كتابات عُمانية مُبَكرة «1»
مَثلَتْ الكتاباتُ العُمانيةُ المبكرة الحضور الثقافي العُماني في وسائل البث الثقافي المختلفة، وقد تنوَّعَت بين مقالاتٍ منشورة في الصحافة، ومقالات مبثوثة في الكتب الصادرة مثل «الافتتاحيات والمقدمات والتقاريظ، والتمهيدات، وقصائد الشعر ونصوص المسرح والقصص، وأنماط السرد، وقد كتبها مبدعون وصحافيون وإعلاميون، وفقهاء، وقضاة، ومؤرخون، ومعلمون، ورجالُ دولة، وساسة، وكتَّاب محترفون، وحُكَّامٌ وسلاطين، وشيوخ قبائل، ومثقفون عامون هواة مهاجرون ومقيمون عرباً ومستشرقين»، وقد شملت هذه الكتابات مختلف التخصصات والمواضيع والأغراض، فمنها ما كتب في مجال اللغة والأدب ومنها من شمل كتب الفقه والشرع والعقيدة، وكثير منها ما فتتح به كتب التاريخ والسياسة، وكان حظ الفقه والعقيدة النصيب الأوفر منها.
وفي هذه السلسلة سنتناول هذه الأجناس المتنوعة الإبداعية منها وغير إبداعية؛ التي بثتها وسائل المعرفة بدءًا من الصحف الاثنتي عشرة الصادرة في المهجر الإفريقي مرورا بصحيفتي «عُمان» و«الوطن» وصحيفة «الاتحاد» الإماراتية ومجلتي «الغدير» و«الثقافة الجديدة» و «السراج» إضافة إلى مجلات وصحف «صوت الأرض» و«9 يونيو» اللتان أصدرتهما ما كان يعرف بالاتحاد الوطني لطلبة عُمان والجبهة الشعبية الديمقراطية العُمانية، وكذلك «صوت عُمان» و«نزوى» اللتان كانتا تصدران عن مكاتب إمامة عُمان بالقاهرة وبيروت، وبعض الدوريات المتقطعة التي تصدرها الملحقيات الثقافية بسفارات سلطنة عُمان من مثل «المزون» و«الطالب» و«جبرين» و«الرائد» و«المزون» و«الشبيبة»، و«المعالم» التي كانت تصدر في لندن عام 2000م.
ولا ننسى المقالات الأولى التي نُشِرت في بعض المجلات الكويتية والبحرينية والجزائرية والقاهرية والدمشقية والبيروتية في النصف الأول من القرن العشرين؛ إذ كانت هذه المقالات بمثابة اللُّقَى الثمينة التي اصطدناها من خضم بحر الصحافة العربية الهائل والمدونة الثقافية للكتب والدوريات، ويعود اهتمامنا بهذا المبحث كون هذه الكتابات لم تكن تشكّل لنا مصدر ريادة عُمانية وحسب، بل إنها بخطابها الثقافي المبكرة تثبت أيضا ذلك الحضور والتفاعل العُماني المبكر المتسم بالجرأة في طرح القضايا المختمرة في ذهنية الشخصية العُمانية في ذلك الوقت المبكر.
وقد حددنا فترة الريادة بفترة نشوء المطبعة وانبثاق الحركة الثقافية وتبلور الوعي الفكري وازدهار الكتابة واتخاذها أداة لتنوير العقول وهدفاً للإصلاح الاجتماعي وخاصة في فترة الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين وما تبعها من فترة خصبة تقع في حدود الثلاثين سنة الأولى من النهضة العمانية في عهد السلطان قابوس أي ما بين الواقعة بين عام1970 - 2000 لكونها من أخصب الفترات، وأكثرها نشاطاً وتألقاً وكثافة في مجال كتابة المقالات وإصدار الكتب والموسوعات ومعالجة القضايا على كافة الأصعدة سياسيًّا واجتماعيا وثقافيا عاماً، فهي تساير ذلك الحضور للحراك الإنساني الذي بلوره الشعر على نحو ما عالجناها في كتابنا «الشعر العُماني والقرن العشرين».
إن هذه الكتابات المنشورة في الكتب كمفتتحات، أو تلك التي حوتها الصحف والمجلات والدوريات تشكّلُ في تقديمها الأول ريادةً مبكرة وحضور نوعيٍّ للمثقف العُماني خارج وطنه وداخله، وتعود أهميتها إلى كونها مبثوثة في منابر إعلامية وثقافية وأكاديمية محلية وعربية وعالمية رائجة ومقروءة، وجاءت في وقت تكونت فيه وسائل الاتصال والمثاقفة؛ إذ يعود بعضها إلى قرابة قرن أو نصف قرن من الزمان، وجاءت في وقت قلَّت أو انعدمت فيه الكتابات الهادفة والإبداعات المستنيرة التي قدَّمت اسم عُمان وأحاطت بثقافتها وتاريخها وأعلامها وخطاب حياتها كدولة محورية ذات صيت تاريخي بالغ الأهمية، وقد قُدِّر لبعضها الانتشار بفعل ما عرضته من مواضع هادفة وبنى تنويرية وإصلاحية سايرت مساقات العصر ولامست حياة الفرد وفكره وقضايا المجتمع ومن التبس فيه من أشكال الارتهان الثقافي والمعرفي وأحياناً الطوارئ والتجاذبات.
كما ترجعُ أهميتها إلى كونها تمثلُ انعكاساً لصورة عُمان ومواقف مثقفيها وما يعتملُ في فكرهم ووجدانهم من أطروحات سياسية واجتماعية وفكرية ذات صلة بالحراك الإنساني وما انبثق عنه من أشكال الارتباط مع الآخر العربي باعتبار أن عُمان جزء لا يتجزأ من منظومة الأقطار العربية وذات مكونات مرجعية راسخة وعميقة، وإنسانها إنسانٌ متجذر في تربة خصبة؛ معتز بعروبته وتراثه وجذوره ومرجعياته، وهذه الكتابات مثلت على الدوام المرآة العاكسة لهذا الإنسان ووطنه ومستوى تفكير، وطرائق معالجته لقضايا جوهرية مصيرية يتعلق بعضها بتقبل طوارئ العصر وأسس الحضارة الجديدة، ومعهما سائر المواقف السياسية المتوهجة في ذلك الزمن المتحول كالموقف من الاستعمار والتحرر وبناء الدول والكيانات. وبغض النظر عن مستوى هذه الكتابات المبكرة، وما رسمته من صورة أولية من صور التفكير والتجريب ووجهات النظر والمقاربة، فإننا نراها حية قابلة لإعادة الكتابة والنشر بغض النظر عن مستوى خطابها وبناه، فنحن غير معنيين بمحاكمتها ونقدها؛ لذا لن ننظر إليها بمقاييس التطور الذي حلَّ في التفكير والبنى الفنية للنصوص المنتمية إليها سواء كان مقالات أم قصائد أم نصوص مسرحية أم أجناس أخرى، ذلك أننا سخرنا رؤيتنا نحو حضورها التاريخي في وسائل البث الثقافي، وبيان أسماء كتابها الذين ربما توقف بعضهم عن الكتابة، أو ممن وضعوها لبنة تشكيلية ترسمُ خطواتهم الأولى في عالم الكتابة والإبداع وكأنها شاهدة عليهم ولهم، ومؤرخة لحضورهم وإن غابوا عن دنيانا، أو توقفوا واضمحلت مواهبهم وانزووا فكانوا في عالم النسيان؛ لهذا فإننا اليوم نفتح عالمهم ونعيد ذكراهم بعدما طوتهم عربات النسيان فتقادم عهدهم ولم يَعُدْ لبعضهم حس ٌولا ركس، وقدرنا أننا نلامس تجارب مبكرة غضة حظها من النضوج في بعض الأحايين قليلا، ولكنها تعطي مؤشراً قاطعاً على مستوى أحقية المشاركة والتفاعل والحضور المبكر الذي تخلقه الكتابة في زمن الظلام، أو قل زمن الريادات؛ إذ يعزَّ من يمتهنها ويضعها نبراساً وخارطة طريق في حياته انطلاقا من أهمية الكتابة وأدواته الخالدة وكما قيل:
يَدُومُ الخطُّ في القُرطاسِ دَهْراً وكاتبُه رميمٌ في التُّرابِ
لقد كانت هذه الكتابات محصلة بحثنا الطويل المضني في المضان التي نحسبُها حاضنة لهذه الكتابات، أو حافظة لها، وكان أولها الصحف، وثانيها الإصدارات القديمة من دواوين وكتب فقه وتاريخ ومجتمع، وثالثها المجاميع والدفاتر و»الكرارييس» المدرسية، وكلَّها مصادر أسعفتنا في تكوين صورة كلية بل نتيجة مجملة حتمية تدلُّ على مدى تفاعل الشخصية العُمانية مع الآخر المحيط، وبذلك كسرت المقولة السائدة بأن عُمان في ذلك الزمن منعزلة غارقة في أتون التخلف والظلام الدامس، وأن شخصية مواطنيها لم تكن إلا شخصية خدمية استقطبتها الأقطار التي عاشت فيها هذه الشخصيات.
وأيَّا كان مستوى الخطابات التي كرستها هذه الكتابات والقيمة التي تحتويها، فإنها عززت مبدأ الشراكة الثقافية التي قام بها كتاب تلك الكتابات، وأوجدت لهم حضوراً يدل على أنهم حملوا مشعل العلم والقلم والحضارة أينما كانوا، فالعُماني عرف بجلده وصبره وامتلاكه لأدوات المثاقفة التي جعلت منه شخصية حيوية مرنة تنبي على أسس ومرجعيات أصيلة أفرزتها تربة الوطن أولا، وكرستها المهاجر التي بنوا فيها حضارتهم ثانياً، ونخصُّ بالذكر المهاجر الإفريقية والمهاجر الخليجية، والمهاجر العربية، وقد كانت الأولى «الوعاء الأكثر حفظا لهذه الكتابات»، كما أنها التعبير الصادق عن ذلكم الوجود العربي العماني الإسلامي الممتد إلى أعماق الوجود البشري، ومن بين من يتبدى فيها أقلام تناولناها في كتابنا «الصحافة العُمانية المهاجرة»، ونذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر أسماء الشيخ هاشل بن راشد المسكري، والشيخ ناصر بن سليمان اللمكي، وابنه الشيخ محمد بن ناصر اللمكي، والشيخ مسعود بن علي الريامي، والشيخ محمد بن هلال البرواني، والشيخ سالم بن محمد الرواحي، والشيخ عبدالله بن سليمان الحارثي، والشيخ أحمد بن حمدون الحارثي، والمعلم سعيد بن عبدالله بن غابش، والشيخ محمد بن سعيد الكندي، والأستاذ أحمد بن محمد الجمالي، والشاعر عبدالله بن صالح الفارسي، والشاعر خالد بن هلال الرحبي، والأمين بن علي المزروعي، والسيد سيف بن حمود بن فيصل والسيد سالم بن كنده ، وقبل هؤلاء الأقلام الأولى التي خطَّت مقدمات الكتب ومفتتحاتها وسجلت رحلات السلاطين ومنجزات الأئمة التي اعتبرتها فتحاً ؛ فالذكرة الثقافية تحفظ لنا على صعيد المطبوع أول كتاب يصدر من المطبعة السلطانية بزنجبار المتمثل في رحلة السلطان برغش بن سعيد (1870-1887) من زنجبار إلى بريطانيا المسمّى «تنزيه الأبصار والأفكار في رحلة سلطان زنجبار» الذي خطه ورتبه وجمعه جمعة بن زاهر بن سعيد البحري الكاتب الأول في دار السلطان برغش، ثم رتبه ونقح أبوابه الكاتب الصحفي لويس صابنجي سنة 1931م، وصدر عن مطبعة النخل سنة 1878م.
وينضاف إلى تلك الكتابات المبكرة ما اضطلع به العُمانيون والمستشرقون والعرب من جهود في مجال إصدار الكتب والعمانية وتنقيحها، ويرصد الباحث سلطان الشيباني في كتابه المهم (ص 60 ) وما بعدها «تاريخ الطباعة والمطبوعات العُمانية عبر قرن من الزمن» أسماء ونماذج قامت بهذا الجهد الحضاري، فيذكر أسماءَ المستشرقين أمثال «فريتس كركو» الألماني الذي عُني بتحقيق كتابي «الجمهرة» و«المُجْتبى» للعلَّامة العُماني النحوي ابن دريد، كما يذكر جهود «وليم رايت» المستشرق الإنجليزي الذي أصدر رسائل ابن دريد وابن كيسان، وكذلك «هنري فوسستنفلد» الألماني الذي عني بكتاب «الاشتقاق» لابن دريد، وهاينريش توربكه الألماني الذي نشر بالعربية كتاب «الملاحن» لابن دريد، وجبرييل فيران الذي قدّم للمكتبة العربية كتاب «الفوائد في أصول علم البحار والقواعد» للملاح العُماني أحمد ابن ماجد»، وأيضاً برنهارت مورتس الذي أصدر مؤلفاً سمَّاه «السموط الدرية في الخطوط العربية» وهي مجموعة مكاتيب عربية وزنجبارية وعُمانية»، وكذلك المستشرقة الألمانية «هيدفيج كلاين» التي قامت بتحقيق جزءٍ من كتاب «كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة» لمؤلفه سرحان الأزكوي، وصدر في طبعته الأولى في هامبورج بألمانيا سنة 1938م، وكذلك المستشرق والمنصَّر «جورج بادجر» الإنجليزي الذي عني بترجمة كتاب «الفتح المبين في سيرة البوسعيدين» لابن زريق، وقدّمه بعنوان تاريخ أئمة عُمان وأسيادها « عام 1871 م».
كلّ هذه الجهود تبعتها جهودٌ موازيةٌ جاءت بعضها متأخرة عن جهود المستشرقين الذين اعتنوا بالتراث العربي قاطبة لدواعٍ استشراقية لا تخلو من غايات تنصيرية، وتجلَّت فيما قدّمه البحاثة والمحققين والمثقفين والمحققين العرب، ومثلت جهودهم الحفر الأول في مجال الكتابة العُمانية، أو كان لهم حيز السبق قبل العُمانيين أنفسهم، فالتاريخ الثقافي -كما يقول الشيباني في كتابه السابق ص 66 «يسجّل لنا مساعٍ حميدة مبكرة قام بها الشيخ قاسم الشماخي وزميله مصطفى العمري، وكذلك الشيخ أبو إسحاق اطفيش والشيخ أبو القاسم الباروني ، وقبلهم صاحب المطبعة البارونية الشيخ محمد بن يوسف الباروني الذي كانت له اليد البيضاء في نشر كتب التراث العُماني، يليه عيسى بن يحيى الباروني محقق جامع ابن بركه، والشيخ صالح الثميني محقق جامع أركان الإسلام ومراجع كتاب العقد الثمين،ومحمد رشاد عزمي وغيرهم».
بيد أن هذه الجهود التي قام بها العرب اتكأت على عنصرين أساسين الأول مذهبي تجلّى في الغيرة على مصنفاتٍ المذهب الإباضي التي كتبها عُلماء عُمانيون ومحاولة بعثها ونشرها في المحيط الإباضي الممتد في أقطار الشمال الإفريقي والمتواصل إلى شرق إفريقيا وعُمان التي كانت غارقة في أتون العزلة الثقافية والبعد الجغرافي وما صحبهما من تخلف وجهل واستشراء الأمية، فكان مطب التنوير والإصلاح غاية سامية أسسا جوهريا يندرجان في حماية العقيدة والدين قبل كلّ شيء، والثاني سياسي يدخل في إطار أجندة مكاتب إمامة عُمان في الأقطار العربية، وقد أنتجت كتبا ودواوين وكتابات أولى مبكرة جسدتها الايديولوجيا الإمامية انبثاقا من الفكر السياسي والعقيدة السياسية التي حملتها، وقد أفرزت محصلة لا بأس بها الإصدارات مثلت نماذج الكتابات العُمانية المبكرة، واستقطبت محققين عرب مهمين شأن الأستاذ عز الدين التنوخي وعبدالستار أو غدّه و عبدالله الشيتي، والأول كان قلمه المتمثل في افتتاحيات الكتب مثالا للكتابات العُمانية بأقلام عربية على نحو ما سنرى لاحقاً.
ويضاف إليهم الأدبيات التي قدَّمتها التنظيمات السياسية المنبثقة من خطاب المرحلة وايديولوجيتها وتحضر لنا الصحف والمنشورات التي اضطلعت بها القوى والمنظمات والحركات اليسارية والقومية وغيرهما على نحو ما سوف نفصل ذلك في أوانه وموقعه من هذه القراءة الاستقصائية الإطارية للكتابة العُمانية المبكرة.
أمَّا ما عُنِي به العُمانيون أنفسهم فقد تجلَّى في محورين محور وقع في عمان نفسها، ومحور اضطلعت به المهاجر العربية التي استقطبت الأقلام العُمانية، فكتبوا فيها بعض المقالات ونشرت لهم بعض الأخبار، ومن بينها الصحف القاهرية والدمشقية والمغاربية وبخاصة «صحافة أبي اليقظان الميزابي» وتلك التي أسسها بعض رجال التنوير والإصلاح بحسٍّ عقدي إباضي محض، وتحضر فيها مقالات متفرقة وقصائد المحقق سعيد بن خلفان الخليلي ونورالدين السالمي أبي مسلم البهلاني وأبي سلام الكندي وغيرهم؛ إذ استوجبت القضايا الدينية العقدية التعريف والإشهار والمنافحة عن مذهب بات أسَّاً متجذراً راسخاً في منظومة المذاهب الإسلامية المعتمدة بعيداً عن رؤى التجاذبات والتكفير، وكانت جهود الزعيم المُصلح سليمان باشا الباروني ونظرائه بارزة عينة.
وفي مجالات الصحافة الخليجية ستكون محطتنا المبكرة راسية عبر صحف ومجلات مملكة البحرين ودولة الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة حيث سنكشف عن أبرز الكتابات الأولى التي كتبها رائد الصحافة الخليجي وعرابها الأديب الشاعر الأستاذ عبدالله الطائي، وعلي بن محمد الجمالي، وأحمد بن محمد الجمالي، ويعقوب بن صالح الكندي، وسالم الغيلاني، وأحمد سالم آل جمعة وغيرهم.
إن هذه الشخصيات على اختلافها - وكلما قلنا في كتابنا «الصحافة العُمانية المهاجرة»- جزءٌ مهمٌ في تاريخ الفعل الثقافي العماني المبكر، ومن واجبنا إخراجه إلى النور وتجليته بعدما غارت معالمه في أغوار الصحف الورقية الصفراء؛ لتنكشف بوضوح تجارب المهمة حري بالأجيال الإفادة منها واستثمارها درساً وتجربة وتدريساً ورؤية وتطبيقاً في ظل التداعيات الراهنة وما صحبها من فقدان الهوية وسرقة التاريخ والاستيلاء على صناعه ومنجزاتهم بجرة قلم.
إن هذا الفعل الثقافي المبكر في جوهره عميق ومفيد ومصدر عمقه وإفادته يكمنُ في الجذر التاريخي المشكل له، وفي رسمه صورة تاريخية خالدة لعمان لا جدال فيها، فالعُمانيون لم يكونوا منعزلين عن إخوانهم العرب وكانت لهم قدم السبق في التواصل مع إخوانهم العرب وفي رسم خارطة طريق للثقافة العربية بعيداً عن أشكال الارتهان والعزلة والانحسار وما شابههما.
وفي هذه السلسلة التي نتوقعُ منها أن تكوين طويلة مستمرة، ستقع أعيننا على تتبع فيضٍ هائلٍ من الكتابات المبكرة، تذكيراً بها وتلمُّساً لما فيها من ابتكار وإبداع وموضوعات حيوية، وستكون محطتنا الأولى: الصحافة العُمانية المهاجرة عبر أسماءٍ باتت في عهدة التاريخ، وقد تناولنا إنتاجهم في كتابنا « الصحافة العُمانية المهاجرة » أو ممن أشرنا إليهم بشكل سريع خاطف، وكذلك تلك المدونات المخطوطة واللُّقى التي وجدناها ونحن نسبرُ أغوار الثقافة العُمانية، ووقعت في أيدينا منها مادة ذهبية، ومثلت مصدر - على الدوام- سؤالاً من قبل الباحثين والمهتمين بالشأن العُماني.
وعلى ذلك سيكونُ اهتمامنا بما حوته تلك الصحف، وتلك الافتتاحيات التي ضمتها بعض الكتب كمقدمات ومفتتحات لها على اعتبارها تشكّل موضوعاً عمانيًّا أثيرياً بغض النظر عن كاتبه، وقد أفردنا لهذا الجزء قسماً خاصاً سميّناه «الكتابات العُمانية المبكرة بأقلام عربية»، وتناولنا فيها الجهود الأولى التي قدّمها الكتاب العرب في إثراء الثقافة العمانية سواء على المستوى الثقافي العام أو المستوى الأكاديمي، وذلك بكتاباتهم في مواضيع العقيدة والفقه والمذهب الإباضي، أو مواضيع الأدب والنقد، أو مواضيع التاريخ والأعلام والسير على أن تكلك الجهود أبانت عن حس تربوي ووعي مبكر بمسارات الثقافة العمانية بما تذخر به من مكونات عريقة وعميقة قابلة لفعل الكتابة والتقديم.
وقد قُدّر لهذه الكتابات أن تكون السَّطر الأول الذي بنى عليه العُمانيون مسيرتهم الثقافية نحو تناول ثقافة بلدهم وتاريخها، وطرح قضاياها مستلهمين من تلك الكتابات الأسس المنهجية والرؤى الموضوعية المنفتحة على مشارب التفكير العربي بغض النظر عن مستوى بعض هذا التفكير أو تلك الكتابات الافتتاحية.
إن هذا الاهتمام الذي أبدته هذه الأقلام المبثوثة في الأعداد الأولى من هذه الصحف وكذلك الطبعات الأولى من الكتب والمؤلفات - لتنم عن وعيٍ وإدراكٍ بمفهوم المقالة على اعتبارها « تتناول الموضوعات التي يمتزج فيها الكاتب بين الفكر والعاطفة في عبارة واضحة منتقاة مع ملاءمة بين الارتباط الوثيق بين اللفظ والمعنى، وما يشيعه من إيحاءات « على حد قول الدكتور عبدالرزاق الطويل في كتابه «المقالة عند العقاد»، ص 170. كما أنها تتميز بالسمات الموفقة لكتابة المقالة من تحقيق عناصر السلاسة والانطلاق والعفوية والطراوة ومراعاة المقتضيات ، لتنقل القارئ إلى عالم المقالة روحاً وفكرا بما تثيره فيه من سوانح وأفاق، وما تخلق في نفسه من توقد وحيوية، لأنها تخلع عليه لباس السحر البياني المعجب وصور خيالية في غاية التجلي والتحليق، وتكسبها أساليب بيانية مضافة من شأنها أن تجعله منشداً إلى عالمها الخلاب، فكثير منها تعتمد على الفخامة اللفظية والجري الموسيقي الخلاب ، وعلى كل حال فالكتابات الأولى في مجملها قطعاً نثرية محدودة يتناول فيه موضوع عمانياً ما بشكل عفوي خال من التكلف والترهل والرهق على حد قول الناقد محمد يوسف نجم في كتابه « فن المقالة » (ص 94) .
بيد أن الميزة القوية الظاهرة في هذه الكتابات ارتباطها بالصحافة وبمقدماتِ الكتب ومراعاتها لواقع حال المتلقين المتشكلة أذواقهم والمتفاوتة مستوياتهم تبعاً لتكوينهم الثقافي والمعرفي وقبولهم لطوارئ العصر، فغلبت عليها النزعة الوجدانية والرؤى الرومانسية في البحث والاستقراء ومعالجة قضايا العصر بمنهجية علمية بعيداً عن الذاتية التي تكرس عاطفة الكاتب وحضور شخصيته أنها باختصار تبتعد قليلا عن الخاصية الأدبية، وتحاول أن تحقق الصدق الفني في نقل التجارب ومعالجة القضايا مهما كان نوعها ولا سيّما السياسية منها؛ فالكاتب في كتاباتنا العمانية الأولى، وعلى حد تفسير الناقد آرثر بنسن - يراقب الأشياء ويسجلها، ويفسرها كما تبدو له، ثم يجعل خياله يمرح في جمالها ومغزاها، والغاية من كل ذلك أن يحسّ إحساساً عميقا بصفات الأشياء وبسحرها، ويريد أن يلقي عليها نوراً خفيفاً صامتاً هادئاً يوقدها من خلاله ويُضيء مسالك ومكوناتها، وبذلك ينفد إلى فكر القارئ ويخلقُ فيه طاقة إيجابية تدفعُه للاستمرار في القراءة والاكتشاف، وأن يعدّهم للمفاجآت المفرحة والمحزنة وبخاصة في مفتتحات الكتب ومقدماتها، وبذلك تتحقق في كتاباتنا العمانية خواص المقالة كما سنَّها النقاد واعتمدها المتخصصون، وليس عجباً في ذلك فكتابها لديهم من المراس والتجربة ما يجعلهم كغيرهم من العرب موقنين بطرائق الكتابة حاملين معاولها محملين بجذوة الفائدة والاستفادة ، فحملوا رسالتها وقدّموها لنا نبراس حياة ومشعل ثقافة.
إن مجملَ القول في هذه الكتابات العُمانية المبكرة أنها قامت بجهود كتابها المثقفين الأوائل وهم المضطلعون بالإصلاح والتنوير مما يجعلهم رواداً فاتحين لجنس أدبي جديد ازدهر مع بزوغ نجم الصحافة العُمانية في المهاجر الإفريقية، وبالتالي جعل من مقالاتهم الخطاب الإصلاحي الأول سواء في بلدهم عُمان أو تلك المهاجر التي وجدوا فيها، الأمر الذي أسهم في نهضة النص النثري وكسر هيمنة الخطاب الشعري الذي هيمن على الذائقة لأزمان ويلة بما رافق ذلك من تغيير في الشخصية الثقافية، أو تكوّن مفاهيم التلقي فيها بالثورة على الخطاب القديم وتحقيق الاستنارة الفكرية والخروج عن مألوف الكتابة وسلطة الخطاب التراتبي في الكتابة، أنها في اعتقادي بداية الانعتاق والتحرر من الأساليب التقليدية في الكتابة، وهم بذلك يمثلون بدرة أولى بل لبنة من لبنات التجديد الأدبي لا محالة.