محمد جميل أحمد -
هذه الأيام تمر علينا الذكرى السادسة عشرة لرحيل المفكر السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد، الذي رحل في 20 ديسمبر من العام 2004.
ربما كان حاج حمد مفكراً مغترباً ليس فقط بالمعنى المادي للاغتراب، الذي نال حظاً منه، بعيداً عن وطنه وغير معروف فيه، بل كذلك بالمعنى الفلسفي.
فلقد قارب الرجل معرفةً جسورة، انطلقت من انهمامات الأزمنة الحديثة ومن قلب التفكير المعرفي للحداثة، لكنها في الوقت ذاته، قاربت، من أفق مختلف؛ معرفة قرآنية شكلت نتائجها في فكره فارقاً كبيراً، فقد كان الرجل مفكراً منتجاً للمفاهيم، وكانت لحظة تفكيره تبحث عن مخرج من الانسداد الذي وصل إليه فكر الحداثة المادية مع الفلسفة الماركسية.
وبالرغم من أن أفق المعرفة الذي كشفت عنه أفكار الفيلسوف الألماني يورغن هابرماز، الذي يعتقد أن الحداثة مشروع قيد الصيرورة، بعد أن أدرك تماماً الانسداد النظري لفلسفات الهوية، مثل الفلسفة الماركسية، مواجهاً بذلك فلاسفة الاختلاف (ما بعد الحداثة)، إلا أن أبا القاسم حاج حمد انطلق من نقطة تتقاطع مع الآفاق المفتوحة للفلسفة التواصلية التي بشر بها هابرماز، والتي تتضمن في مشروع حوار الذوات أفقاً ممكناً لمقاربة المعرفة الدينية.
بطبيعة الحال مشروع أبي القاسم حاج حمد الفلسفي الذي حاول به اكتشاف نظام معرفي للقرآن، انطلق من البنية الذاتية للقرآن ومعجمه الدلالي واللغوي وإطاره النظري، واستناداً إلى يقين رياضي على دقة المناهج الاستدلالية التي يحيل إليها القرآن حول قضايا الكون والحياة والإنسان، وهو ما أسماه حاج حمد (جدل الغيب والطبيعة والإنسان).
ولعل سائل يسأل؛ ما علاقة المعرفة القرآنية بقضايا الحداثة الفلسفية المعاصرة؟ وفي تقديرنا أن إجابة أبي القاسم حاج حمد انطلقت في هذا الإطار من جدية وحقيقة الطبيعة الكونية والإنسانية التي يحيل إليها خطاب القرآن الكريم. فمفاهيم مثل: الخلافة والابتلاء والتقوى، وقيم مثل: حرية الاعتقاد، ووحدة الأصل البشري، وكرامة الإنسان، والمساواة، هذه كلها معطيات خطاب قرآنية واضحة، إلى جانب الطبيعة الإنسانية والكونية لرسالة القرآن ورسول الإسلام (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا).
كان هذا يعني في وعي أبي القاسم حاج حمد أن ثمة خطاباً مضمراً ومنهجاً معرفياً يحتاج إلى كشف في الأزمنة الحديثة من خلال اختبار الفكر وإعمال النظر في القرآن الكريم، فمادام خطاب القرآن دال بصورة واضحة لا لبس فيها؛ بأن رسالة القرآن الكريم هي للناس كافة، وبصيغة النفي والاستثناء اللغويين (وهي صيغة تقتضي الحصر) فهذا يعني بالضرورة المعرفية؛ أن خطاب القرآن ومفاهيمه الإنسانية لابد أن تعكس في مضمونها إجابات واضحة للمفاهيم والأحوال التي تتصل بمطلق الحياة البشرية وابتلاءاتها وهموم الإنسان وقضاياه الزمنية من حيث كونه إنساناً فحسب. ولعل خطاب الآية الكريمة التي في القرآن: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير) التي تتحدث عن مفهوم التقوى بدلالة إنسانية كونية واضحة، تغيب دلالتها عن الكثيرين رغم وضوحها. فالتقوى المطلوبة هنا هي مطلوب الله من الناس كافةً بغض النظر عن أديانهم! بمثلها التفكير حول الخطابات القرآنية الإنسانية المؤكدة في محتوى القرآن الكريم بدا واضحاً لأبي القاسم حاج حمد ضرورة التفكير في بحث عن منهج تفكير مختلف في القرآن الكريم!
لقد اقتضى منه المنهج الذي أسماه حاج حمد بمنهج الجمع بين القراءتين: (أن يستوعب الإشكاليات المنهجية والمعرفية التي تأخذ بخناق فلسفة العلوم الطبيعية والإنسانية بمنطق نقدي تحليلي ثم يحيل تساؤلاته في مجال هذه العلوم على القرآن، لا ليبحث عن التعارض أو التوافق، ولكن ليبحث عن الفهم الكوني الذي يأخذ بالأبعاد الثلاثة في مركبات هذه العلوم (جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) « كما يقول حاج حمد في كتابه الذي طرح فيه أطروحته التأسيسية (العالمية الإسلامية الثانية.. جدلية الغيب والطبيعة والإنسان) حيث شرح في هذا الكتاب الذي صدر لأول مرة في العام 1979، ثم صدر مؤخراً في طبيعة منقحة عن دار الساقي في العام 2012 مبادئ تفسيرية كثيرة لفلسفته، كما أنتج أكثر من مفهوم شرح من خلاله أفكاره الفلسفية المتصلة بالمنهج المعرفي للقرآن الكريم.
يقول أبو القاسم حاج حمد في كتابه المذكور «... وبهذا المنطق المنهجي والمعرفي نتناول الفلسفة كشرط معاصر من شروط الجمع بين القراءتين، وبمعزل عن الدوافع التي حدت بالأئمة، كالغزالي والأشعري والشافعي، إلى نقد التوجهات الفلسفية التي كانت لها دلالات أخرى في عصرهم، غير دلالات الجمع بين القراءتين، وحيث لم تكن ثمة (متغيرات نوعية) تفرض عليهم مناهج تفكير مختلفة. ونضيف إلى ذلك: أن استمرارية القرآن في العطاء ولكل العصور (المتغايرة نوعياً) من جهة، وتفاعل خطابه العالمي مع مختلف الأنساق الحضارية والمناهج المعرفية من جهة ثانية، يتطلبان تعميق البحث الفلسفي في منهجية القرآن ومعرفيته النظرية».
لقد عاش ورحل المفكر السوداني الكبير محمد أبو القاسم حاج حمد، بعيداً عن وطنه، لكنه ترك فكراً لا يزال جديراً بالتأمل.