أحمد بن سالم الفلاحي - [email protected] - يحل مفهوم، أو تعبير، «الهدية الديموغرافية» في هذا الطرح اليوم، كأجمل ما يمكن إطلاقه على الواقع السكاني لمجمل البلدان العربية، وذلك انطلاقا من الإحصائيات الدولية التي تصدم المتابع حقا، حيث «تشير أحدث الإحصائيات إلى أن أعمار ثلثي سكان المنطقة العربية اليوم تقل عن (30) عاما، نصفهم في الشريحة العمرية (15 -29) سنة، وهؤلاء هم الذين يعتبرهم التقرير شبابا، ويقدر عددهم بأكثر من مائة مليون نسمة، وهناك ثلث آخر يقل عمرهم عن (15) عاما، وهو ما يضمن استمرار هذا الزخم السكاني إلى العقدين القادمين على أقل تقدير، ويوفر فرصة تاريخية يتحتم على البلدان العربية اغتنامها» - وذلك وفقًا لتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2016م، الذي حمل عنوان «الشباب وآفاق التنمية في واقع متغير» والصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي/‏‏ المكتب الإقليمي للدول العربية. ويتضح مفهوم «الهدية الديموغرافية» هنا من خلال أن المنطقة العربية تمتلك قوى عاملة بشرية شابة تكون قادرة على المساهمة الفاعلة في مجالات التنمية البشرية بكل يسر وسهولة، دون أن تشكل أي عائق لصناع القرار في مرحلة قادمة من مراحل النمو السكاني والنمو المعرفي، وهذه الحالة، ربما، قد لا تتحقق في بلدان أخرى لا تمتلك هذه الثروة السكانية من الفئات الشابة في وقتها الحالي قياسا لبرامج تحديد النسل وغيرها من البرامج التي لا تعطي بعدًا أكبر لوجود طاقة بشرية شابة ككتلة في زمن معين. والواقع يؤكد على أن معظم البلدان العربية تعيش مرحلة شبابية، وهذه المرحلة تصنف على أنها من أخصب المراحل العمرية في حياة الشعوب، نظرًا لارتفاع نسبة الفئة الشبابية فيها، حيث تتجاوز حاجز الـ(50%) وفق التقارير الدولية الصادرة من المنظمات الدولية المعنية بقضايا التنمية، ولا شك أن لهذا العمر استحقاقاته المهمة من مجالات الحياة المختلفة: الاجتماعية، والتعليمية، والصحية، والمشاركة السياسية، حتى يظل هذا الشاب على ارتباط وثيق بالواقع الذي يعيش فيه، ولا يكون مجرد رقم فقط، مما ينعكس عليه سلبا في مختلف تصرفاته، ويرى في نفسه عبئا على وطنه، وأسرته، بدلا من أن يكون مساهما، وفاعلا، ومؤثرا على امتداد مساحة الاشتغال المتاحة له لتفريغ طاقاته، وتوظيف مواهبه، ليمثل بذلك إضافة نوعية في خدمة وطنه، ومواطنيه، وهذا ما لا يتحقق إلا في الفئات العمرية الشابة التي يشيد بوجودها التقرير أعلاه. فهذه النسبة المرتفعة من الطاقات الشابة في معظم البلدان العربية، هي ما يمكن اعتبارها «هدية ديموغرافية» بحق، وذلك لما تمثله من طاقة بشرية، وقوى فاعلة في صنع القرار التنموي على امتداد أكثر من عقد من الزمان، وخاصة اليوم في ظل نمو تقنية غير مسبوقة، وتحتاج إلى كثير من العقول الشابة المبدعة للتعامل معها، فهذه الفئة إن أحسن استغلال طاقاتها الإبداعية تظل لها القدرة على توظيف مستجدات العلوم في مختلف مجالات الحياة، ونقل الواقع التنموي من حالة الركود والتكرار والبدائية، هذه، إلى مستوى صناعي غير مسبوق، وحل كل المشكلات المتعلقة بالتنمية، فليس الرهان اليوم على الموارد الطبيعية المعرضة للنفاد، وإنما الرهان على مثل هذه الطاقات المبدعة في مجالات التقدم العلمي والتقني، وبالتالي فإن توفر أحد شروط التنمية المستدامة في هذه الفئة الشابة، وبهذا القدر الكمي الكبير من السكان، فإن هناك شرطا ثانيا يتمثل في (القدر النوعي) لهذه النسبة السكانية المرتفعة فوق المعدلات العالمية كما هو واضح من التقرير أعلاه، والـ«قدر النوعي» له استحقاقات مهمة حتى يمثل على أرض الواقع، ويكون له تأثيره الواضح، ولا يكون مجرد رقم لا تأثير له، وفي مقدمتها - وفق ما أشار إليه التقرير، أيضا، - «أن يرسخ في المنظومة الاجتماعي أسس العدالة والمساواة، وتكافؤ الفرص، ويتصدى لكل الممارسات التمييزية على أساس الهوية أو العقيدة، أو النوع الاجتماعي» فهذه كلها معوقات في سبيل التنمية البشرية، وأي منظومة اجتماعية تتوغل فيها مثل هذه الأمراض، لا شك أن مآل شبابها التراجع وانتشار حالات اليأس والإحباط، كما هو الحال اليوم في كثير من البلدان العربية التي لم تشف من هذه الأمراض على الرغم من معززات المعرفة المتنوعة، وهذه في حد ذاتها مشكلة موضوعية في حقيقة العلاقة القائمة بين هذه الفئة الشابة، وبين برامج التنمية، ولذلك تسود حالة من اللاوعي لدى شباب هذه الأمة نظير هذا الإقصاء في جوانب كثيرة، والمنعكسة من سوء التخطيط، وعدم استحضار الأهمية الكبيرة التي تمثلها هذه الفئة، هذا بخلاف حالات عدم الاستقرار التي تعيشها بعض الدول العربية، جراء النزاعات العسكرية، الحروب المفروضة عليها من غير إرادتها، وعدم الاستقرار الداخلي في بعضها الآخر. وفي تقرير مماثل، صادر عن الأمم المتحدة، نشرته مجلة (الإيكونوميست) البريطانية في الأول من ديسمبر 2016م، أشار إلى أن سكان المنطقة العربية يشكلون (5%) فقط من سكان العالم، ولكن تبعات هذا الرقم، وإخفاقاته في المساهمة في الأحداث الدولية تتجاوز المشهود به عالميا، ومما جاء في نص التقرير: «شكل العالم العربي في عام 2014م مصدر (الـ45%) من الإرهاب العالمي في العالم، و(68%) من الوفيات الناجمة عن المعارك والحروب، و(47%) من المشردين داخليا، و(58) من اللاجئين في العالم (...) ويبلغ تعداد الشباب العربي - الذين تتراوح أعمارهم بين (15 و29) 105 ملايين نسمة، ويتنامى بسرعة مطردة، لكن معدلات البطالة والفقر والتهميش تتنامى بوتيرة أسرع، حيث يشكل معدل البطالة بين الشباب ما نسبته (30%) أكثر من ضعف المعدل العالمي بنسبة (14%)» انتهى النص. يفترض في مثل هذه النسب أن تسبب حالة طوارئ لدى كل صناع القرار في الوطن العربي، يتبع ذلك تحديث في الأنظمة والقوانين، وفي مناهج التعليم، وأساليب البحث العلمي، وفي مراجعة العلاقات التي تربط بلدانهم بالدول المتنفذة، ووضع جانبا كل المصالح الذاتية، التي تؤثر على المسارات الديمقراطية الحقيقية، والنأي بالأوطان عن الدخول في مشروعات سياسية أو عسكرية تجر الويل والثبور للوطن الأم، وعلى إشاعة الشفافية والحيادية في الأنظمة والقوانين، وعلى إعطاء فسحة أوسع للمجالس النيابية، وعدم التهيب من الرأي والرأي الآخر، وعلى إفساح المجال أمام القوى البشرية المبدعة في مختلف المجالات، وتشجيعها ودعمها بكل المعززات التي من شأنها أن تضيف لبنة جديدة في بنيان الوطن، وعلى الاستفادة من التجارب والخبرات من الدول التي قطعت شوطا مقدرا في تنمية شعوبها، وعلى التفكير الجاد للخروج من مأزق الاعتماد على مصادر محدودة للدخل القومي، لأن محصلة كل ذلك تجفيف منابع اليأس لدى فئة الشباب، وعدم التفكير في البحث عن جغرافيات أخرى يرون فيها الملاذ لتوظيف طاقاتهم الإبداعية، وتحقق لهم الأمن النفسي والمادي، كما هو الحالة الشائعة منذ خمسينيات القرن العشرين المنصرم وإلى اليوم، وهذا ما يؤسف له حقا، على عكس ما يفترض أن يكون عليه الحال، سواء بمعرفة مثل هذه الحقائق المنشورة، أو بغير معرفتها، فالواقع ينبئ عن مكنونه. إن نسبة الـ(5%) فقط من سكان العالم هم سكان المنطقة العربية، وهي المنطقة التي تستحوذ على الموارد الطبيعية الهائلة، وعلى التاريخ والحضارة الموغلتين في القدم، وما تمتلكه من معززات في القيم الدينية والاجتماعية، لجدير بها أن تقود العالم نحو مناخات الأمن والرخاء والسلام، وليس العكس لا أن تكون مصدر (الـ45%) من الإرهاب العالمي في العالم، والخوف أكثر اليوم على «أعمار ثلثي سكان المنطقة العربية الذين تقل عن (30) عاما، نصفهم في الشريحة العمرية (15 -29) سنة» لأن تبقى تراوح مكانها في بيئات طاردة، كما كان أسلافها، لأكثر من سبعة عقود، وعدم قدرة الأوطان التي تحتضنهم أن تحقق لهم مقومات الحياة التي يأملون تحقيقها، في ظل حالة هلامية من التخطيط العشوائي الواقع تحت مظان المصالح الشخصية، وعدم وجود إيمان حقيقي بأهمية القوانين الموضوعة، لإقامة شرائع العدالة والمصداقية، والعمل الجماعي لصالح الوطن الأم. واختم هنا بقول الدكتور عادل سالم العبد الجادر رئيس تحرير مجلة العربي، في مقال له تحت عنوان «المفارقة الكبرى بين ربيع الشعر وربيع الواقع» - مارس 2017م - حيث يقول: «كل ما نخشاه على الجيل القادم هو انغماسه في عالم افتراضي خيالي، عالم يبعد عقله وتفكيره عن عالمه الحقيقي، وليحلّق في الفضاء دون أن يحدد كيفية العودة إلى أرض الواقع، وما أسهل التيه عند التجرد من عاطفة الانتماء».