أ.د. حسني نصر - أثار ما نشرناه الأسبوع الماضي في هذا المكان عن الصحفيين والاحتراق الوظيفي، ردود أفعال عديدة، دارت في معظمها حول ضرورة البحث عن مخرج من الأزمة التي تعاني منها الصحافة والصحفيون ، ليس فقط على المستوى الوطني ولكن أيضا على المستويين الإقليمي والعالمي. ندرك جميعا ما يحيق بالصحافة من أخطار حقيقية، تتعلق بتفوق منصات النشر الإلكترونية، التي أصبحت الوسيلة الأكثر استخداما للحصول على الأخبار والمعلومات لدى غالبية الناس في العالم، في مقابل تراجع الصحف الورقية على مستوى الإنتاج والتوزيع. ومع ذلك ما زالت مهنة الصحافة، باعتبارها مهنة جمع وتوزيع الأخبار والمعلومات والآراء، تحتفظ بمكانتها كمزود رئيس لكل المنصات الإلكترونية، وكذلك محطات الإذاعة والتلفزيون بالمادة الصحفية. ولذلك نقول دائما إن تراجع النشر الورقي لا يعني تراجع مهنة الصحافة التي يحتاج لها العالم لتلبية حاجات الناس في الإعلام والتعليم والتنشئة الاجتماعية والتسويق والترفيه، بالإضافة إلى ممارسة الرقابة على أداء مؤسسات المجتمع المختلفة، وهي حاجات مستمرة لا علاقة لها بالتكنولوجيا التي تحمل الرسالة الإعلامية التي يقدمها الصحفيون. لهذا السبب يبدو من المهم الحفاظ على الثروة البشرية الصحفية التي تراكمت لدينا على مدى السنوات الماضية، والإضافة إليها، وليس التفريط فيها وتشجيعها علي ترك المهنة، وسد الذرائع أمام شباب الصحفيين الذين يخرجون بإرادتهم الحرة من العمل الصحفي بحثا عن عمل حكومي أكثر راحة وأكثر استقرارا. إن المتابع لتطور الصحافة في سلطنة عمان يستطيع أن يدرك دون عناء أن مهنة الصحافة أصبحت من أكثر المهن الطاردة، سواء لكبار الصحفيين أو للشباب. وقد أرجعنا ذلك في مقال الأسبوع الماضي إلى ظاهرة الاحتراق الوظيفي الناتجة عن زيادة أعباء المهنة والضغوط النفسية والعصبية التي تولدها من جانب، وضعف المردود المادي لها مقارنة بوظائف أخرى من جانب آخر. وقد جمعتني خلال الأسبوع الماضي عدة لقاءات بمجموعة من الصحفيين العرب بعضهم صراحة عن رغبتهم في ترك المهنة إذا حصلوا على عروض وظيفية بجهات حكومية. وأشار بعضهم، وبالأسماء، إلى مجموعة من أفضل الصحفيين تركوا المهنة من الباب الواسع، عبر استخدام حقهم المشروع في التقاعد المبكر، وتفرغوا لأعمالهم الخاصة، واتفقوا جميعا على ضرورة البحث عن مخرج للحفاظ على الكوادر الصحفية العُمانية. دعونا نتفق على أن أزمة الصحافة لا تتعلق بنقص التمويل، فالصحف الورقية لدينا ما زالت تحقق أرباحا خاصة من الإعلانات التي تمتلئ بها صفحاتها، وكذلك مواقعها على الويب وتطبيقات الهواتف الذكية الخاصة بها. قد يكون هناك انخفاض في الأرباح، ولكن ما زالت الصحف تربح وإلا ما استمرت في الصدور. وفي ظل غياب بيانات عن ميزانيات الصحف لا يمكن لأحد أن يزعم أن هناك خسائر قد تكون وراء تفريط الصحف في كوادرها بشرية بهذه السهولة. دعونا نتفق أيضا على أن الدولة ممثلة بوزارة الإعلام لا تدخر جهدا في دعم الصحفيين وتأهيلهم، وذلك عبر الدورات التدريبية التي تنظمها بالتعاون مع مؤسسات التعليم والتدريب الإعلامي الوطنية والعالمية. وتحتفظ الوزارة بعلاقات إنسانية جيدة مع الصحفيين، حتى هؤلاء الذين ما زالوا على مقاعد الدراسة الإعلامية، وتواصل تحفيزهم عبر المسابقات الوطنية واللقاءات المباشرة. الأزمة إذن ليست أزمة مؤسسات صحفية، ولا أزمة دولة.. إنها بالأساس أزمة مهنة تأكل أبناءها وتدفعهم دفعا إلى هجرها، وبالتالي فإن البحث عن مخرج من هذه الأزمة يجب أن يبدأ بدراسة اتجاهات الصحفيين العمانيين نحو المهنة، وقياس درجة الاحتراق الوظيفي الذي يعانون منه، وتحديد التحديات التي تواجههم، والتعرف علي الأسباب التي قد تدفعهم إلى البحث عن وظائف أخرى خارج المهنة. في تقديري ومن خلال تواصلي الدائم مع الصحفيين وطلاب الصحافة، أن السبب الأول في عزوف البعض عن اتخاذ الصحافة مهنة له، وكذلك عدم الاستمرار فيها يتمثل في ضعف الحوافز المالية التي تشجع على الانخراط في مهنة البحث عن المتاعب، إذ يتم معاملة الصحفيين في المؤسسات الصحفية الحكومية والخاصة ماليا نفس معاملة الموظفين الاداريين، ولذلك تجد الصحفيين متساويين تقريبا في الرواتب والحوافز مع الإداريين الذين يعملون بإدارات هذه الصحف، دون أي تمييز لهم، رغم اختلاف المهام واختلاف طبيعة العمل. فالموظف الإداري لا يتعرض للضغوط التي يتعرض لها الصحفي، ويلتزم بساعات عمل محددة، وتنتهي مسؤولياته الوظيفية بانتهاء اليوم، فيما يبقي الصحفي مشغولا على الدوام، حتى في أوقات راحته، ويأخذ عمله ومشاكله وهمومه معه إلى بيته. وقد تنبهت دول عديدة إلى ذلك، فأقرت للصحفيين بدلات وحوافز إضافية تعينهم على تحمل ساعات العمل الطويلة ومواجهة مخاطر المهنة. واذكر انه في بعض الدول يتمتع الصحفيون ببدلات مالية تحت مسميات عديدة كبدل التكنولوجيا وبدل التدريب، ويحصلون على هذه البدلات مباشرة من الجهة المسؤولة عن الصحافة، وتساوي تقريبا الرواتب التي يحصلون عليها من الصحف التي يعملون بها. وفي دول أخرى يتمتع الصحفيون بتخفيضات ملزمة، تصل إلى خمسين بالمائة، وربما تزيد عن ذلك، على تذاكر الطيران والمواصلات العامة والاتصالات. وتوفر جمعيات ونقابات الصحافة في بعض الدول تأمينا صحيا إضافيا للصحفيين، بالإضافة إلى النوادي الرياضية والاجتماعية الخاصة، والمشروعات الإسكانية التعاونية. والواقع أن تمييز الصحفيين ماليا أصبح أمرًا متعارف عليه عالميا، ليس فقط للحفاظ عليهم وضمان عدم تسربهم لمهن أخرى، ولكن أيضا لحمايتهم من الإغراءات المالية التي قد يتعرضون لها من المؤسسات والهيئات والأجهزة والدول الأخرى. ويتوافق ذلك مع مواثيق الشرف الصحفية التي تحظر على الصحفيين الحصول على أية أموال أو هدايا من مصادرهم، أو التعاون مع جهات أخرى لتزويدها بالمعلومات، أو العمل في جلب وتحرير الإعلانات. وتتشدد الصحف العالمية الكبرى، التي نجحت في إرضاء صحفييها ماليا، في تنفيذ ذلك، إذ تحظر عليهم الحصول، ولو على فنجان من القهوة مجانا من أية جهة، ورفض الهدايا التي تقدم لهم. لقد أصبح من المهم في هذه المرحلة أن نعرف على وجه التحديد ما الذي يفكر فيه الصحفيون، وكيف يمكن تحقيق الرضا الوظيفي لهم، حتى نستطيع الحفاظ عليهم، في عالم اختلط فيه الحابل بالنابل وأصبحت قوة الدولة تقاس بما لديها من وسائل إعلام قوية قادرة علي تجاوز الحدود الجغرافية والدفاع عن مصالحها، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود كوادر صحفية وطنية مؤهلة تأهيلا جيدا تحمل على عاتقها رسالة الصحافة وتبذل في سبيلها الغالي والنفيس دون ملل أو كلل. إن الحديث عن الاهتمام بالصحفيين وتحقيق الرضا الوظيفي لهم، وحمايتهم من الاحتراق الوظيفي، وزيادة حوافزهم، وتخفيف الأعباء عنهم عبر التوسع في استقطاب الخريجين الجدد للعمل في الصحافة، وزيادة الثروة البشرية في مجال الإعلام بوجه عام، يمثل مطلبا وطنيا ملحا يجب أن يكون على رأس أولوياتنا، إذا أردنا أن تستمر الصحافة في أداء رسالتها وممارسة دورها التنويري في المجتمع.