مصباح قطب -
mesbahkotb@gmail.com -
تفرض قضايا الأوضاع المالية والنقدية والاقتصادية العالمية، نفسها على العقل، أينما ولى، ويجد المرء نفسه منساقا الى العودة إليها بتسارع غير مسبوق، حتى ولو كان بالكاد قد غادرها. نقول دائما : « تفاءلوا بالخير تجدوه »، وذلك حيوي للغاية، لكن القادر على التفاؤل الحقيقي هو الشخص الذي يعي جيدا حقيقة الأوضاع على الأرض ، لا ذلك الذي يتغافل عنها أو يهمل وجودها عمدا أو سهوا . ورغم قسوة الحقائق ، أو المشاهد الواضحة بمعنى أدق ، لأن جانبا ليس باليسير مما يجري غاطس وغير واضح الملامح والأبعاد، فإنه حري بنا أن نحلل ونراجع وندقق كل يوم ، ما يجري أو ما هو متوقع ، ونتأهب لملاقاة المحتمل الحدوث قبل ان يطرق أبوابنا أو يقع فوق رؤوسنا . ويبدو أن الوقت لا يحتمل الانتظار فمعدلات التغيير تتسارع ، والأحداث المنبئة بصعوبات عالمية تترى وتطال الجميع تقريبا .
ولأنه لا وقت لنضيعه او لنترك الأمور الى حين إنجاز أعمال بحثية كبرى - تليق- ومعمقة ومدققة ، فقد عقد المركز المصري للدراسات الاقتصادية ، احد اهم مراكز البحث الاقتصادي في الوطن العربي - منذ أيام ندوة باسم «المتغيرات الاقتصادية العالمية الأخيرة وأثرها المتوقع على الاقتصاد المصري»، وذلك بحضور نخبة من الخبراء والمتخصصين، قاصدا بناء سيناريوهات أولية للتداعيات وسبل التصدي لها ، واستطلاع رأي خبراء لهم باع فيما يقرأونه من مؤشرات على ما يدور على ساحة أسعار الفائدة والصرف والنفط في العالم وكذا تدفقات رأس المال عبر الحدود ونتائج الإصلاحات الاقتصادية وكيف يمكن ان تتم فيظل مستجدات لم تكن على البال. لم يكن ما قيل شأنا مصريا خالصا بحال ، رغم تركيزه على مصر ، فقد تعرض الباحثون والخبراء لكل ما يجري عالميا وإقليميا بقدر كبير من الموضوعية والترقب الحذر ليخرجوا بما سأعرضه توا .
قالت الدكتورة عبلة عبد اللطيف، المدير التنفيذي ومدير البحوث بالمركز،( ورئيس المجلس الاستشاري الاقتصادي لرئيس الجمهورية والاستاذ بالجامعة الامريكية وعضو لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي والى غير ذلك ) ، إن هناك تغيرات متسارعة على المستويين الداخلي والخارجي، ولذا فاليقظة الدائمة مطلوبة والجاهزية للمواجهة يجب ان تكون في اعلى حالاتها ، حيث تشهد حركة التجارة العالمية تباطؤا، وتعاني الأسواق الناشئة من اضطرابات، كما ارتفعت أسعار الفائدة العالمية.
وزادت أسعار النفط، وهو ما يؤثر كثيرا على المستوى الداخلي، حيث تتأثر الموازنة العامة بصورة كبيرة بارتفاع أسعار البترول العالمية، كما تتأثر جوانب أخرى في النشاط الاقتصادي ، وقامت وزارة المالية بإلغاء عدد من عطاءات سندات الخزانة واستبدلتها بأذون خزانة وهو ما يوحي بالتوجه نحو الاعتماد على قروض قصيرة الأجل لتمويل احتياجات الحكومة طويلة الأجل، هربا من أسعار الفائدة المرتفعة بفعل ارتفاع الفائدة الأمريكية وهروب رؤوس الأموال الى هناك، كما تسبب هبوط البورصة الناتج في جانب كبير منه أيضا عن أوضاع الأسواق الناشئة ، في قرار الحكومة بتأجيل برنامج الطروحات الحكومية.
واستعرضت الدكتورة ياسمين عبد الرزاق، رئيس إدارة التخطيط الاستراتيجي، بالبنك المصري الخليجي ، ما يمر به عدد من الأسواق الناشئة وهي تركيا والأرجنتين وجنوب إفريقيا، مشيرة إلى وجود عوامل مشتركة تجمع بين ما يحدث في هذه الدول ووضع مصر في الوقت الحالي، أبرزها ارتفاع عجز الموازنة العامة وزيادة حجم الدين، الذي أصبح مثار حديث عالمي.
وأشارت ياسمين إلى توجه الحكومة نحو طرح إصدارات عديدة في الأسواق العالمية وبعملات مختلفة، ولكن في ظل ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، لن تكون تكلفة هذه الإصدارات منخفضة كما كنا نتصور في الفترة الماضية ، موضحة أن الضمانات التي تصدرها الحكومة لا يتضمنها رقم الدين، مثل قضايا التحكيم الدولي ضد مصر، وقروض الكهرباء، رغم أن جزء من هذه الضمانات يمكن أن تتحول لدين حقيقي في أي لحظة.
وأوضحت أنه سيكون من الصعب الاعتماد على الاستثمار الأجنبي المباشر لتخفيض حجم الدين لأن هناك تراجعا في الاستثمار الأجنبي المباشر على المستوى العالمي، كما أن الإيرادات من قناة السويس تعتمد على حركة التجارة العالمية، وكذلك السياحة، وهو ما يتطلب البحث عن مصادر بديلة للدولار، مطالبة بوجود استراتيجية لزيادة الصادرات المصرية بالاستفادة من تعويم الجنيه.
وقال محمد أبو باشا، رئيس وحدة الاقتصاد الكلي ببنك الاستثمار « إي إف جي هيرمس» ، إن هناك عاملين سيؤثران بقوة على الاقتصاد المصري خلال المرحلة المقبلة، وهما ارتفاع أسعار البترول العالمية وارتفاع الفائدة الأمريكية، وأضاف إن التوقعات بأن العامين القادمين سيشهدا فترة تيسير بعد تنفيذ المرحلة السابقة من خطة الإصلاح الاقتصادي، اختلفت حاليا، وسيتأجل هذا التيسير بسبب المتغيرات العالمية، ومن المتوقع أن يرتفع التضخم، وبالتالي سيتأثر معدل نمو القطاع الخاص.
واكد عمر الشنيطى، العضو المنتدب لمجموعة « مالتيبلز» للاستثمار، أن مصر دولة ناشئة لذا قدرتها على التأثير في الخارج محدودة، في حين نتأثر بما يحدث في العالم بشكل كبير، وفيما يتعلق بتأثر مصر بالحرب التجارية بين أمريكا والصين أو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي فيم يعرف بالبريكست، قال الشنيطي إن تأثيرهما على مصر محدود.
وأشار الشنيطى إلى أن الحكومة قد حالفها سوء الحظ حيث بدأت تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي وقت أن كانت الأسعار منخفضة، ولكن أثناء التنفيذ ارتفعت أسعار الفائدة الأمريكية وهو ما يتبع خطاه دول العالم.
وأشار الشنيطي إلى أن موازنة مصر تتأثر سلبا بارتفاع النفط، ولكن على الجانب الآخر عندما ترتفع أسعار البترول تزيد تحويلات العاملين من دول الخليج وتزيد المنح والدعم من هذه الدول لمصر، ولكن لا يتوقع تكرار هذه الاستفادة من الارتفاع الحالي، في ظل اتجاه دول الخليج لتوطين عمالتها كبرامج السعودة وغيرها، ووجود أولويات أخرى لديها بخلاف دعم مصر كدولة مستقرة.
واختتمت الدكتورة عبلة عبد اللطيف بقولها إن هذه القراءة للأحداث تملي علينا ان تكون الأولويات هي في التركيز على الإصلاح الحقيقي وتحفيز الاستثمار المحلي والقطاع الخاص، الذي يحتاج إلى إزالة العوائق التي تواجهه لتقليل تكلفة التعامل.
وشددت على أهمية الشفافية والتمسك بالمرونة في المرحلة المقبلة، والتأكيد على عملية الإصلاح المؤسسي ومراجعة الأولويات سواء على جانب الإنفاق أو الاستثمار.
كان هذا جوهر الاستعراضات التي تمت وتشاء المقادير ان التقي في نفس اليوم بالدكتور اسحاق ديوان - استاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد - والذي قال لي ان هناك بالفعل مؤشرات سيئة كثيرة تحيط بالاقتصاد العالمي، كما ان الأزمات في الدول الناشئة صعبة بل إن دولا مثل ايطاليا تعاني هي الأخرى من جراء الديون والقروض وتباطؤ النمو وزيادة عجز الموازنة وكلنا يعلم مشكلة مديونية الشركات في الصين ومعظمها شركات عامة ومخاوف حدوث انفلات مصرفي وتضخم في أمريكا نتيجة سياسات ترامب الخ لكن المثير أيضا - حسب ديوان - ان مقدرة كل دولة على مواجهة الأزمات تختلف عن الأخرى فالصين سيكون لديها نفس أطول بحكم سيطرتها على الاقتصاد والمؤكد أنها سترجئ استكمال التحول الى السوق الحر. مصر مثلا لديها قدرة معقولة على الصمود ماليا ونقديا ومن ناحية النمو والاحتياطيات ولكن لا بد من تحقيق قفزة في الصادرات لتفلت من وقع الأزمات وهكذا سنجد تبانيا في المواقف ولهذا لا يجمع الباحثون على وقوع أزمة كبيرة قريبا كما تختلف توقعات مراكز الأبحاث ومؤسسات الاستثمار الكبرى للعالم أو لهذا البلد أو ذاك .
لا املك إلا ان أعيد التذكير بأهمية اليقظة .