر حصافة المسؤول وقدرته على اكتشاف المواهب، وإعطائها الفرصة الكاملة لتوظيف طاقاتها من الفضائل الكريمة، ويأتي في السياق نفسه فضائل التعامل والمؤانسة بين الزملاء والأصدقاء، فقدرة البعض على تحفيز البعض الآخر هي التي تبعث الحياة في الفضائل «النائمة» إن تجوز التسمية، حيث تحول الإنسان المنزوي الخجول إلى آخر مبادر إيجابي، مقدام عند المواجهة، ومترو بمقياس الحكمة والتعقل في بقية الأوقات، لأن حالات الكفاف التي نعيشها، أغلبها مصطنعة، والإنسان لديه الكثير مما قد يبذله في سبيل الآخر، بغض النظر عن قرب او بعد هذا الآخر: قرابة ومعرفة ونسبا، فالإنسان كائن اجتماعي بطبعه؛ كما يصفه المفكر الاجتماعي ابن خلدون - رحمه الله - وبالتالي ففضائل الخلق والسلوكيات، وبقية القيم الآخر، هي كامنة ومتحفزة؛ فقط؛ تحتاج من يطرق بابها في أية لحظة، لـ «تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها».