معرفة المجتهد بالمواضع التي أجمعت فيها الأمة مطلوبة حتى لا يقع اجتهاده مخالفا للإجماع فيرد - أجرى اللقاء: سيف بن سالم الفضيلي - أكد فضيلة الشيخ الدكتور عبدالله بن سعيد المعمري عضو الهيئة التدريسية بكلية العلوم الشرعية أن المجتهد مطالب بمعرفة المواضع التي أجمعت فيها الأمة حتى لا يقع اجتهاده مخالفا للإجماع فيرد، كما أنه مطالب بالعلم باللغة العربية كشرط لبلوغ درجة الاجتهاد كونها وعاء القرآن ووعاء حديث النبي. كما حثّ فضيلته على الاطلاع على فنون العلم المختلفة وثقافات المختلفة للشعوب لتنمية الملكة الفقهية. ووصف فضيلته واقع طلبة العلم بأنه يشير إلى تحسن كبير في الملكة الفقهية بعد ظهور المدارس الشرعية المتخصصة على اختلاف أنواعها، داعيا إياهم بالسعي لبلوغ درجة الاجتهاد فهم الفقهاء الذين ننتظرهم بفارغ الصبر.. وإلى ما جاء في الجزء الأخير من اللقاء.
الشرط الثالث من شروط الاجتهاد العلم بالإجماع، لأن الإجماع هو المصدر الثالث للتشريع كما هو الحق؛ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ولأدلة أخرى أيضا.
وحسب دلالة الإجماع هذا مما لا نريد أن نخوض فيه هل هو قطعي أو هو ظني، المهم هو التثبت من ثبوت الإجماع ولذلك يجب أن يكون المجتهد عارفا بالمواضع التي أجمعت فيها الأمة حتى لا يقع اجتهاده مخالفا للإجماع فيرد كما هو معلوم كما يقول الإمام السالمي رحمه الله تعالى:
والرأي في غير الأصول جوّزا
   وواجب أن نتحرى الأجوزا
فالأصول ما هي التي أشار إليها؟ هي (الكتاب والسنة والإجماع) حين قال قبل ذلك:
والأصل للفقه كتاب الباري
       إجماع بعد سنة المختار
والاجتهاد عند هذي منعا
   وهالك من كان فيها مبدعا
وذهب بعض أهل العلم إلى القول: بوجوب العلم بالخلاف أي بين العلماء حتى انهم قالوا: من لم يعلم الخلاف لم يذُق طعم الفقه. فلذلك ينبغي أيضا معرفة أقوال العلماء حتى يستفيد منها هذا العالم خاصة أن هناك اجتهادات سبقته وهذه الاجتهادات قد يكون فيها ذكر أدلة للانتصار للقول الصحيح وقد يكون فيها ذكر اعتراضات فحتى لا يبدأ المجتهد من الأول فَلْيبني على ما وصل إليه غيره وقد يجده ملخصا وقد ينتبه لدلالة لم ينتبه لها أو يوجه إليه اعتراض لم يتفطن له فيحتاج إلى أن يعرف كيفية رده فهو لا شك يستفيد من ذلك جدا أو انه قد يستفيد نقطة مهمة جدا وهي تحرير موضع النزاع التي قد يغفل عنها بعض أهل العلم فيجب قبل القيام بالاجتهاد في مسألة تحرير موضع النزاع فيها لان هناك بعض النقاط أو المواضع قد تكون متفقا عليها بين العلماء ويضيع الوقت للاحتجاج لذلك وهو ما لا طائل تحته وهو مما ينبغي أن يوجه البحث إلى النقاط المختلف فيها على أن الخلاف قد يكون تارة شكليا فقط لا ثمرة له فلا حاجة لتوسيع المسألة والبحث العميق فيها مع أن الخلاف لا ثمرة له فالأمر قد يكون واسعا فيها فلذلك من الأهمية بمكان إدراك الفقيه لهذا الأمر.
بعد ذلك أيضا يأتي العلم باللغة العربية لأنها وعاء القرآن ووعاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم وذلك الشرط لبلوغ درجة الاجتهاد ومن لم يعرف العربية لا يعرف شيئا من الأحكام الشرعية لأنه لا يعرف معاني القرآن ولا معاني السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن كما الله تعالى بأنه أنزله بلسان عربي مبين وكذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم في اللغة العربية كما هو معلوم.
وعلم العربية يكون بالتوسع فيها قدر الإمكان بحيث يعرف هذا المجتهد نحوها وصرفها وبلاغتها ومعانيها وأدبها شعرا ونثرا وبلاغة وهكذا يتوسع فيها قدر طاقته.
قيل يشترط بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة العربية نفسها بحيث يخالف الخليل بن أحمد أن اقتضى الأمر أو سيبويه أو أئمة اللغة الآخرين وبعضهم لم يشترط ذلك وشيخنا الخليلي حفظه الله تعالى يتوسط في هذا الأمر يقول إن هذا لا يشترط إلا في مسائل معينة أن اقتضى الأمر الترجيح فيها فربما يتوقف استنباط الحكم الشرعي على الترجيح في دلالة لغوية معينة في مسألة نحوية أو صرفية أو غير ذلك فهنا يجب أن يكون المجتهد على هذا القدر ليتوصل إلى الحكم الشرعي وإلا فلا يلزم ذلك، لكن طبعا مع التبحر في علوم اللغة قدر الإمكان. والله تعالى أعلم.
النضج العقلي والفكري طريق الملكة الفقهية، هل توافقون على أن الاطلاع على الواقع والتعرف على الثقافات والفنون الأخرى ينمي الملكة الفقهية؟
وبذا يتبين أيضا بأنه حقا بالاطلاع على فنون العلم المختلفة وثقافات المختلفة للشعوب لا شك ينمي الملكة الفقهية لأن الإسلام أنزله الله تعالى ليصلح حياة الإنسان في معاشه وبعد سلوكه في معاده إن شاء الله تعالى أيضا ليسلم من عذاب الله عز وجل ويفوز بنعيمه سبحانه وتعالى ويفوز برضوانه قبل ذلك.
فشرع الله تعالى صالح لكل زمان ومكان، فالفقيه مثلا أن أراد أن يبحث حكم مسألة اقتصادية من الناحية الشرعية فيجب أن يكون مطلعا على حقيقة تلك المسألة وربما يستعين بالمتخصصين فيها ولكن يكون لديه اطلاع على قواعد الاقتصاد في هذا العصر.
وكذلك ما يتعلق بالمسائل الطبية وكذلك ما يتعلق بالمسائل النفسية والاجتماعية بحيث يكون لديه اطلاع كافل على علم النفس والاجتماع حتى يعرف طبيعة النفس البشرية ونحو ذلك من علم يحتاج إليه وهذا لا شك إن شاء الله تعالى ينمي فيه الملكة الفقهية ويجعل الظن غالبا في إصابته لكبد الحقيقة للوصل إلى الحكم الشرعي أو الاجتهادي الصحيح إن شاء الله تعالى.
ما الأهمية التي تمثلها دراسة مقاصد التشريع في تكوين الملكة الفقهية؟ وهل يوجد قصور في تدريسها وتضمينها في العلوم الشرعية؟
وقد تبين كذلك بالنسبة لمقاصد الشريعة أهميتها في الاجتهاد حتى عد بعض أهل العلم شرطا لتحصيل ملكة الاجتهاد على أن العلماء السابقين أن لم يصرحوا بعينها إلا أنها داخلة في كلامهم ولا شك لان الشرع إنما جاء لتحقيق منافع الناس ودفع المضار عنهم فمعرفة ذلك ضرورية وهذا واضح من الرجوع إلى آيات الكتاب العزيز وأحاديث النبي المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ولكن الذي ينبغي أن ينتبه له أيضا أن الالتزام بالنص الشرعي هو الذي يحقق مقاصد الشريعة السامية فهناك ربما من يبالغون في العناية بالمقاصد في دعواهم للتفلت من قبضة الأحكام أو النصوص الشرعية فربما دخل من ذلك شيء من الهوى في اعتبار المصلحة، على أن العلماء السابقين نصوا على أن العمل بالنص هو المصلحة وكذلك نبهوا على أن المصلحة المقصودة هي التي اعتبرها الشرع لا حسب اختلاف أهواء الناس فأي مصلحة إذا كانت مخالفة للاعتبار الشرعي فلا عبرة بها، وردوا على من زعم انه تقدم المصلحة على النص وان كان هناك تفصيل في هذا الأمر ولكن على كل حال هذا الأمر هو الغالب أن شاء الله تعالى فيجمع بين هذين الأمرين على تفصيل في ذلك.
بحكم قربكم من طلبة العلم، كيف تقومون وضع الطلبة في هذا الجانب؟ وما تقويمكم للجو الفقهي؟
أما بالنسبة لواقع طلبة العلم فيما يتعلق بالملكة الفقهية فلا انه هناك تحسنا كبيرا والحمد لله بعد ظهور المدارس الشرعية المتخصصة باسم المعاهد او الكليات الشرعية على اختلاف أنواعها او تخصصاتها مع سبق العلماء الربانيين في تربية الطلبة وتعليمهم وتنشئتهم التنشئة الصحيحة التي تعتمد على القواعد الصحيحة وهذا يبشّر بخير إن شاء الله تعالى ويظهر ذلك في البحوث التي يقدمونها على مستوى الدراسات العليا خاصة كالماجستير والدكتوراة أو ما بعد ذلك من أوراق العلم سواء كان ذلك في مؤتمرات أو ندوات أو نحو ذلك وكذا في المؤلفات التي بدأت تطفوا على الساحة وخاصة في معرض الكتاب وغيره أيضا فالحمد لله هناك صحوة علمية نرجو أن تكون رشيدة لولا ما يعكرها من ظهور بعض من ينتسب إلى العلم وربما انخدعوا بالتيار العقلي الذي وفد إلينا من أماكن أخرى فإذا بهؤلاء يتطاولون على قامات العلم وإذا بهم بعد ذلك يتطاولون على النصوص الشرعية وخاصة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ليزعموا نقدها أو تقبل ما شاؤوا منها أو دحض أو ردّ ما شاؤوا منها دون أن يكونوا على بينة من أمرهم لأنهم لم يعتمدوا في ذلك على قواعد علمية رصينة من لغة أو أصول فقه أو علم الحديث أو نحو ذلك من قواعد التفسير وإنما غالب أمرهم التشبث بالعقل الذي هو في الحقيقة نوع هوى وإلا فالعقل لا يحكم في هذه المسائل التي هي ممكنة في نفسها اللهم في بعض الجوانب القليلة مما يتعلق كما يقول أهل العلم بالواجب والمستحيل ولهم تفصيل في هذا الأمر، نعم العالم الذي تمكن من القواعد ولديه ملكة في العلم يستعين بعقله الذي آتاه الله تعالى لان الله سبحانه وتعالى أمره بالاستعانة به والتفكر به واستعماله وهذا ما يتفاضل فيه اهل العلم حينما يتنازعون دلالات معينة او مواقف معينة أما طلب العلم فحسبه في بداية أمره أن يلزم غِرز العلماء باتباعهم وسؤالهم كما قال الله تعالى «فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون».
ثم بعد ذلك ان استكمل شرائط الاجتهاد فالباب مفتوح إن شاء الله تعالى لكل مؤهل، هذا باب فتحه الله تعالى لا يملك أحد سده، أما أن يتطاول على ذلك أحد بدعوى فتح باب الاجتهاد فهذا أمر خطير لأنه تعرض لإبطال الأحكام الشرعية وردها وإيقاع الفتنة في هذه الأمة بالتأويل غير الصحيح كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين قال «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهّالا سألوهم فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا».
ودعوى البعض بأن الاجتهاد لم ينحصر في علماء معينين أو فيمن حصل على تخصص في علم الشريعة كالدكتوراه نعم نقول بأن باب الاجتهاد مفتوح ولكن له شرائط فمن تحصل على هذه الشرائط كان المفتاح بيده ويستطيع أن يفتح الباب أما إن لم يتحصل على تلك الشرائط فليس له أن يقحم نفسه وإلا عدّ متقولا على الله بغير علم والله تعالى توعّد هؤلاء كما في قوله «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون».
ولقد اشتد نكير الإمام السالمي رحمه الله تعالى على بعض المتعالمين في عصره لأنهم نازعوا أهل العلم الاجتهاد وهم لم يبلغوا تلك الدرجة وكان الواجب عليهم التسليم لأهل العلم لا مقارعتهم او مقارعة أنفسهم بهم بغير حجة ولا دليل، فيقول في جوهر النظام مثلا:
والحق في مسائل الخلاف
     عند جميع القائلين وافي
لكنه ليس يجوز أبدا
       لغير عالم بها يجتهدا
وإنما يرجّح الأقوالا
   من علم الحجة فيما قال
هكذا كلامه رحمه الله تعالى.
وفي طلعة الشمس حين تعرض لشرح أبياته في شمس الأصول في هذه الألفية الكريمة المباركة وذلك حين ذكر قدر أصول الفقه وفضله وأثره وثمرته قال في شرحه: وقد رغب عن ذلك -أي عن دراسة علم أصول الفقه العناية به – كثير من أهل زماننا لجهلهم بما فيه من التحقيق وصعوبة ما فيه من التدقيق فقصارى فقه متفقههم حفظ أقوال الفقهاء وغاية نباهة أحدهم حكاية ما قاله النبهاء لا يعرفون غثّ الأقوال من سمينها ولا خفيفها من رزينها قد حُبسوا في التقليد المضيق عن فضاء التحقيق وليت أحدهم لمّا وصل هنالك عرف منزلته بذلك ولم يدعي منزلة ابن عباس ويقول هلموا أيها الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون ذهب العلم وأهلوه وبقي الجهل وبنوه».
فلئن كان هذا في عصره رحمه الله تعالى فما عساه ان يكون في عصرنا هذا نسأل الله العافية.
كلمة لطلبة العلم؟
الذي أدعو إليه طلبة العلم أن يسعوا لبلوغ درجة الاجتهاد فهذا من علوّ الهمة وهذا الذي ندعو إليه وهؤلاء هم الفقهاء الذين ننتظرهم بفارغ الصبر وهذا واجب على الحقيقة كما قلت في هذه الأمة لتتضافر الجهود من قبل المسؤولين وأولي الأمر ومن قبل الأغنياء ومن قبل العلماء الربانيين ومن قبل طلبة العلم أنفسهم ومن قبل ذويهم لدفعهم للتخصص في هذه العلوم كل هؤلاء يتعاونون حسب مسؤولياتهم فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيه للوصول او لتحقيق هذه الغاية النبيلة ان شاء الله تعالى، وبهذا تنهض الأمة ويحصل الخير ان شاء الله تعالى.