إميل أمين كاتب مصري - [email protected] - إلى اين تمضي العلاقة بين أوروبا وبين الاسلام لا سيما فيما يخص المسلمين المقيمين على أراضيها ؟ السؤال المتقدم في واقع الحال يفرض نفسه بقوة في هذه الآونة حيث تتشابك الخيوط وتتداخل الخطوط ، بين ما هو ديني وما هو سياسي ، ويكاد اليمين المتطرف الصاعد ان يضحى حجر عثرة في طريق علاقة عاشت قرونا طويلة في تمازج وتبادل منافع وخبرات ، حتى وإن وجدت هناك فترات جفاء من جراء الأطماع الاستعمارية المتدثرة في أثواب دينية . تعاني أوروبا في حاضرات أيامنا من إشكاليات داخلية عديدة ، والناظر لأوضاع الاتحاد الأوروبي يدرك مقدار الإحباط واليأس الذي يكاد يغلف القارة العجوز ، فبعد ان خيل للجميع انها صارت قارة واحدة لشعب واحد ، فوجئ الجميع بأصوات الانسحاب من الاتحاد كما فعلت بريطانيا وما يمكن ان يترتب على ذلك من نتائج . يعن لنا ان نتساءل أيضا :” هل وقعت أوروبا ضحية التقسيم المانوي الامريكي للعالم ، ذلك الذي قدم أحدث طبعة له صموئيل هنتنجتون عالم الاجتماع الامريكي الراحل عن دنيانا ، حين نفر ولم يبشر بنظريته التصادمية عن صراع الحضارات ، اذ قال بعالم سلافي ارثوذكسي يهودي في مواجهة تحالف اسلامي كونفوشيوسي ؟ الشاهد انه حين صدر هنتنجتون للعالم طرحه هذا ، كان ان تصدى له الاوروبيون سيما رجالات الفكر ، والذين لهم دالة قوية على رحابة التاريخ الانساني ، فقد نظر هؤلاء وأولئك الى الحضارة بوصفها معين صب فيه كل شعب من شعوب الأرض ما فاض عن حاجته وقت الفيض ، واخذ منه البعض الآخر وقت الحاجة ، وبذلك تضحى الرؤى الحضارية سلسلة متصلة الحلقات لا يمكن فصمها او فصلها واحدة عن الأخرى . كان ذلك في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ، غير ان غوائل الزمن وضعت الأوروبيين امام استحقاقات مثيرة للحيرة ، فمن جهة تراهم يسعون الى الحفاظ على أمنهم وامانهم في مواجهة الإرهاب الأسود ، ومن ناحية ثانية لا يريدون التنكر لماضيهم الإنساني والأخلاقي ، ذاك الذي تجلى في افضل صورة خلال عصر التنوير . ولعل التوقف أمام تلك العصور يفتح الآفاق الرحبة للحديث عن العلاقة بين اوروبا والإسلام ، ويعطي القارئ الأوروبي قبل العربي فكرة عميقة عن التواصل المنشود الذي كان والذي يأمل المرء ان يعود قريبا ، وان يضحى الإرهاب الاصولي عطفا على القوميات اليمينية المتطرفة ، جملا اعتراضية في طريق ومسيرة تلك العلاقة . حين نقول بان أوروبا مدينة للعالم العربي والإسلامي بالكثير والكثير مما آلت اليه أوضاعها المدنية والصناعية بل والفكرية ، فاننا لا نماري ولا نداري، فهناك فصول من التحاور والتجاور الإنساني البناء عرفتها الدولة الإسلامية في اوجها وقدمت أمثلة رائعة للتناغم الانساني ، فلم تتوقف على سبيل المثال امام المعتقد الديني والإيماني للغير ، وبهذا فانها عرفت نوعا من انواع المواطنة المتقدمة ، ورغم ان عصورا أخرى كانت ظلامية ، الا ان الأنوار التي سادت على سبيل المثال في عهد هارون الرشيد قد القت بظلالها الوارفة على أوروبا والأوروبيين ..كيف ذلك؟ يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرد تلك التجربة وانعكاسات الحضارة الإسلامية على اوروبا ، لكن بغير اختصار مخل نشير الى ان غالبية الآداب والعلوم اليونانية ، والتي نقلوها عن المصريين القدماء ، سيما علوم الهندسة والفلك ، الفلسفة والطب، قد قام على ترجمتها السريان العرب ، اي المسيحيين الذين كان بلاط الخليفة يمتلئ بهم ، وبغيرهم من اليهود الذين عاشوا بين جنبات العالم العربي دون تمايز او تفريق ، وبلا عنصرية او تكبر وتجبر . ومن العربية استطاع بعض المستشرقين الأوروبيين لا سيما من الرهبانيات التي عرفتها اوروبا القرنين الثاني والثالث عشر الميلادي ، ان يترجموا تلك العلوم الى اللغة اللاتينية لغة الأكاديميات العلمية الأوروبية في تلك الأيام ، ومن هنا على سبيل المثال عرفت اوروبا الرشدية اللاتينية والتي كانت فتحا عظيما على الأوروبيين . درس العلماء الطرق المتعددة التي اثر بها العالم الإسلامي في اوروبا خلال العصور الوسطى ، ويمكن العثور على نتائج أبحاثهم في عدد من الكتب والمقالات العلمية وربما من اهمها ما قدمه المستشرق البريطاني وليام مونتجمري واط ، والذي فند في الكثير من أعماله أسباب النظرة العدائية للإسلام عند البعض في القرون الوسطى رغم التعاون الخلاق الذي كان قائما وقادما في الوقت عينه . هل تحتاج أوروبا اليوم الى إعادة قراءة معاصرة لأعمال “واط” وغيره من المستشرقين المحايدين المنصفين الذين اعطوا كل ذي حق حقه دون ان ينتقصوا لأسباب دونية من حقائق التاريخ ومعطيات الجغرافية ؟ أغلب الظن ان ذلك كذلك ، سيما وان دراسة تأثير الاسلام في أوروبا وبالأخص في الوقت الحالي تتعلق بتعايش اتباع الأديان الابراهيمية من المسيحيين والمسلمين واليهود في اوروبا جنبا الى جنب . ما يجعل المشهد الأوروبي في واقع الحال مخيفا بعض الشيء هو ان التيارات اليمينية المغالية في تطرفها باتت تنتشر انتشارا مخيفا في كل الدول الاوروبية ، ولم يعد المسلمون فقط هناك من يتخوف من قادم الايام وانما الأوروبيون الذين يدينون باليهودية ، ذلك رغم القوانين التي تجرم العداء للسامية ، الا ان حوادث كراهية اليهود الأوروبيين والاعتداء على ممتلكات البعض منهم ، باتت تستدعي من التاريخ الأوروبي فترات ظلامية ، ومآس تاريخية قريبة ، كما في حوادث الهولوكوست التي تنكرها وتدينها كل نفس بشرية لديها ذرة من إيمان بالله . المسألة اذن في اوروبا اليوم تتجاوز المسلمين ، ولعل تلك الجزئية تذكرنا بفصل من الفصول الناصعة في العلاقة بين العالم العربي والاسلامي ، وبين يهود أوروبا الاشكيناز كما يطلق عليهم ، ذلك ان هؤلاء قد تعرضوا في القرون الوسطى لموجات عنيفة بل قاتلة من الاضطهاد ، الأمر الذي أجبر بعضهم على التنصر من الخارج وان بقوا من الداخل على يهوديتهم ، وهؤلاء هم المعروفون تاريخيا باسم “ المارنوس”، فيما الجزء الآخر حاول الفرار من الموت المحدق به ، فلم يجد سوى الدول الإسلامية المشاطئة سيما دول شمال افريقيا من مصر شرقا وتونس غربا ، وهناك عاشوا بعض من أفضل أيام حياتهم ، وهناك ايضا كتب التاريخ واحدة من افضل صفحات التحاور والتجاور لا التناحر والتشاجر . والشاهد أن الوجود العربي أو الإسلامي في اسبانيا وصقلية ابتداء من القرن الثامن وما تلاه ، والوجود الأوروبي في بلاد الشرق خلال الحروب الصليبية قد أدى الى تبادل الثقافات او الى تبني الأوروبيين الغربيين عدة سمات ثقافية إسلامية . كانت مهارات العرب في البيع والتجارة من العوامل التي شجعت هذا الانتشار للثقافة الاسلامية من دون شك، فلم تكن الثقافات متوافقة في ظل الحكم الاسلامي فحسب ، بل صدرت البضائع التي انتجها المسلمون الى خارج حدود الدولة الاسلامية . وعندما أصبحت كل من اسبانيا وصقلية تحت الحكم الاسلامي ارتبطتا تجاريا بباقي المناطق الاسلامية فورا ، ثم تبنتا المظاهر الخارجية للحضارة الإسلامية تدريجيا . جاء اخذ الثقافة الإسلامية طبيعيا ، فعرب اسبانيا ارادوا مظاهر الرفاهية المادية التي اعتادوها في دمشق ، وسكان اسبانيا الأصليين ارادوا المشاركة في هذه المظاهر الخارجية في حياتهم قدر المستطاع لإعجابهم بالعرب وهذا ما حدث في باقي المستعمرات الاوروبية خلال القرن التاسع عشر ، ومن هنا يمكننا ان نشرح للأوروبيين المعاصرين ، لا سيما أصحاب دعوات التفرقة منهم كيف ان الوجود الاسلامي في اسبانيا وصقلية لم يقتصر على الوجود العسكري والسياسي ، بل تعداه الى الوجود الثقافي كذلك . يمكننا ضرب مثال اوضح بالحياة في البلاط الصقلي على انجذاب المسيحيين من الاوروبيين الى الثقافة العربية ، خاصة في عهد روجر الثاني وفريدريك الثاني . عاش هذان الملكان في بيئة مترفة تقارن بتلك الموجودة في قصور قرطبة ، فقد ارتديا ثياب العرب ، وسلكا سلوك العرب الظاهري نفسه. تطور الشعر العربي في البلاط الملكي ، وقد يكون الشعر المستقى منه هو ما شكل بداية الشعر الايطالي ، كما عين الملكان مسؤولين ومستشارين مسلمين في القصر ، ورعيا العلماء القادمين من سوريا وبغداد ، وشجع فريدريك بالتحديد النقاشات العلمية والفلسفية في بلاطه ، وترجم له مايكل سكوت بعض الاعمال من العربية الى اللاتينية . وهكذا انتشرت الثقافة العربية الرفيعة تدريجيا في غرب أوروبا عن طريق التواصل التجاري ، والحضور السياسي للعرب في اسبانيا وصقلية ، وعلى الرغم من اتصال غرب أوروبا المباشر مع الدولة البيزنطية الا انها استفادت من المسلمين اكثر من استفادتها من البيزنطيين ، مما يضيف سببا لاعتقاد” واط” بصغر الدور الذي ادته الحروب الصليبية ، ومن هنا ايضا يمكن تلخيص ما سبق في ثلاث نقاط، هي : أولا : كانت اسهامات العرب في غرب اوروبا تتعلق بتحسين نوعية الحياة واساسها المادي . ثانيا : كان لدى معظم الاوروبيين قلة وعي بالطابع العربي والاسلامي لما تبنوه . ثالثا : حفزت حياة الرفاهية العربية والشعر الذي صاحبها مخيلة اوروبا والعبقرية الشعرية للشعوب الرومانية ، ويقصد بها الشعوب التي تتكلم اللهجة الرومانية الماخوذة من اللغة اللاتينية . هل يمكن للأوروبيين المعاصرين إعادة قراءة مثل هذه المعادلات الفكرية والرؤى التاريخية التي افرزت حياة وتعايش مشتركين طوال قرون ، حتى وان شابت بعضها كما كل مجتمع بشري خلافات او صدامات من حين الى آخر ؟ لن تفيد الأوروبيين تلك النزعات المتعصبة ، فهي كالحريق الذي سيأتي على الجميع ، اذ بداية ستقصد الاجانب ، وتصب جام غضبها على المسلمين والاسلام ، ولاحقا ليس ببعيد ان تعود أوروبا مرة اخرى الى التمايز على اساس ديني او طائفي وهي التي عرفت حروب الاديان لعقود طوال ، وما فتئت الطائفية فيها ان تحولت الى نزعات ايديولوجية قاتلة كما الحال مع الفاشية والنازية في النصف الاول من القرن العشرين ، ما ادى الى وقوع اكثر من ستين مليون قتيل . التناحر والتشاجر لن يفيد بالمرة ، فيما التحاور والتجاور يدفع الامم والشعوب في طرق السلام البناء ... وعليه فلينظر الأوروبيون ماذا يروا ؟