سمير عواد - استغرقت الاستعدادات الأخيرة ثلاثة أسابيع حتى بدأت الولايات المتحدة الأمريكية حملتها العسكرية الثانية على العراق في 20 مارس 2003، وراح الناس في شتى أنحاء العالم يتابعون تفاصيلها مباشرة على الهواء وكأنهم يتابعون نهائي كأس العالم لكرة القدم. كان الهدف المعلن لهذه الحرب، الإطاحة بنظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين. وأضحت هذه الحرب في ذاكرة ملايين البشر على وجه البسيطة. لكن بعد أكثر من خمسة عشر عاما على غزو العراق، ما زالت هناك أسئلة دون إجابات. ومن الأمور التي لم تتضح للرأي العام العالمي حتى الآن: كم هو عدد ضحايا حرب العراق؟ وما مدى الفوضى التي نتجت عنها؟ وكذلك النتائج المدمرة للعراقيين بالذات وشعوب المنطقة عامة. ليس هناك أرقام وإحصائيات رسمية، ولكن هناك تقديرات بأن ما بين 150 ألف قتيل ونصف مليون قتيل سقطوا في هذه الحرب. لكن هناك تقديرات أكثر جدية تعتقد أن العدد يصل إلى نصف مليون قتيل. وذكرت مجلة “لانسيت” المختصة بالطب أن العدد الحقيقي يصل إلى 650 ألف قتيل. وإلى جانب العنف المفرط ضد المواطنين العراقيين، تم استهداف البنية الأساسية للعراق التي كان الأمريكيون قد دمروها في حرب الخليج 1990/‏‏1991 ثم منعوا إعادة تعميرها بعد فرض حصار اقتصادي على العراق لسنوات طويلة، بعدما أنهكت العراق أيضا حرب الثمانية أعوام مع إيران، علاوة على تدمير قطاع الرعاية الصحية وهو ما ألحق بالشعب العراقي أضرارا جسيمة. بينما لا يعرف العالم العدد الحقيقي لضحايا الغزو الأمريكي للعراق، فإنه يعرف في هذه الأثناء أن الحرب قامت على أكاذيب لتبريرها، جمعتها الاستخبارات الألمانية وتبنتها إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن. وما زال عالقا في الأذهان، كلام كولين باول وزير الخارجية الأمريكي في تلك الفترة: «لا أستطيع أن أقول مثل هذا الهراء»، عندما قرأ لأول مرة ما تم إملاؤه عليه ليطلع الرأي العام العالمي عليه من فوق منبر مجلس الأمن الدولي، وبذلك تتحول الأكاذيب إلى أدلة. وكان ذلك بتاريخ 5 فبراير 2003، واستغرقت كلمته 76 دقيقة كان يبرر الغزو المُزمع، حيث زعم أن صدام حسين يمتلك أسلحة بيولوجية وكيماوية لإلحاق الدمار الشامل، وأن نظامه يدعم الإرهاب الدولي كما يسعى العراق إلى امتلاك أسلحة نووية. وكان هذا التقديم والكذب العلني لواشنطن على العالم كله، قمة المزاعم المختلقة التي كان هدف واشنطن منها، عدم ترك الدفة للمفتشين الدوليين التابعين للأمم المتحدة الذين لم يكونوا قد حصلوا في ذلك الوقت على أدلة تثبت أن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل حسب زعم الأمريكيين. وأرادت واشنطن أن تقول للعالم: إننا نعرف ما لا تعرفونه أنتم. وتبين لاحقا أن هذه المزاعم كانت كلها كاذبة حتى أن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق “باول”، اعترف لاحقا أن كلمته في فبراير 2003 أمام مجلس الأمن الدولي كانت نقطة سوداء في حياته السياسية. ماك جوفرن، الذي عمل 27 عاما في الاستخبارات الأمريكية “سي آي إيه” حيث شغل منصبا مهما، قبل أن يؤسس في عام 2003 معهد للعملاء السابقين في أجهزة الأمن والاستخبارات الأمريكية، يتبنى نظرة ناقدة للسياسة الأمريكية. ويرى “جوفرن” الذي يبلغ اليوم من العمر 78 عاما، أن حرب العراق قامت على أكاذيب وأضاليل، وأن المعلومات التي قدمتها أجهزة الاستخبارات لم تكن خطأ فحسب، بل مزورة ومختلقة. وباعتراف المراقبين فإن غالبية الأكاذيب التي تضمنتها كلمة “باول” أمام مجلس الأمن الدولي، كانت قد حصلت عليها واشنطن من الاستخبارات الألمانية “بي أن دي”. ففي عام 1999 كان الخبير الكيميائي العراقي “رافد أحمد علوان”، قد لجأ إلى ألمانيا وطلب الحصول على اللجوء السياسي. ولفت الرجل اهتمام الاستخبارات الألمانية التي قامت باستجوابه وكان في مخيلة المسؤولين فيها فكرة تجنيده وكان لديهم رغبة شديدة في الحصول منه على معلومات عن صدام حسين وأسلحة الدمار الشامل المزعومة لديه. وقال “علوان“ لاحقا في شريط وثائقي بثه التلفزيون الألماني في العام الماضي، أن الاستخبارات الألمانية كلفت عميلا للإشراف عليه حث سلمه بعض الورق والأقلام وطلب منه رسم ما في مخيلته عن أسلحة الدمار الشامل العراقية وفهم علوان ما يريده الألمان فرسم بعفوية مختبر داخل شاحنة وزعم أنها تتنقل من مكان لآخر كي لا يتمكن الأمريكيون من التعرف على مكانه ، وهكذا كانت أول كذبة حولها الألمان إلى حقيقة ، وأبلغوا الاستخبارات الأمريكية وبذلك عوضت برلين عن رفض المستشار الألماني جيرهارد شرويدر مشاركة بلاده في غزو العراق. واعترف “علوان” أنه استغل سذاجة الألمان وراح ينسج من خياله ما يرغبون في الحصول عليه، حيث كان هدفه من وراء هذا التعاون، تعزيز فرصة حصوله على اللجوء السياسي، وهو ما تم له، لأن السي آي إيه اهتمت بما كان يرسمه وحولتها إلى حقائق وكانت تنسبها إلى “عميل عراقي بارز يعمل مهندسا كيماويا وشارك في إعداد برنامج أسلحة الدمار الشامل العراقية وأطلقوا عليه الاسم المستعار “كيرف بول”. وتم كل شيء حسب رغبة الألمان والأمريكيين إلى أن اكتشفت الاستخبارات الألمانية أنها وقعت ضحية كذب “علوان”، بعد أن توصلت إلى مكان رئيسه الذي فند وجود هذه الأسلحة المزعومة. وقام الألمان على الفور بإبلاغ الأمريكيين أن المعلومات التي قدموها نقلا عن “كيرف بول” ليست صحيحة، ورغم ذلك تجاهل الأمريكيون تحذيرات الألمان. وفي أغسطس 2011 نشرت صحيفة “دي فيلت” الألمانية نقلا عن أوجوست هانينج، رئيس الاستخبارات الألمانية قوله: إن الأمريكيين طلبوا من الألمان إعلانا بأن معلومات “كيرف بول” صحيحة، لكن هانينج قال: إنه رفض ذلك وبعث كتابا إلى جورج تينيت مدير “السي آي إيه “ أكد فيه أن معلومات “كيرف بول” مجرد أكاذيب. لكن واشنطن رفضت تفنيد مزاعم “علوان” وحولتها إلى “حقائق وصلب كلمة وزير الخارجية الأمريكية في مجلس الأمن الدولي” لأن واشنطن كانت تريد تبرير غزوها العراق. وبرأي ماك جوفرن، كان سيانا للأمريكيين أن تكون معلومات “كيرف بول” صحيحة أم لا، فإن خياله الواسع ساعدهم في الحصول على مبرر لغزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين، فبعد غزو العراق وسقوط الآلاف من الضحايا لم تتوصل واشنطن إلى مكان الأسلحة المزعومة حتى بعد نشرها آلاف الجنود الأمريكيين. ونشرت صحيفة “جارديان” البريطانية في عام 2011 تصريحات تايلر درامهيلر مدير السي آي إيه في أوروبا أكد فيها أن الاستخبارات الألمانية أبلغته قبل فترة طويلة سبقت الغزو أن معلومات “كيرف بول” مجرد أكاذيب، وأنه قام بنفسه بإبلاغ جورج تينيت مدير السي آي إيه بذلك وظل يأمل بأن تتوقف واشنطن عن التمسك بها ، لكنه فوجئ بأنها حولتها إلى صلب كلمة باول وأجبرته على الكذب على العالم. كان واضحا أن إدارة الرئيس الأمريكي بوش الابن كانت تريد غزو العراق خاصة وأنها مهدت لذلك عندما وضعت خطة لذلك بعد وقت قصير على فوز بوش الابن بمنصبه في عام 2000. وبحسب خافيير سولانا أمين عام الناتو الأسبق في مقال كتبه بمناسبة مرور خمسة عشر عاما على غزو العراق، أن الأمريكيين روجوا للحرب بوصفها عبارة عن حرب ضد الإرهاب، وأكد سولانا أن بوش الابن جعل غزو العراق منذ بدء ولايته أهم أهداف سياسته الخارجية. وعلى حد قول بيورن شيفباور، أستاذ القانون الدولي في جامعة كولون، فإن غزو العراق من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها مخالفة واضحة للقانون الدولي. كما يتذكر العميد العسكري الألماني فلوريان بفاف، كيف أن الجيش الألماني تعاون مع الأمريكيين في غزو العراق رغم رفض المستشار الألماني شرودر المشاركة في غزو هذا البلد العربي، مثل تجهيزها طائرات “أواكس” التي كانت تتجسس على العراق وترصد الأهداف ليتم قصفها، كما تولى الجيش الألماني حراسة الثكنات العسكرية الأمريكية في ألمانيا ليتفرغ الجنود الأمريكيون للحرب، وقدمت مساعدات لوجستية من خلال تأمين متطلبات للجنود الأمريكيين. لكن بفاف الذي عمل في الجيش الألماني كخبير في الحاسوب تمرد على قادته وقال لهم إذا تبين له أن ألمانيا تشارك في الغزو فإنه سوف يرفض تنفيذ أوامرهم. ورد عليه القادة العسكريون بإيداعه مدة أسبوع في مستشفى للأمراض العصبية. وقال بفاف: إنه كان يعرف هذا السلوك من عادات الأنظمة الشيوعية حيث يتم تحويل المعارضين السياسيين والعسكريين إلى مستشفى الأمراض العصبية وعزلهم عن المجتمع، وأكد أنه لحسن الحظ تأكد للأطباء أنني أتمتع بصحة جيدة وبكامل وعيي وتقدمت بشكوى ضد القادة العسكريين إلى المدعي العام حيث حصلت في عام 2005 على الحق برفضي المشاركة في غزو العراق لأنها عبارة عن مخالفة للقانون الدولي واعتبرت محكمة “لايبسيج” الحرب بأنها ليست شرعية.