مصباح قطب - النظر من زاوية أخرى أو التقييم والنقد وطرح البدائل ، هو أساس تحقيق التكامل والاستمرارية لأي تقدم اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي . وقد تسمح البيئة العالمية بالتنوع والتعدد الفكري في بعض المجالات أو ربما معظمها ، لكن القوى السائدة اقتصاديا لا تتسامح عادة مع الاختلاف أو النظرة الأخرى التي نتحدث عنها ، وتعتبر أن تحرير الاقتصاد والتجارة والعملة والخصخصة هي نهاية التاريخ. ومن فرط تكرار هذه النغمة بأشكال مختلفة ومنذ بزوغ «التاتشرية» و«الريجانية» بات البعض يتساءل: لماذا يتمسكون هكذا بنهج واحد مع ان أرض الله واسعة والنظريات والأفكار كثيرة، وسبل تحقيق التنمية والتقدم الإنساني ستستمر في التحول والتغير، كما سيستمر الجدل والنقاش والاختلاف والاتفاق حولها كسمة طبيعية مع أي فكر حقيقي؟. لقد أدى التكرار المضجر لهذا الخطاب وبصرف النظر عن الموقف من محتواه، الى إيجاد طلب أو توليد حاجة إنسانية والى سماع أصوات مختلفة، بمثلما ولدت التحديات الجسيمة التي يواجهها الوضع التنموي في العالم حاليا ، احتياجا فرديا وجماعيا ودوليا إلى سماع نغمات أخرى . أتحدث هنا عن التحديات التي أبرزها الأزمات الاقتصادية المتكررة ، والتفاوت الحاد في الثروات والدخول ، والاحترار العالمي الخطير، وانتشار الحروب التجارية وحروب العملات ، وهيمنة المضاربات المالية. الخ . صاحب الفكر الاقتصادي المختلف الذي أشير إليه الآن وانقل عنه له تاريخ مهني مشرف حيث عمل بالتدريس في جامعة اكسفورد البريطانية التي حصل منها قبلها على الدكتوراه ، وعمل في معهد التخطيط العربي ، ومعهد التخطيط المصري لسنوات طوال ، وكان الباحث الرئيس للمشروع البحثي المصري الشهير «مصر 2020» ، والذي كان قد أشرف عليه الدكتور إسماعيل صبري عبدالله وزير التخطيط الأسبق ، فهو واحد من أهم أعلام الفكر الاقتصادي الحديث في وطننا العربي، والى ما تقدم كله فهو يعرض علينا بإنصاف ونزاهة وعمق كل الأفكار والتيارات الاقتصادية التي يتم تداولها عالميا حاليا، مع انه ينحاز إلى نموذج محدد قد يتفق معه الآخرون أو يختلفون ألا وهو التنمية المستقلة المعتمدة على الذات والمستدامة. انه الدكتور إبراهيم العيسوي أستاذ الاقتصاد في معهد التخطيط المصري الذي قدم لنا منذ أيام وهو يدخل عامه الثمانين كتابا مثيرا للعقل والوجدان والخيال بعنوان «تجديد الفكر الاقتصادي». يشتمل الكتاب على عشرة فصول، فضلا على مقدمة وقسم ختامي بعنوان: استخلاصات. يقدم الكتاب في البداية عرضا للمعارضات المتنوعة على محتوى علم الاقتصاد وطريقة تدريسه، ويربط بين الأزمة الاقتصادية العالمية وبين تصاعد المطالبات بتجديد الفكر الاقتصادي. ثم يقدم تصنيفاً عاماً للانتقادات التي توجه إلى علم الاقتصاد، وذلك دون الخوض في التفصيلات المتعلقة بنقد فرض بعينه أو نظرية بذاتها. ويلي ذلك الجزء الأول وتم تخصيصه لنقد الفكر الاقتصادي السائد. حيث قدم تمهيدا لنقد علم الاقتصاد، وعرض المؤلف أهم مبادئ الاقتصاد النيوكلاسيكي الذي يمثل الفكر الاقتصادي السائد، كما بين أسباب صمود هذا الفكر في مواجهة الانتقادات والأزمات. ثم تناول بعض الفروض الأكثر تعرضاً للنقد، ثم عالج بعض المقولات التي أثارت - ولم تزل- غير قليل من الجدل، وقام بتقييم ثلاث نظريات اقتصادية ذات أهمية خاصة من المنظور التنموي، وهى نظرية التوزيع ونظرية التجارة الدولية ونظرية التنمية . ويقدم الجزء الثاني من الكتاب خمس مجموعات من المقاربات التي يمكن أن تفيد في تطوير الفكر الاقتصادي والتنموي السائد. وقد استهدفت تلك الفصول التعريف بكل مقاربة وبيان خصائصها وأغراضها، وتقييم ما فيها من نقاط للقوة ونقاط للضعف. ثم عرض مجموعة من المقاربات التي تقوم على مزج الاقتصاد بالتاريخ والمؤسسات والاجتماع والأخلاق. وتلاها بمجموعة مقاربات يمتزج فيها الاقتصاد بالتجريب وعلوم السلوك والنفس والأعصاب. وتناول بعض المقاربات التي تقوم على افتراضات وتصورات أكثر تعقداً للسلوك الاقتصادي من الافتراضات والتصورات النيوكلاسيكية المفرطة في التبسيط والتجريد. وعرض المقاربات التي تسعى لتوسيع مجال النظر للظواهر الاقتصادية وتستهدف التكامل بين علم الاقتصاد وطائفة واسعة من العلوم والمعارف الأخرى. ثم خصص فصلا للبحث في عدد من المقاربات التي تركز على الهم الأكبر لبلادنا، وهو إنجاز التنمية الشاملة . وينتهي الكتاب بمجموعة من الاستخلاصات الرئيسية التي يرجى أن تكون ذات فائدة للبحث الاقتصادي وصنع السياسات وبمعنى آخر كيفية فهم السلوك الاقتصادي ونمذجة النظم الاقتصادية ، وأدوار كل من السوق والتخطيط والدولة والعلاقات بينها، والمنهج المناسب للتنمية، وذلك فضلاً على مناقشة ما إذا كانت المقاربات المطروحة في الكتاب قد أوصلتنا إلى علم اقتصاد جديد، وتقصي أسباب ضعف مساهمة الاقتصاديين العرب في تجديد الفكر الاقتصادي وسبل تنشيطها . ولو تم ذلك كما يقول العيسوى فإن باباً ولو صغيراً يمكن أن ينفتح لمشاركة الاقتصاديين العرب في جهود تطوير علم الاقتصاد، وللاجتهاد في صياغة سياسات اقتصادية ومناهج تنموية جديدة تعين الوطن العربي على مواجهة التحديات المزمنة للتخلف والتبعية، وتؤدى إلى تحقيق رضا علم واسع في ظل تقدم اقتصادي وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية . والمأمول كما يقول الدكتور العيسوى في نقاش خاص مع الكاتب أن يساعد الكتاب في تنشيط المساهمة العربية في علم الاقتصاد من طريقين: أولهما أن تحفز مادة الكتاب المعنيين بتصميم البرامج التعليمية وتطوير المناهج في جامعاتنا- وبخاصة في مرحلة الدراسات العليا- على إعادة النظر في أسلوب أداء هذه المهام بما يضمن إزالة الجدران العازلة بين التخصصات المختلفة ويفتح آفاقاً رحبة لتقديم برامج تتميز بتعددية التخصصات والتفاعل العميق بينها. وثانيهما أن يشجع الكتاب بعض شباب الاقتصاديين - سواء أكانوا في مرحلة الدراسات العليا أم في المراحل الأولي للسلك الأكاديمي بعد الحصول على الدكتوراه - على الخروج من الدائرة شبه المغلقة لموضوعات يتكرر بحثها كثيراً بلا قيمة علمية مضافة تذكر إلى الدراسة التفصيلية لمقاربة من مقاربات تجديد الفكر الاقتصادي، وذلك تمهيداً للتخصص فيها . يلتقط الكتاب ملمحا مهما للغاية من ميدان الفكر الاقتصادي الحالي فيقول إنه تعرض لموجات من الهجوم بلغت ذروتها بعد الأزمة العالمية 2008 ولكن الجديد ان طلاب الاقتصاد في الجامعات الكبرى باتوا يلعبون دورا مهما في الاحتجاج على ما تقدمه لهم الجامعات من فكر اقتصادي غير قادر في نظرهم على تفسير ما يجري في الحياة الاقتصادية الواقعية من أحداث، وعاجز عن التنبؤ بحركة النظام الاقتصادي. تلمس في الكتاب طوال الوقت نوع المؤثرات الحاكمة في حياة الدكتور العيسوي ذاته فهو ، الدمياطي- المحافظة الوحيدة التي ليس بها بطالة في مصر لأن جميع أهلها يعملون ومن مختلف الأعمار - المقتصد في الكلام ، والاكسفوردي المدقق في الفهم والتقييم ، والمحافظ أي الذي لا يقبل بسهولة هوجات التغيير ، والتقدمي أي المنحاز الى الجماهير الأوسع والى الاستقلال الاقتصادي وعدالة توزيع عوائد الإنتاج واستدامة التنمية ، وهو أيضا الوطني والعروبي ، وقبل ذلك كله القاضي الذي يعرض كل فكرة مهما كان حجم اختلافه معها بأمانة ويكفي ان أشير الى نقده لنظرية رائجة الآن هي توافق بيجين (بكين) بديلا لتوافق واشنطون الذي ساد طوال العقود الماضية ( يقوم على حرية التجارة والخصخصة وتحرير العملة ) فيرى ان الصين حالة خاصة وان الطابع العام لها سلطوي وان الفروق في الدخل هناك آخذة في الاتساع وهكذا .