مدينة تيكال الأثرية بأهرامها السامقة، من تراث حضارة المايا القديمة، اكتشفت وسط أحراش جواتيمالا المطيرة (بيتن)، بالصدفة على يد جامع صمغ يدعى أمبروزيو توت، عام 1853، تبين أنها أكبر بكثير مما تبدو عليه، تحديدا ثلاثة أضعاف مما كان متصورا قبل أكثر من قرن ونصف، وفقا للبيانات التي أظهرها مشروع بحثي يجري وفقا لتطبيق تكنولوجي متطور: رصد الضوء والمطر عن بعد والمعروف اختصارا (LiDAR)، ويعمل بتأثير أشعة الليزر التي تخترق الأحراش الكثيفة على نطاق يصل إلى 2100 كيلومتر مربع في محمية المايا للتنوع البيئي، شمال البلاد.
وفي تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ) يقول عالم الآثار فرنسيسكو استرادا بيلي (تيكال مدينة مذهلة، نعرف الآن أنها أكثر اتساعا مما كنا نتصور، أكبر بثلاثة أضعاف، محيطها يتجاوز 100 كيلومتر مربع، لم نعثر بعد على نهاية حدودها).
وفي عام 1979، انضمت تيكال إلى قائمة اليونسكو لتراث الإنسانية، بوصفها جزءا من حضارة المايا، وفي 2017 أعلنت ضمن قائمة المنظمة الدولية التي تضم أهم عشرة أماكن أثرية في العالم.
وتقع المدينة الأثرية بمقاطعة فلوريس، في قلب أحراش إقليم بيتن، 500 كلم شمال العاصمة جواتيمالا سيتي، وتعتبر أقدم منطقة أثرية تم اكتشافها في النصف الغربي من الكرة الأرضية، وقد وصلت أوج ازدهارها خلال الفترة بين 200 و 900 بعد الميلاد، إلا أن عمارتها التي تتميز بالأهرامات المدرجة، ترجع إلى الفترة بين القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد.
وترجع أهمية موقع تيكال الأثري، إلى أن دراسة آثاره أتاحت التعرف على منجزات الحضارة والتطور العلمي والثقافي التي توصل إليها شعب المايا، ومن بينها التقسيمات الإدارية والاجتماعية، ومسارات وطرق التجارة، وأساليب الكتابة، والتقدم في العلوم والرياضيات والفلك والزراعة، إلخ.
وفقا للرموز المحفورة على جدران الإهرامات، كانت تيكال وتعني بلغة المايا (“بئر الماء)، تعرف قديما باسم (ياش موتول) وتعني (الأصوات الأولى) أو “مكان الأصوات” وفقا للغة الإيتثا التي كانت تتحدثها عرقية المايا “يوكاتيكا”.
يشار إلى تيكال ليست المكان الأثري الذي كشفت أبعاده تقنية (LiDAR) فقط، بل توصلت أيضا لاكتشاف أبعاد جديدة لحواضر أخرى، ومراكز شعائر طقسية وتعبد لشعب المايا في بيتن، حيث يعمل استرادا بيلي ليلا ونهارا مع فريقه الأثري، حيث توصلوا إلى أنها أكبر بعشرين إلى أربعين ضعفا عما كان مسجلا حتى ذلك الوقت.
يقول البروفسير بجامعة تولين، نيو أورليانز “لقد كانت مخفية أسفل الأحراش”. يعمل خبير الآثار مستخدما نفس التقنية، على مشروع بحثي آخر بموقع أثري في هولمول، التابعة أيضا إلى إقليم بيتن. ومن ثم يذكر على سبيل المثال أن موقع البالمار ويضم العديد من الحواضر القديمة، أكبر 40 مرة مما هو موثق في الخرائط الرسمية المعروفة حاليا. كما ينوه إلى أن منطقة دوس أجواداس، بقطاعيها الحضري والطقسي أكبر 20 مرة من المعالم التي ظلت معروفة حتى الآن.
وتسعى هذه الدراسات الجديدة حول مدن حضارة المايا وخصائصها الديموجرافية، خلال العصر ما قبل الكلاسيكي (1000 ق.م و300 بعد الميلاد) والكلاسيكي (300 إلى 900 بعد الميلاد)، إلى إعادة رسم خريطة إقليم بيتن، تحت رعاية صندوق التراث الثقافي الوطني لحضارة المايا (Pacunam)، ويعد أضخم مشروع من نوعه في تاريخ دراسة آثار حضارة المايا وأميركا الوسطى.
“متوافر لدينا معلومات كثيرة عن حضارة المايا وتطورها وإنجازاتها المتقدمة، والآن يمكننا تعريف العالم بمدى عظمة امتدادها واتساع رقعتها بالتفصيل الدقيق”، يؤكد استرادا بيلي، مضيفا أن أعضاء الفريق تمكنوا من التوصل لاكتشافات سريعا بفضل تحليل البيانات باستخدام تقنيات (LiDAR)، على العديد من المراكز الحضرية التي لم تكن معروفة، بأهراماتها وساحاتها الرئيسية، وهي اكتشافات كانت لتستغرق سنوات، باستخدام الوسائل التقليدية.
بالنسبة لمدينة تيكال، تم في قلب المدينة اكتشاف هرم، لم يكن معروفا من قبل، ارتفاعه 30 مترا، يبدو أنه كان يتم التعامل منه على أنه تكوين جبلي طبيعي.
كما تم تحديد أكثر من 60 ألف بناء ومعلم أثري من خلال تقنية (LiDAR)، وتشمل مساكن وقصور عظيمة تتبع الأسر الحاكمة وأهرامات، فضلا عن 4 دور عبادة كبرى منتشرة بين ربوع المدينة الأثرية.
وتسلط هذه الاكتشافات الضوء على حجم التقدم الذي بلغته حضارة المايا، سواء في الزراعة أو في الهندسة أو في الحروب. يوضح استرادا بيلي أن المكتشفات الجديدة، تثبت كفاءة شعب المايا في الاستفادة من البقاع الرطبة والمنخفضات في الزراعة، على الرغم من الاعتقاد السائد أن هذه المناطق كانت غير مستغلة.
كما استغل شعب المايا الهندسة في التعامل مع الظروف البيئية بصورة أكثر استدامة، من خلال تكوين بحيرات صناعية لتخزين مياه الأمطار، لتزويد القرى بالمياه طوال العام، وتطوير قطاعات التصنيع الزراعي، حسب وصف خبير الآثار استرادا بيلي.
“كان لديهم تصور بانورامي شامل عن المدينة: منازل بشرفات، أراضي زراعية مقسمة حسب المرتفعات والمنخفضات، تتخللها قنوات الري وعيون المياه، بالإضافة إلى المواقع الحصينة، طرق ممهدة ممتدة وسط الأحراش بصورة تكشف مدى التقدم المذهل الذي بلغته حضارة المايا في ذلك الوقت” حسبما يؤكد استرادا بيلي. (د ب أ)