إيمان المرء لا يتم بغير برهما وهما أولى الخلق بالإحسان -
نبّهت خطبة الجمعة المعدّة من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى أن إيمان المرء لا يتم بغير بر والديه حتى وان كانا مشركين، وساقت على ذلك مثلا؛ «وقف بنا القرآن الكريم على صور أخاذة سجـلها لبعض أولئك المصطفين حتى يقتدي بهم البشر في معاملتهم لآبائهم، فهذا إبراهيم -عليه السلام-، نراه مع عدم اسـتجابة أبيه لدعوته لا يزيده ذلك إلا برا به ومزيد إحسان، ويكرم الله تعالى خليله إبراهيم على بره الجميل، بذرية صالحة حتى غدا أبا الأنبياء الكرام».
ودعت إلى أن يظهروا البر والإجلال والانخفاض لوالديهم ليسعدوا في حياتهم ويفوزوا برضا ربهم.
مبيّنة أن الابن البار هو الذي يقوم ببر والديه معـتقدا أن في رضا والديه رضا المولى سبحانه وتعالى، وفي سخطهما سخط المولى سبحانه وتعالى.
وحذرت الأبناء من الاشتغال بالأهـل والولد أو حتى بالهاتف عن والديهما، أو أن يشعرا منه توجعا وتأففا يظهر بهما بمظهر الكاره لما يقوم به. أو أن يزور والديه وكأنه ضيف عندهما أو كأنه مدعو إلى مائدتهما، فهذا فيه من الجفاء ما فيه.
ودعت إلى أن يزورهما زيارة الابن البار لهما وان يستشعر حاجتهما ويفرح قلبهما.. والى ما جاء في الخطبة المعنونة بـ(الماجد من يبــر الوالد).
الحمد لله الذي أمر بالبر والطاعة والإحسان، ونهى عن العقوق والظلم والعدوان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريـك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرشد إلى البر والصلة والكرامة، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة.
أما بعد، فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى واعـمروا أوقاتكم بذكره وشكره وحسن عبادته، واعـلموا أن الإسلام الذي يدين به المسـلم لله نظام متكامل يحوي حقوقا وواجبات، ومن هنا كان عليه ألا يفرط في حق ولا يخل بواجب، فيقوم بما افترضه الله تعالى عليه ليعبد الله سبحانه بذلك حق العبادة، ألا وإن من أعظم الحقوق، يا عباد الله، بعد حق الله عز وجل، حق بر الوالدين، فإن الله سبحانه وتعالى قرن الأمر ببرهما بالأمر بعبادته، وقرن شكرهما بشكره؛ يقول تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، وقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)، فالله أوجب وألزم العبد قيامه بالبر بوالديه، لأنهما أولى الخلق بالإحسان ولا سيما في مرحلة تقدم العمر، فهما إذا ما طعنا في السن صارا أحوج ما يكونان إلى مساعدة الغير، ومن أولى بتقديم المساعدة إليهما من الولد الذي قاما على تربيته والعناية به في صغره، يقول جل وعلا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا)، إن إيمان المرء لا يتم بغير بره بوالديه، فهما المحضن الأول له، والمهد الدافئ الذي تقلب في أعطافه أول مرة، فإن لم يعاملهما بالإحسان ديانة كان برهما ومجازاتهما على الإحسان بالإحسان فطرة وطبعا إنسانيا كريما، ولكن قد يفهم بعض الناس بره لوالديه في جلب الطعام والشراب إليهما، وفي توفير الكسوة والمسكن فحسب، والصواب أن مفهوم البر أوسع من ذلك - يا عباد الله - وهو نظير الإحسان، ولا يقوم بالإحسان إلا المحسنون، فإذا بلغ بهما العمر مبـلغه وصارا تحت رعايتك، أيها الابن، فأحسن إليهما، فقدم إليهما ما يحـتاجان إليه من عون بكل حب وتفان وإخلاص، وتذكر دائما حالك عندما كنت صغيرا (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
عباد الله:
الناس مراتب في بر والديهم، وفي مقدمة من حقق أعـلى مراتب بر الوالدين من خلق الله، قدوة البشر وخير الخلق أنبياء الله تعالى ورسله الكرام، ولقد وقف بنا القرآن الكريم على صور أخاذة سجـلها لبعض أولئك المصطفين حتى يقتدي بهم البشر في معاملتهم لآبائهم، فهذا إبراهيم - عليه السلام -، نراه مع عدم اسـتجابة أبيه لدعوته لا يزيده ذلك إلا برا به ومزيد إحسان، ويكرم الله تعالى خليله إبراهيم على بره الجميل، بذرية صالحة حتى غدا أبا الأنبياء الكرام، وكذلك كانت علاقة إسماعيل بأبيه إبراهيم عليهما السلام، وحسـبنا من ذلك مشهد اسـتسلام إسماعيل لما أراده منه أبوه من تقديمه قربانا، وأشاد كتاب الله ببر يوسف - عليه السلام - بأبيه يعـقوب - عليه السلام - وبين كيف كان يلـقي إليه بأسراره فيحدثه عما يقع له في المنام، ثم بعد ما آتاه الله الملك لم يزده ذلك إلا تواضعا وبرا بوالديه، (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ)، وقد نوه القرآن بعلاقة يحـيى بأبيه زكريا عليهما السلام حتى قال في ذلك (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا).
عباد الله:
لقد جاء نبيـنا صلى الله عليه وسلم متمما لمكارم الأخلاق، ونوه بالبر بالوالدين وحض عليه في وصايا متعددة كثيرة، ورد أن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله يا رسول الله؟ فقال: ((الصلاة في وقتها، قال: قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين))، والابن البار هو الذي يقوم ببر والديه معـتقدا أن في رضا والديه رضا المولى سبحانه وتعالى، وفي سخطهما سخط المولى سبحانه وتعالى، ففي الحديث ((رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد))، وجاء أيضا: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة))، وبينت السنـة رفعة درجة الأم في الحق على الأب؛ فقد ورد أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال: أمـك، قال: ثم: من؟ قال: أمـك، قال: ثم: من؟ قال: أمـك، قال: ثم: من؟ قال: أبوك)).
فاتقوا الله - عباد الله -، وبروا والديكم واحرصوا على الدعاء لهما بعد وفاتهما، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)).
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم إنه هو البر الكريم.
*** *** ***
الحمد لله، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحـبه ومن والاه.
أما بعد، فيا عباد الله:
البر لا يبـلى والذنب لا ينسى والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان، إن على الأبناء أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من بر الوالدين، وأن يحـذروا من التقصير والتفريط؛ فإن العقوق وعدم القيام بحقوق الوالدين من الكبائر، ففي الحديث: ((ألا أنبـئكم بأكبر الكبائر؟ قالها ثلاثا؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين))، فالعقوق - يا عباد الله - قد لا يكون فيما يعهده الناس من عدم الاستجابة لأوامر الوالدين فحسب بل هو أوسع من ذلك وأدق، وذلك عندما لا يلتفت المرء إلى كلامهما وحديثهما ولا يقوم بما هو من حقهما، بل إن مجرد أن يمـشي الولد أمام والده يعد من العقوق إلا أن يقصد إزالة ما يعـترض طريق أبيه من الأذى، فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه شيخ فقال: من هذا معك؟ قال أبي، قال: ((لا تمـش أمامه ولا تقعد قبـله ولا تدعه باسمه))، ولتحذر، أيها الابن، أن تشتغل بأهـلك وولدك أو حتى بهاتفك عنهما، بل إياك أن يشعرا منك توجعا وتأففا، تظهر بهما بمظهر الكاره لما تقوم به، واحذر، أيها الابن، أن تزور والديك وكأنـك ضيف عندهما أو كأنـك مدعو إلى مائدتهما، فهذا فيه من الجفاء ما فيه، بل زرهما زيارة الابن البار لهما، استشعر حاجتهما وأفرح قلبهما، وما أجمل أن تأتي وفي يديـك مائدة الطعام، فما أسعدهما وهما يتناولان طعامك وما أسعدك ببرهما.
فاتقوا الله -عباد الله-، وأظهروا البر والإجلال والانخفاض لوالديكم، تسعدوا في حياتكم وتفوزوا برضا ربـكم.
هذا وصلوا وسلموا على إمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين، فقد أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في محكم كتابه حيث قال عز قائلا عليما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت وسلمت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن المؤمنين والمؤمنات إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعا مرحوما، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما، ولا تدع فينا ولا معنا شقيا ولا محروما.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ووحد اللهم صفوفهم، وأجمع كلمتهم على الحق، واكسر شوكة الظالمين، واكتب السلام والأمن لعبادك أجمعين.
اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت سبحانك بك نستجير، وبرحمتك نستغيث ألا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر، وأصلح لنا شأننا كله يا مصلح شأن الصالحين.
اللهم ربنا احفظ أوطاننا وأعز سلطاننا وأيده بالحق وأيد به الحق يا رب العالمين، اللهم أسبغ عليه نعمتك، وأيده بنور حكمتك، وسدده بتوفيقك، واحفظه بعين رعايتك.
اللهم أنزل علينا من بركات السماء وأخرج لنا من خيرات الأرض، وبارك لنا في ثمارنا وزروعنا وكل أرزاقنا يا ذا الجلال والإكرام. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعاء.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).