زهران بن ناصر البراشدي -
قاض بالمحكمة العليا بمسقط -
وقالوا: وإذا كان أصحاب الرأي القائل بعدم سماع الدعوى بمضي سنين معينة، قد راعوا مصلحة المدعى عليه، فقد أغفلوا في الوقت نفسه مصلحة المدعي، الذي قد يكون معه من وسائل الإثبات ما يستطيع بها أن يبين بجلاء حقه المدعى به.
والجواب على ذلك كسابقه أضف إليه أن الحقوق تقضى والأوراق تبقى وقد يحتفظ الواحد بوثيقة ليس لذات الحق المكتوب بها وإنما للاستفادة منها بما تحمله في طياتها من معان وألفاظ كما هو الحال الواقع الآن في البحث عن مكنونات التراث وتسابق الباحثين فيه، فقد يجد الآن الباحث وثيقة فيها حقوق قد مضت عليها السنون والأعوام وتغيرت من واحد للآخر فهل ستقولون بإقامة الدعوى وسماعها ممن ورد ذكر اسمه أو مورثه فيها؟!! «إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ».
ومن البعد بمكان أن يسكت أحد عن حقه دون مطالبة سنين عديدة وأعواما مديدة، دون سبب شرعي ودليل حديث الحيازة يدل على ما قلناه وليست سائر الأموال بأشد من الحيازة بل كان معظم مال الناس آنذاك العقار.
قالوا: وأن أقصى ما يمكن نسبته إلى المدعي هو الإهمال والتفريط في طلب حقه طوال السنين الماضية... إلخ. مع استدلالات أخرى عند الفقهاء كلها اجتهادية.
وأجيب، إن صح ما قلتموه فالتفريط والإهمال هما اللذان يجلبان المصائب للإنسان، وقد يفقد نفسه وماله وأهله وأحباءه بسبب ذلك والأدلة على ذلك كثيرة واضحة لا تحتاج إلى إيضاح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قالوا: وأن ما استثناه الشارع من ذلك، فهو المأخوذ به وما عداه فباق على الأصل وذلك في الحيازة الظاهرة في العقارات. وأجيب بأن الحيازة التي نص عليها الشارع هي مثال للأموال عامة في عدم سماع الدعوى بمضي المدة وليست سائر الأموال بأشد منها، وأنى لكم بدليل على ذلك ولا دليل، والأصل في أحكام الشارع العموم فلو أراد بها الخصوص لبين صلى الله عليه وسلم ذلك ولا بيان وحاشاه أن يترك الأمة على عمى وقد لحق بربه والدين كامل والنعمة بالإسلام تامة.
وإليك ما جاء في الحيازة وأبدأ أولا بالتعريف: الحيازة لغة: الضمُّ والجمع، وكل من ضم شيئا إلى نفسه من مالٍ وغيره فقد حازه.
واصطلاحا: وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف فيه تصرف المالك في ملكه.
أما التقادم ففي القانون: التقادم بشكل عام هو انقضاء مدة معينة على الحق يحددها القانون دون أن يطالب به الدائن أو دون أن يستعمله صاحبه من غير عذر مقبول مع إنكار الخصم له.
أثر ذلك عدم سماع الدعوى بمضي تلك المدة مع عدم المطالبة من غير عذر مانع لمستحقه من المطالبة ومع إنكار الخصم له.
لأن ترك الدعوى زمانا مع التمكن من إقامتها، يدل على عدم الحق ظاهرا.
وعدم سماع الدعوى بعد المدة المحددة ليس مبنيا على سقوط الحق في ذاته وإنما هو مجرد منع رجال القضاء عن سماع الدعوى مع بقاء الحق لصاحبه فيما بينه وبين ربه حتى لو أقر الخصم لزمه أداؤه، ولو كان التقادم مسقطا للحق لم يلزمه.
لذا لا يعتبر التقادم سببا من أسباب انقضاء الدَّيْنِ شرعا؛ لأن الحق ثابت لاصق بذمة من عليه الدين لمن هو له، لا يسقطه تقادم الزمن مهما طال. ولكن تقادم الزمن يؤثر في منع سماع الدعوى إذا كان المدعى عليه منكرا، والمدعي لا عذر له في ترك المطالبة.
وهو لغة: مصدر تقادم يتقادم تقادما يقال: تقادم الشيء أي: صار قديما.
واصطلاحا: مضي زمن طويل، على حق أو عين في ذمة إنسان، لغيره دون مطالبة بهما، مع قدرته عليها.
والتقادم بهذا المعنى يشمل الحقوق الشخصية والحقوق العينية. والمراد بالشخصية: العلاقة بين شخصين فأكثر في حق بينهما أو تقول: ما يمثل علاقة أو رابطة بين دائن ومدين يخول هذا الحق مطالبة الدائن للمدين بأداء ذلك الحق أو القيام بعمل أو الامتناع عنه. وتشمل هذه الحقوق: الدين، والعرض، والنفس، والمال، والوطن. الخ.
وتنقسم إلى شخصية محضة وغير محضة فالحقوق الشخصية المحضة هي التي تثبت للإنسان باعتبار شخصه وذاته وما يتوفر فيه من صفات ومعان تميزه عن غيره، مثل حق الحضانة، وحق الولاية على النفس والمال، وحق المظاهر في العود، وحق الفيء بعد الإيلاء، وحق أرباب الوظائف في وظائفهم فإنها تسقط بموت ذويها أو أصحابها ولا تورث عنهم...»
وهي إما قابلة للإسقاط وإما غير قابلة والأصل أن جميع الحقوق الشخصية تقبل الإسقاط بخلاف الأعيان، كحق القصاص وحق الشفعة وحق الخيار. وإسقاط الحق إما أن يكون بعوض أو بغير عوض. أما التي لا تقبل الإسقاط فكالحقوق التي لم تثبت بعد: كإسقاط الزوجة حقها في المبيت والنفقة المستقبلة، وإسقاط المشتري حقه في خيار الرؤية قبل الرؤية، وإسقاط الوارث حقه في الاعتراض على الوصية حال حياة الموصي، وإسقاط الشفيع (الشريك أو الجار) حقه في الشفعة قبل البيع. كل هذا لا يسقط؛ لأن الحق نفسه لم يوجد بعد. وكالحقوق المعتبرة شرعا من الأوصاف الذاتية الملازمة للشخص: كإسقاط الأب أو الجد حقهما في الولاية على الصغير، فإن الولاية وصف ذاتي لهما لا تسقط بإسقاطهما. الحقوق التي يترتب على إسقاطها تغيير للأحكام الشرعية كإسقاط المطلق حقه في إرجاع زوجته، وإسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة، وإسقاط الموصي حقه في الرجوع عن الوصية. ومنها إسقاط مالك العين حقه في ملكها، لا يقبل الإسقاط؛ لأن معنى إسقاط حقه في ملكها إخراجها عن ملكه إلى غير مالك، فتكون سائبة لا مالك لها، وقد نهى الشرع عن السائبة التي كانت في الجاهلية بقوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) والحقوق التي يتعلق بها حق الغير: كإسقاط الأم حقها في الحضانة، والمطلق حقه في عدة مطلقته، والمسروق منه حقه في حد السارق؛ لأن هذه الحقوق مشتركة، وإذا كان للإنسان ولاية على إسقاط حقه، فليس له ولاية على إسقاط حق غيره».
وبالعينية: السلطة المباشرة للشخص على شيء مادي بعينه يحقق له منفعة خاصة به. أو قل: هو المتعلق بعين الشيء وصاحبه يستطيع أن يباشره دون وساطة أحد.
والحق: إما عين أو منفعة والمنافع تعد من الأموال المتقوّمة؛ لأن الأشياء أو الأعيان تقصد لمنافعها لا لذواتها، والغرض من جميع الأموال هو منفعتها. وهنالك تقسيمات أخرى ليس هذا محلها.