خميس بن سليمان المكدمي -
«إن اليقين بالله - رب العالمين - له إشارات وعلامات تتجلى في سلوكيات العبد، وتظهر في تصرفات الفرد، فهي ليست قضية تنظيرية، لا وجود لها في واقع الإنسان، ولا أثر لها في حياته، من أجل ذلك صنف اليقين لأصناف، ورتب له درجات ومراتب».
ليس في الكون والوجود شيء يبعث الارتياح ، ويورث الانشراح ، ويجعل القلب ينبض بالحب ، والنفس تخفق بالخير، كمثل يقين العبد بالله رب العالمين، فمعرفته - جل جلاله - للهم جلاء ، وللوجع شفاء، وللحزن ذهاب، ومن الغم خلاصا ونجاة، وهنا قد يعن للذهن سؤال، وللخاطر استفهام، عن اليقين ومعناه، وإن أردنا أن نسبر غور هذه الكلمة ومعناها نجدها تدور في معان عدة: فمن معانيها الثبات والوضوح الذي لا يمكن أن يطرقه الظنون، أو يخامره الشك، أو يعيث به التردد ، أو يحوم حوله الريب ، فيقين العبد المؤمن بوجود الله ثابت لا شك فيه، واضح لا لبس به.
يقول أحكم الحاكمين: (اللَّهُ الَّذي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ تَرَونَها ثُمَّ استَوى عَلَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجري لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُم بِلِقاءِ رَبِّكُم توقِنونَ)، وقدوم الموت لكل حي لا يتمارى فيه اثنان، ولا يمكن البتة أن يختلف فيه أحد، وكيف لا نوقن به حق اليقين، ولا يتضح أمره كل الاتضاح، ونحن نراه يختطف الأرواح في الغدو والرواح، والعشية والصباح، (كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَإِنَّما تُوَفَّونَ أُجورَكُم يَومَ القِيامَةِ فَمَن زُحزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدخِلَ الجَنَّةَ فَقَد فازَ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا مَتاعُ الغُرورِ).
إذن هذا ما يتعلق بالمعنى اللغوي لكلمة يقين، وأما المعنى الاصطلاحي ، فيدور كذلك بين معان عدة منها: العلم، والتصديق الجازم، والطمأنينة، فدوران اليقين حول العلم بالشيء، فليس كالعلم به غارس في النفس المعرفة، فكلما كنت عالما بما تعتقده، ومستقر لديك ومدعم بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثبت ذلك في الجنان، واستقر في الوجدان، وتقتنع قناعة لا يمكن أن ينتزعها منك أيا كان، وهذا تماما ما حدث مع سحرة فرعون حينما رأوا من الحجج ما دمغ مزاعم فرعون، ونقض زيف ادعائه ، ثبتوا تحت وطأة التعذيب والقهر، على ما لاقوه من العذاب المهين ، فلم ينتزع إيمانهم تخويف، ولا مسح يقينهم ترويع ، بل استعذبوا ذلك في ما هم فيه من اليقين يقول الحق - جل ذكره - (فَأُلقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قالوا آمَنّا بِرَبِّ هارونَ وَموسى * قالَ آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم إِنَّهُ لَكَبيرُكُمُ الَّذي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُم في جُذوعِ النَّخلِ وَلَتَعلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبقى * قالوا لَن نُؤثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ وَالَّذي فَطَرَنا فَاقضِ ما أَنتَ قاضٍ إِنَّما تَقضي هذِهِ الحَياةَ الدُّنيا * إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكرَهتَنا عَلَيهِ مِنَ السِّحرِ وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقى).
وأما المعنى الثاني فالطمأنينة، فإنك ولا ريب حينما تطمئن لبعض الثوابت والمعتقدات تصبح مسلمات يقينية ، من المحال تغييرها، أو أن تفلح في انتزاعها، وهذا منتهى اليقين، وخاتمة القناعات، وأما المعنى الثالث فالتصديق الجازم بالشيء ، فإنك حينما تصدق بالشيء وتجزم به فقد استقر يقينا في خلدك وذهنك، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يتحول أو يتبدل أو أن يزول.
قال أحد العلماء: «اليقين من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمر العاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهما يُمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبة واليقين، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم».
إن اليقين بالله - رب العالمين - له إشارات وعلامات تتجلى في سلوكيات العبد، وتظهر في تصرفات الفرد ، فهي ليست قضية تنظيرية، لا وجود لها في واقع الإنسان، ولا أثر لها في حياته، من أجل ذلك صنف اليقين لأصناف، ورتب له درجات ومراتب، فقد ذكر أهل العلم أن له ثلاث مراتب هي:
أولها علم اليقين ويقصد به انكشاف الأمر للعبد واتضاحه له اتضاحا يبعث في الراحة والسكون والطمأنينة، فالعلم بالله العظيم ربا عليما ومدبرا حكيما ، هو يقين استقر في النفس، بما أخبرت به أنبياء الله - عز وجل - وبلغته ، الصفوة المختارة من أنبياء الله ورسله - عليهم الصلاة وأتم التسليم - (ثم يليها المرتبة الثانية، وهي مرتبة عين اليقين ونسبتها إلى العين، كنسبة الأول إلى القلب، ثم تليها المرتبة الثالثة، وهي حق اليقين، وهي مباشرة المعلوم، وإدراكه الإدراك التام، مثال على هذه المراتب الثلاث حتى يتيسر فهمها:
الأولى: علم اليقين، مثل: علمك بأن في هذا الوادي ماء، والثانية: عين اليقين، مثل رؤية الماء في الوادي، والثالثة: حق اليقين، مثل: الشرب منه، أو الخوض بقدميك فيه.
وقد مثَّل أحد العلماء لهذه المراتب الثلاث بقوله: (مَن أَخبَرك أنَّ عنده عسلًا وأنتَ لا تشكُّ في صِدْقه، ثم أراك إياه فازددتَ يقينًا، ثم ذُقتَ منه، فالأول عِلم اليقين، والثاني عَين اليقين، والثالث حق اليقين)، ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : قلَّ ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منَّا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا».
لقد وصف الخلاق - عز وجل - بصفات كريمة ، وخصال حميدة، صفات تجلت في قلوب العارفين، وسجايا تجمل بها الهداة المهتدون، وبها نالوا من خالقهم الثناء، واستحقوا من سيدهم المديح، وبها نالوا شرف الدنيا، وكرامة الآخرة، يقول الحق - جل ذكره - في ذكر طرف من محامدهم: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
فالإيمان بالغيب هو أول هذه الصفات، ولا عجب أن تتصدر السمات، فحينما يستقر اليقين في الأفئدة بعلم الغيب، وأن هناك إلها مدبرا للكون، وراحما بالعباد، وحافظا لهم، تحس به وبرحمته، وتتفيأ عطاياه وعفوه ومغفرته، تأوي إليه حينما تحيط بك الكروب، وتجأر إليه عندما تعصف المواجع، تسأله وتدعوه، وتخبت له وتشكو إليه، وحينما يستقر في وجدانك بأن هناك حياة غير هذه الحياة، ومعادا غير الدنيا، نعود فيه لله رب العالمين، وحينما تستشعر بملائكة حافظين كرام كاتبين منهم من هو متكفل بإيصال الوحي وآخر متكفل بالرزق وثالث بقبض الروح، حينما تؤمن بذلك كله، فقد تبوأت أسمى المنازل، وأرفع الخلال، وأرقى الدرجات، وأكمل الصفات (أَمَّن خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنبَتنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهجَةٍ ما كانَ لَكُم أَن تُنبِتوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَل هُم قَومٌ يَعدِلونَ * أَمَّن جَعَلَ الأَرضَ قَرارًا وَجَعَلَ خِلالَها أَنهارًا وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَينَ البَحرَينِ حاجِزًا أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَل أَكثَرُهُم لا يَعلَمونَ * أَمَّن يُجيبُ المُضطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكشِفُ السّوءَ وَيَجعَلُكُم خُلَفاءَ الأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ * أَمَّن يَهديكُم في ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ وَمَن يُرسِلُ الرِّياحَ بُشرًا بَينَ يَدَي رَحمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمّا يُشرِكونَ * أَمَّن يَبدَأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُل هاتوا بُرهانَكُم إِن كُنتُم صادِقينَ * قُل لا يَعلَمُ مَن فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ الغَيبَ إِلَّا اللَّهُ وَما يَشعُرونَ أَيّانَ يُبعَثونَ).
ومن صفات أهل اليقين أن يذعنوا لكل ما يجريه الرحمن من أمور، فلا اعتراض على حكمه، ولا تضجر من عدله، ولا سخط من قضائه، ولا اعتراض على أمره، ولا مراجعة لتقديره، بل إذعان واستسلام ، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخلُقُ ما يَشاءُ وَيَختارُ ما كانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ سُبحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمّا يُشرِكونَ).
ومن صفاتهم أنهم موقنون بأن رزقهم على الله، فلا يعرفون الجزع على الفقد، ولا يجنحون للبطر عند الوجد، وإن ضاق الحال بهم، صبروا واحتسبوا، ومع ذلك فهم منطلقون في طلبه والبحث عنه ، فلم يكن يقينهم مثبطا، ولا توكلهم محبطا، يبتغون فيما آتاهم الله من دار الفناء، فيسخرونه لإدراك الأخرى، وإن دعاهم داعي الإنفاق، كانوا به في وجوه الخير أجود من الريح المرسلة. وأخيرا فمن الحسن أن أشير إلى أهمية السعي في تقوية اليقين بالله رب العالمين، وهذا يمكن للعبد أن يدركه في تدبره وتأمله لكتاب الله - عز وجل - فكلما أوغل تأملاته، وغاص في أعماق الآيات، وأمعن النظر فيما يريده الكتاب الحكيم من العبد، أدرك الكنز، وظفر بالمقصود، وحصد من الخير، ونال من العطاء، وتعمق يقينه بخالقه وسيده، وكيف لا والقرآن هو منبع اليقين، عن عمر بن الخطاب أن النبي قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين». رواه مسلم، وإنما كانت رفعتهم بالخير الذي أدركوه، والمنن التي حصلوا عليها، والبركة التي غمرتهم، والأفضال التي انهلت عليهم وعلى حياتهم. ومما يزيد اليقين حسن اللجوء لله، وصدق التوكل عليه، والاعتصام به في حالكات المحن ، والفرار إليه في مدلهمات الفتن ، وقصده في السراء والضراء والشدة والرخاء. ومن معززات اليقين في قلب العبد ، كثرة ذكر الموت والبلاء فمن شأن هذا أن يزيد بالله الرجاء، والرغبة فيما لديه من الخير العطاء، فإنه أفضل من قصد، وأرجى من دعي .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.