من أهمّ مميّزات الرّواية هو أنّها جنس أدبيّ ينفتح على الأجناس الأدبيّة الأخرى، وعلى المعارف الأخرى بشتّى أنواعها، لذلك بقيت الرّواية جنسا أدبيّا قائما بينما اندثرت أجناس أخرى لأنّها كانت منغلقة رفضت التّأثّر والانفتاح. ومن بين الأجناس التي تأثّرت بها رواية » الأعتاب « للأديب العمانيّ محمّد قراطاس، الكرامة الأدبيّة. تولّت الطّبعة دار السّاقي اللبنانية في طبعتها الأولى بسنة 2016. الكرامة الأدبيّة جنس أدبيّ يروي كرامات الأولياء والعُبّاد، والكرامة حسب سعاد الحكيم في كتابها « المعجم الصّوفيّ: الحكمة في حدود الكلمة « عن دار ندرة للطباعة والنّشر، ط1، 1981 للأولياء، أمّا المعجزة فهي للأنبياء، و» الكرامة ثمرة العبادة، الكرامة للعابد كذلك، ليست محصورة بالأولياء «( ص 963). بطل رواية» الأعتاب « مستهيل مارس العبادة في شتّى أنواعها، صلاةً، فبعد أن اغتسل خرج ليستعدّ لصلاة المغرب « وهو الذي مرّت عليه أربع سنوات لم يصلّ فيها ركعة واحدة « (ص 10) ولعلّ اختيار صلاة المغرب بداية لصلاته تدلّ على غروب مرحلة سابقة ودخول البطل مرحلة أخرى، هي مرحلة العبادة والتّصوّف عزوفا عن الحياة ومغرياتها، ولم ينقطع عن صلاته منذ ذلك اليوم. ومارس العبادة أورادا، فقد شارك في الأوراد التي تقام قبل الصّلاة. وأضاف إلى ذلك الصّدقة « لم تبق عائلة فقيرة في الحيّ ومحيط معرفته إلّا وصلها شيء من صدقته «(ص31) وزاد هذه العبادات صوما وصلاة تطوّعيّة وقراءة للقرآن. لقد كان لهذه العبادات تأثير على مستهيل، فقد بدأ شاكّا حائرا متسائلا، إذ يسال أباه في مقبرة عفيف « لماذا نحن على هذه الدّنيا يا أبي؟! أين الله يا أبي؟ أراه ولا أراه يا أبي؟» (ص18) هي أسئلة وجوديّة، لم تمنع مستهيل من مواصلة رحلته الرّوحيّة. وقد عانى مستهيل في تجربة العبادات جسديّا، إذ أرهقه الصّوم في جوّ رطب وحارّ، وأرهقته الصّلاة التّطوّعيّة. ومن الحيرة والإرهاق وبزيادة جرعة الوِرْد وقراءة القرآن والصّلاة شعر بلذّة الأمر، فقد أدّت العبادة إلى قتل الجسد (الشّهوة) وإحياء الرّوح والقلب، ثمّ مرّ من مرحلة النّشوة واللّذّة الرّوحيّة إلى مرحلة الاقتراب من هيئة الماء ( وعرش الرحمن على الماء )، فهو يقترب من اللّه أكثر. جرّب العبادات المختلفة أربعين يوما، وأضاف إليها الأربعين يوما أخرى، ممّا مكّن روح مستهيل أن تتعدّى مرحلة الماء « إلى مرحلة أخرى لم يستطع أن يصنّفها «(ص34). إنّ اختيار أربعين له دلالته، فقد يعود إلى أنّ سنّ الأربعين هو سنّ الرّشد واكتمال العقل، وقد بعث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في سنّ الأربعين. نلاحظ أنّ تجربة مستهيل كانت متدرّجة، حاول فيها قتل الجسد وإحياء الرّوح، ولم يكتمل قتل الجسد إلّا في خوض تجربة الصّحراء، عندما خرج باحثا عن جدّه، فقد وصل مرحلة الحلول، فلم تعد هناك حدود، وانتفت الاتّجاهات « الجنوب يشبه الشّمال، والشّرق يشبه الغرب، كأنّها لوحة معلّقة أمام العين. إنّها الصّحراء تلك الصّهباء الرّاقصة بلا حركة ولا رحمة «(ص41)، فقد كاد يموت عطشا وجوعا. كان لنتائج هذه العبادات والتّقرّب إلى الله كرامات عديدة ساهمت في بناء السّرد وتطوّره، وقد تجلّى ذلك في التّنبّؤ والعلم بما حدث في الماضي، وقد استعمل الرّاوي تقنيتين سرديتين ساهمتا في كسر خطّ السّرد الزّمنيّ. التّقنية الأولى: اللّواحق السّرديّة: وهي التي تقع فيها العودة إلى الماضي، فالأحداث وقعت في الماضي لكنّ مستهيل يذكرها في حاضر السّرد. ومن هذه الأحداث تبنّ ميلود لرابح، إذ هو ليس ابنه الشّرعيّ. ويعرف مستهيل كذلك أنّ الفلّاح ديفيد ملحد « أنت تركت الإيمان بوجود الله منذ تيتّمت «(ص184)، وتدخّل في قضيّة الزّوج والزّوجة، وأنصف الزّوج لأنّه يعرف ما فعلته المرأة، وما زالت تمارسه، إذ يقول مستهيل أمام الزّوجين والقسّيس في الكنيسة:» هو ليس بخائن، والمرأة التي رأيتها معه هي ابنة أخته (...) أتته تطلب معونة منه «(ص166)، أمّا الخائن الحقيقيّ فهي الزّوجة « فهي التي لم تحفظ الرّباط المقدّس بينكما «(167)، وهو يعرف مع من تخون زوجها «تخطئ مع جارك منذ سنة «(ص167)، بل هو يُعلِمُ القسّيس عن أصله، فجدّ القسّيس لوالدته عربيّ جزائريّ، ولكي يعطيه الدّليل القاطع يقول له:» وإنّ الكتاب المعلّق على مدفأتك هو دليلك «(ص172). التّقنية الثّانية: السّوابق السّرديّة: وتتمثّل في أحداث تقع في المستقبل يذكرها مستهيل قبل وقوعها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فهو الذي أعلم أمّه بأنّها ستمطر لذلك لم يخرج إلى المزرعة، ليقول الرّاوي بعد ذلك « لكن سرعان ما نزل المطر»(ص34)، وطلب من الشّيخ سعيد أن لا يقطع الواديَ من هنا بل من ناحية الشّمال، وقَبِلَ الشّيخ سعيد طلب مستهيل بعد تردّد، وهو ما مكّن المسافر من النّجاة « وما إن قطعوا بضع مئات من الأمتار حتّى سمعوا صوتا كالانفجار المتتالي يأتي من داخل الوادي «(ص167). إذن هو ينبئ بحدث وقوع الفيضان قبل وقوعه، ويصدّق السّرد ذلك، وطلب مستهيل من رئيس الشّركة التي يعمل بها أن يمنع ابنه من السّفر، ويقبل رئيس الشّركة طلب مستهيل لكنّ ابنه يتعرّض إلى حادث مرور، فيغضب رئيس الشّركة، ويأمر بنقل مستهيل إلى مرسيليا ليعمل حمّالا، وهي أدنى وظيفة في الشّركة، ولكنّ رئيس الشّركة يعود معتذرا لمستهيل، فقد علم ما حلّ بأصدقاء ابنه الذين سافروا إلى إسبانيا،إذ حُكِمَ عليهم بالسّجن» خمسة عشر عاما سجنا «(ص126)، وأمر بترقيته، لكنّ مستهيل يرفض ذلك. ويعلم في حادثة أخرى المزارعَ ديفيد أنّه « سيأتي في الغد خاطبٌ لأختك فزوّجه إيّاها «(ص193)، وبالفعل يأتي الخاطب. ساهمت هذه السّوابق واللّواحق السّرديّة في تواصل السّرد معتمدة التّضمين لقصص أخرى، لا يرتبط بعضها بمسيرة مستهيل الرّئيسيّة في رحلته من أجل اللّقاء بجدّه. تدخل هذه القصص المضمّنة إلى عالم العجيب، فهي أحداث تقع، ولا نجد تفسيرا لوقوعها، وكيف عرف مستهيل أنّها ستقع، وكيف عرف أحداثا وقعت لشخصيّات لم يعش معها قطّ، وهو ما يجعلنا نسلّم بأنّ ذلك يعود إلى قوّة غيبيّة تتجاوز قدرة القارئ والنّقد وحتّى مستهيل نفسه. ومن نتائج العبادات التي يقوم بها مستهيل كثافة الرؤيا، وهو أن يرى بشرا في المنام، وقد يكون الزّائر في المنام فردا « أنا من أحباب جدّك المجاهد أبي بكر «(ص47) جاء لينقذ مستهيل من الموت جوعا وعطشا في الصّحراء. وقد يكون الزّائر مثنّى، وهما شمساء وابنة أختها فاطمة اللّتين ألقى بهما الحاكم البرتغاليّ من القلعة بعد قتل الأخ والزّوج، وهو ما دفع مستهيل إلى البحث عن قبريهما باعتبارهما شهيدتين، فالرّؤيا تنفتح على التّاريخ، وتحديدا على فترة الاستعمار البرتغاليّ المقيت. وقد يكون الزّائر جمعا، من ذلك ثلاثة يقفون عند قدميه» ابتساماتهم تضيء عتمة اللّيل»(ص209)، وهم من أحباب جدّ مستهيل المجاهد أبي بكر، يساعدون مستهيل للوصول إلى جدّه في رحلته المضنية. لقد اعتبرنا الرّؤيا من الكرامات لأنّها لا تكون إلّا للأنبياء والصّالحين. جاء في لسان العرب» وغلبت الرّؤيا على ما يراه النّائم من الخير والشّيء الحسن. وغلب الحلم على ما يراه من الشّرّ والقبح»(م 2، ص989) والرّؤيا تجعل الرّواية تنخرط في الغريب لأنّ الأحداث التي تقع تجد لها تفسيرا بالعودة إلى الرّؤيا، وهكذا فرواية « الأعتاب « تنفتح على الغريب كما انفتحت على العجيب. أدّت العبادات كذلك إلى قدرة مستهيل على الرّقية ومداواة النّاس، فقد قام بمعالجة ابن الشّيخ سعيد عندما لسعته أفعى، وتتمثّل هذه الرّقية في قراءة الفاتحة والكرسيّ وخواتيم سورة البقرة، وينفث على الجرح وعلى الشّاب» كما كان يفعل والده «(ص58).إذن هو من عائلة صالحة تتوارث الرّقية، وقد ساهم مستهيل في إنقاذ الشّاب. ومن كرامات مستهيل البركة، فعندما اشتغل في متجر الشّيخ باقر» باع المحلّ أضعاف ما كان يبيعه في الأسابيع الأخرى «(ص71)،» وشعر الحاج باقر ببركة مستهيل «(ص72)، وهو ما دفع الشّيخ باقر إلى نقل مستهيل» من المبيت بالدّكان إلى المبيت بمجلس البيت»(ص72). وهو إضافة إلى هذه الكرامات يتحلّى بالحِلم، فلم يغضب من بشر قطّ، لكنّ الله ينتقم من كلّ من يظلم مستهيل، فقد سقط القبطان، وهو ينزل من درج المبنى ليتهشّم حوضه، وليعترف قائلا:» أصابتني لعنة العمانيّ «(104). ما نلاحظه أنّ تأثّر رواية « الأعتاب « بالكرامة الأدبيّة كان واضحا وجليّا، فالرّواية تنفتح على كلّ الأجناس والمعارف الإنسانيّة، وقد ساهمت الكرامة الأدبيّة في مواصلة السّرد وكسر الخطّ الزمنيّ للأحداث، فالرّواية من الحاضر تعود إلى الماضي، وتستشرف المستقبل. واستعمل الرّاوي تقنيات عديدة، منها السّابقة واللّاحقة السّردتين، إضافة إلى التّضمين، ولكن الأصل في الكرامة الكتم والسّرّ، فمن بعثها من السّرّ إلى العلن؟ إنّ الذي ينقل الكرامة هو المريد، وهو تلميذ الشّيخ الصّوفيّ، لكنّ مستهيل ليس صوفيّا، وإنّما هو أقرب إلى العابد، ولا مريد له، ولذلك كاتب الرّواية يلعب لعبة فنّيّة تتمثّل في تحويل الرّاوي إلى مريد لبطله في رواية « الأعتاب «، بل إنّ الرّاوي هو راو عليم، يعلم كلّ التّفاصيل عن مستهيل، فكأنّه رفيقه في رحلته التي تبدو في ظاهرها رحلة مادّية عبر المكان، وفي باطنها رحلة روحيّة عبر الرّوح والقلب، هي رحلة في ظاهرها بحث عن الجدّ، وفي باطنها بحث عن الحقيقة. إنّ الكرامة الصّوفية مجموعة من الأخبار تقوم على سند ومتن، لكن رواية « الأعتاب « لا تقوم على هذه البنية، فقد استفادت هذه الرّواية من الكرامة في جانبها المضمونيّ أكثر من الجانب الفنّيّ. رواية « الأعتاب « تفتح أبوابا نقديّة عديدة، ارتأينا أن نبحث عن علاقة هذه الرّواية بالكرامة الأدبية، لكن يمكن أن نلج إلى هذه الرّواية عبر مداخل أخرى، ومنها: الشّعريّ في رواية « الأعتاب «، الغريب والعجيب في رواية « الأعتاب «، التّصدير في رواية « الأعتاب «. رواية « الأعتاب « للشّاعر الأديب محمّد قراطاس تستحقّ القراءة، وتدعو النّقّاد بشغف لمعانقتها واكتشاف أسرارها، لكن ّمحمّد قراطاس يبقى الشّاعر أكثر منه الرّوائيّ. *الشاذلي عبد الصّمد: ناقد وكاتب وباحث تونسيّ، متحصّل على الماجستير في الأدب، له مقالات في عديد الصّحف العربية، له مجموعة قصصيّة « الأمور طيّبة »عن دار بورصة الكتب للنّشر والتّوزيع، القاهرة والشاعر، سوسة، تونس، ط 1، 2017، وشارك في مجموعتين قصصيتين ضمن عمل جماعيّ « أبجدية أولى» بأقصوصة « شيكو » و « عندما تورق الكلمات وقصص أخرى للأطفال بأقصوصة « الحفيدة».