د. صلاح أبونار - في 27 يناير2013 قال صاحب الجلالة - حفظه الله وأبقاه- في معرض مخاطبته لشيوخ ورشداء محافظتي الداخلية والوسطى بالمخيم السلطاني بسيح الشامخات :»الاقتصاد الوطني لأي بلد كانت هو في الحقيقة يقوم علي الصناعات الصغيرة والمتوسطة»، واستطرد مشددا:» هذه هي الأسس، أسس كل الاقتصاديات الوطنية». وتؤكد الحقائق الاقتصادية دقة رؤية جلالة السلطان المعظم . إذا استخدمنا معيار نسبة عدد المشاريع الصغيرة والمتوسطة لإجمالي المشاريع الوطنية، وصلت تلك النسبة في الاتحاد الأوروبي عام 2000 الى 93%للمشاريع الأقل من 10 عمال، وفي الولايات المتحدة الى 50% للمشاريع الأقل من 9 عمال. ووفقا لمعايير أخرى ساهم هذا القطاع بنحو 65% من العائد الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي عام 2000، وفيما بين 1988 و1993 وفر 2.6 مليون وظيفة في ذات الدول، بينما خلقت المشاريع الكبرى مليون وظيفة جديدة فيما بين 1988 و1991، لكنها فقدت نفس العدد من الوظائف. وتعكس الإحصائيات العمانية نفس النسب تقريبا. تبعا للكتاب الإحصائي السنوي 1998، شكلت المؤسسات التي يقل رأس مالها عن مائة ألف ريال، أي الصغيرة والمتوسطة، حوالي 96% من إجمالي المؤسسات العمانية المسجلة. كيف نفسر هذا الدور الضخم والمركزي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة ؟ هناك – أولا – قدرتها العالية على الانتشار الجغرافي، النابعة من عدم احتياجها لنفس مكونات ومستوى البني التحتية التي تحتاجها المشاريع الكبيرة، وخصوصية ومرونة القيود البيئية المفروضة عليها، وضرورة قربها الجغرافي من المستهلك المباشر. وهناك - ثانيا - مرونتها الاقتصادية، النابعة من قدرتها على الاستخدام المحدود ومتفاوت الكثافة لعنصري رأس المال والعمل، وبالتالي قدرتها على التوفيق بين حجم المنشأة وقدرات المالك وحجم السوق. وهناك - ثالثا – توسطية موقعها الاقتصادي، المرتبطة بالدور المركزي لقطاعي التبادل والخدمات فيها، الذي يجعلها تنمو بمعدل موازي لنمو القطاعات الاقتصادية الإنتاجية الأساسية، لأنها تلعب دور الوسيط بينها و بين المستهلك وفيما بينها. والواقع ان تلك السمات المفسرة لقوة واتساع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، واجهت في مسار صعود الاقتصاديات الرأسمالية الحرة قوى عاتية حدت من تأثيرها، مرتبطة بتأثيرات صعود اقتصاديات النطاق الكبير ومصاحباتها. إلا أن صعود الليبرالية الجديدة في الغرب، وتوسع العولمة الذي حمل معه تأثيرات الليبرالية الجديدة الة كل الاقتصاديات الوطنية، منحا المؤسسات الصغيرة والمتوسطة قوة دفع جديدة. فلقد أدى الى تحجيم القطاع العام، وتراجع الدور التوظيفي للدولة، وإعادة تشكيل نمط علاقة الدولة بسياسات الرفاه الاجتماعي، وصعود وسيطرة اقتصاديات السوق الحر، وتعمق الاندماج في الاقتصاد العالمي. ودعمت التطورات الجديدة تأثير السمات الثلاث السابقة، و حملت معها أيضا تأثيرات نوعية جديدة. فلقد شددت على أهمية دور تلك المؤسسات في مجالي التوظيف والتمويل، وعلى مركزية الصناعة داخلها و دورها في توطن الشركات العابرة للقوميات داخل الاقتصادات الوطنية . إلا أن التحليل السابق يتعرض فقط للسياق الوطني العماني، من منظور تماثلاته مع السياقات العالمية العامة. وإذا انتقلنا الى تحليله في وجهه الخاص الأعمق جذورا ، سنجد عناصره التكوينية حاضرة في مكونات رؤية مشروع النهضة العمانية، التي يهمنا منها أربعة . أولها يتعلق بوعي حدود النفط كقوة اقتصادية محركة للتنمية الاقتصادية. حمل النفط معه طفرة هائلة في الموارد، ولكن من الضروري وعي حدودها، فهي في وجودها مؤقتة زمنيا، وفي عائدها الدوري قابله لتقلبات حادة بفعل تغيرات السوق العالمي . وثانيها يتعلق بالسياسات المثلي لاستغلال عائد الطفرة النفطية، وتوليد آليات اقتصادية محركة بديلة. وهنا تظهر استرتيجية خطط التنمية الخمسية، التي سعت منذ 1976 إلى بناء البني التحتية، وتحقيق متطلبات النمو الحضري السريع، وإرساء أسس قوة الدولة وفعالية مؤسساتها، ورفع مستوى معيشة المواطنين، والدفع المتواصل للنمو والتنويع الاقتصادي. وثالثها يتعلق بتنمية القوي البشرية العمانية بوصفها القوة الأصيلة والبديلة للقوة المحركة النفطية المتجهة حتما الى طريق التراجع. وهنا تظهر سياسات التعليم كتأهيل لقوة عمل بشرية كفؤة ومتنوعة التخصصات وحديثة، وسياسات الرفاه الاجتماعي في مجالات الصحة والإسكان والمرافق الأساسية، كتأسيس لشروط بناء قواعد اجتماعية قادرة على إفراز قوة عمل متقدمة، وهياكل داعمة للتنمية. ورابعها يتعلق ببناء المجال العام، كمؤسسات تعمل وفقا لقواعد المؤسسية والقانون والتخصص الوظيفي، وكمجال مدني عام للمشاركة السياسية والاجتماعية عبر المجالس النيابية وصيغ المشاركة الأخرى. تسجل الإحصائيات التقدم المتواصل لعملية التنويع الاقتصادي وفي إطاره تقدم القطاع الصناعي. في عام 1998 كانت نسبة الأنشطة النفطية من الناتج المحلي الاجمالي65.5% مقابل 34.55 للقطاعات غير النفطية، ثم ارتفعت الأنشطة غير النفطية حتى تعادلت تقريبا مع النفطية عام 2006 . وفي السنوات التالية واصلت ارتفاعها، حتى وصلت عام 2015 الى 60.2% مقابل 38.8% للنفطية. وفي سياق هذا الارتفاع سجل القطاع الصناعي اعلى النسب، فبعد ان كانت نسبه مساهمته في 7.1% من الناتج المحلي عام 1999، وصلت في عام 2002 الى 18.9%، ثم واصلت الارتفاع الى. 19.7% عام 2006. بينما كانت نسبة الانشاءات10% في 2009، والنقل والتخزين9.5% عام 2008، وتجارة الجملة والتجزئة 7.9% عام 2015. وبعد ان كان عدد المنشآت الصناعية بمختلف أشكالها القانونية محدودا عام 2009، ارتفع الى 2518 عام 2014.وفيما بين 2000 - 2015 كانت الصناعة هي اعلى القطاعات نموا، وسجلت نسبة نمو سنوي8.5% فيما بين 2005 و2012، بينما كانت نسبة النمو الاقتصادي العامة 5.1% فقط. وتمنحنا تقارير «ريادة» السنوية صورة لمعدلات نمو الصناعات الصغيرة والمتوسطة ، لكنها تخص ماهو مسجل لديها فقط، وتسجل المؤسسات حسب حجمها وليس تخصصاتها، وبالتالي لا نعرف نسبة الصناعية منها، ولكن تبعا للملاحظة السابقة نتوقع ان تشكل النسبة الأكبر منها . فيما بين 2013 -2015 كان عدد المؤسسات الصغرى 6164 والصغيرة 1764 والمتوسطة 1208، وفي عام 2017 ارتفع العدد الى 22978 للصغرى و6679 للصغيرة و2179 للمتوسطة. ويمكن للمشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة ان تشكل مدخلا ناجحا للمساهمة في مواجهه تحديا: التشغيل والتنمية. ينبع تحدي التشغيل من ارتفاع في طلب العمل، لا يوازيه ارتفاع مماثل للعرض التقليدي للعمل، ويقدر المركز الوطني للإحصاء والمعلومات انه في عام 2016 كان هناك 43858 عمانيا باحثا عن العمل، تصل نسبه الشباب فيهم الى 75%. يأتي ارتفاع الطلب على العمل من الطابع الشبابي للمجتمع العماني، حيث يقدر وجود 50% من العمانيين اقل من 19 سنة وفقا لأرقام 2005. كما يأتي من ارتفاع نسبة خريجي المؤسسات التعليمية. يقدر ان المدارس الثانوية يتخرج منها سنويا نحو 30000 طالب، وكان هناك 95146 طالبا مسجلا في صفوف التعليم العالي في العام 2011 - 2012 . بينما يأتي ضعف عرض العمل من تقليص سياسة التعيين في المؤسسات الرسمية لتشبعها . والاهم ضعف عملية التعمين داخل مؤسسات القطاع الخاص. في عام 2016 بلغت عمالة القطاع الخاص اكثر من مليون ، شكل الوافدون 88.4% منهم. ويمكن للمشاريع الصناعية الصغيرة والمتوسطة ان تشكل منفذا مهما للتخفيف من المشكلة. وفقا لدرسة للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات عام 2016 ارتفعت نسبة الشباب الذي يفكر في إقامة مشاريع خاصة من28% عام 2015، الي 44% عام2016. هذا الإقبال المتصاعد سنجد تفسيره في عدة عوامل. فهي مجال يقوم على المبادرة والتقدير الذاتي للفرص، وبالتالي يتلافى ما يراه قطاع من الشباب كسلبيات للعمل داخل القطاع الخاص، مثل ضعف الراتب والمكانة الاجتماعية والاستعانة بالوافدين ومحدودية فرص الترقي. وهي ايضا - المشروعات الصغيرة والمتوسطة - مجال شديد التنوع وبالتالي يتوافق مع المستويات والتخصصات التعليمية المتباينة للشباب العماني.ويؤكد ذلك إحصائيات الخلفيات التعليمية لأصحاب المؤسسات المسجلة لدي «ريادة» في عام 2017. كان منهم 8995 أميا أو يقرأ ويكتب فقط، و20447 تراوح تعليمهم من الدكتوراة الى ماهو ادنى من الثانوية العامة، ولكن اغلبهم خريجي جامعات وثانوية عامة. وهي في النهاية مجال يتوافق مع قوة الخبرات والمؤهلات الهندسية والفنية داخل الشباب العماني العامل في القطاع الخاص. في دراسة للمركز الوطني يشغل 22.7% من الشباب العماني العامل في مؤسسات القطاع الخاص وظائف هندسية أساسية أو مساعدة، ويعمل 23.5% و11%من العاملين العمانيين المؤمن عليهم في القطاع الخاص، في قطاعي التشييد والصناعات التحويلية علي التوالي. وفيما يتعلق بتحدي التنمية يهمنا هنا أساسا وعي الرواد العمانيين لمؤهلاتهم الذاتية وقدراتهم المادية على إدارة وإنجاح المشاريع. وهنا ستفيدنا الدراسات الميدانية التي أجريت لاستطلاع آراء مؤسسي تلك المشاريع. فيما يتعلق بالمؤهلات الذاتية: وفقا لدراسة للمركز الوطني يعتقد 62% من الشباب العماني انه مؤهل لسوق العمل، ويفكر 44% في إقامة مشاريع خاصة. ووفقا لدراسة لعبد الله الجفيلي يعتقد 63% في امتلاكه القدرة على صياغة خطة عمل لشركته، و50% انه ليس مجرد مالك بل مالك ومسؤول عن إدارة الشركة. وهذه القناعة ليست ذاتية فقط بل يراها الملاك قناعة اجتماعية عامة. وفقا لدراسة لنوصرات و ويكراماسيجي وافق 74% على ان الناس يدعمون هذه المؤسسات، و88%على انهم سيواصلون دعمها حتى لو تعثرت. وفيما يتعلق بالقدرات المادية يقر الملاك بمعاناتهم من مشكلة التمويل.في دراسة الجفيلي قال 60% ان إجراءات التمويل طويلة ومعقدة و أوردت دراسة نوصرات وويكراماسيجي أن46% يرون صعوبة الحصول علي قروض تمويلية، وقال30% بسهوله الحصول عليها.