د.صلاح أبونار - من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية حتى تولى الرئيس الأمريكي الجديد للسلطة في العشرين من يناير، تأخذ عملية الانتقال التدريجي للسلطة في التقدم يوما بعد آخر. وجرى العرف على دعوه الرئيس المنقضية رئاسته في تلك الفترة «البطة العرجاء»، كناية عن التراجع الكبير في قدراته المعتادة على اتخاذ قرارات كيفية تنطوي على تغيرات أساسية. وتبدو نظرية «البطة العرجاء» أقوى ما تكون في مجال السياسة الخارجية. ومع ذلك تحدثنا الخبرة التاريخية عن نجاح بعض الرؤساء في تحدي تلك القاعدة. لكن ذات الخبرة تشدد أيضا على أمرين: كونها تحديات محدودة لم تسفر عن نتائج كيفية هامة، وندرة استخدامها للقوة العسكرية في تحقيقها لأهدافها. وها هو ترامب في أسابيعه الأخيرة يتقدم في محاولة لتجاوز منطق تلك الخبرة التاريخية، جاعلا من إيران هدفه الأساسي ومن الخيار العسكري وسيلته المرجحة للتعامل معها. فكيف تبدو الصورة؟ منذ أن قرر ترامب في 8 مايو 2018 بالانسحاب من اتفاقية 2015 النووية مع إيران المعروفة رسميا باسم «خطة العمل الشامل المشتركة»، كان الخيار العسكري حاضرا بدرجات وأشكال مختلفة في ثنايا المشهد السياسي. وبمرور الوقت كان هذا الحضور يتزايد، مع الظهور الواضح لعقم سياسة العقوبات الأمريكية الاقتصادية المكثفة، والعجز الأمريكي عن تحويلها إلى عقوبات دولية تحظى بالدعم الإرادي لتحالف واسع وبشرعية الأمم المتحدة عبر قرارات مجلس الأمن، وأخيرا بدء خروج إيران المعلن والتدريجي والمتصاعد عن التزامات الاتفاقية بعد مرور عام كامل على الخروج الأمريكي. وفي الثالث من يناير 2020 تجلى الخيار العسكري كأقوى ما يكون عندما قامت قاذفة أمريكية، باغتيال قاسم سليمانى قائد فيلق القدس بصاروخ موجه لعربة استقلها بعد هبوطه من مطار بغداد. وكان اغتيال سليمانى الرجل الثاني في تراتبية القوة في النظام الإيراني بعد المرشد العام والمسؤول الأول عن سياسات إيران في محيطها العربي، خطوة استفزازية تستهدف دفع إيران لرد فعل يوفر ذريعة لتوجيه ضربة عسكرية لها، تشكل على الأرجح خطوة في سياق تصعيد عسكري تال. وفيما يبدو جاء انطلاقته بجائحة كورونا أواخر فبراير، ليرغم واشنطون على الانكفاء على الداخل تاركة الساحة الإيرانية مؤقتا لشأنها. وبعد أن حسمت بما لا يحتمل الشك النتائج الميدانية للانتخابات، عاود الخيار العسكري حضوره القوي في مشهد العلاقات الأمريكية - الإيرانية. في 9 نوفمبر أعلن ترامب عزله لوزير دفاعه مارك أسبر من منصبه دون توضيح الأسباب ، وذكرت بعض الصحف أن السبب مذكرة لأسبر وزعت على قيادات البنتاجون في أوائل مايو تعارض قرار ترامب تخفيف الوجود العسكري في أفغانستان، ولكن نانسى بيلوسى منحتنا الوجه الآخر للقرار حينما وصفته بكونه: «دليلا مزعجا على أن الرئيس ينوي استغلال أيامه الأخيرة في نشر الفوضى حول العالم»، وهكذا ربطته ضمنيا بعمل يخطط له ضد إيران. وفي 16 نوفمبر حدثت الواقعة الأكثر دلالة عندما نشرت النيويورك تايمز، أن ترامب دعا في 12 نوفمبر لاجتماع حضره نائبه ووزير خارجيته وكريستوفر ميللر القائم بأعمال وزير الدفاع والجنرال مارك ميللى رئيس أركان حرب الجيش الأمريكي، لمناقشة الخيارات العسكرية المطروحة أمامه في مواجهة ما اعتبره تهديدا نوويا إيرانيا. وجاء الرد أن الضربة العسكرية مخاطرة جسيمة قابلة للتحول إلى اضطرابات وحرب إقليمية واسعة، وأن على الرئيس اللجوء لخيارات غير عسكرية. ومن الواضح أن ترامب كان يقف في انتظار أي فرصة يتيحها له الموقف الإيراني، ففي اليوم السابق على الاجتماع أبرزت مواقع الأخبار نتائج تقرير سري وزعته الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الأعضاء، تشير أنه بحلول 2 نوفمبر كان مخزون إيران من اليورانيوم منخفض التخصيب قد أصبح 2442 كيلو جراما أي 12 ضعفا ما سمحت به اتفاقية 2015 ، وأنه يرتفع بمعدلات عالية لأنه قفز بمقدار 337 كيلوجراما عما كان عليه في 25 أغسطس 2020. ولا تحمل تلك الأرقام في حد ذاتها نذر أخطار جسيمة، فهي أقل كثيرا من المخزون الذي تخلت عنه إيران بموجب الاتفاقية، ولا تزال بعيدة عن إمكانية توظيفها لإنتاج سلاح نووي، وتجري وفقا لآلية يمكن التراجع عنها بسهولة وسرعة. وفي أعقاب ذلك واصل ترامب الحركة في اتجاه بدائل الخيار العسكري، وهنا سنوسع نطاق التحليل ليشمل تحركات الحليف الإسرائيلي. في 18 نوفمبر فرض ترامب عقوبات اقتصادية جديدة على إيران. وفي نفس اليوم بدأت زيارة مايك بومبيو لإسرائيل وهناك التقى بنتانياهو ويوسى كوهين رئيس الموساد، وفي 27 نوفمبر جرت عمليه اغتيال عالم الذرة الإيراني فخر الدين زاده التي نسبتها الصحف الأمريكية لإسرائيل، وربطتها صحيفة الوول ستريت جورنال ضمنيا بزيارة بومبيو. وفي 10 ديسمبر أرسلت قيادة الجيش الأمريكي قاذفتي قنابل استراتيجيتين من طراز بي 52، في استعراض قوة إلى الشرق الأوسط لمواجهة ما اعتبر تصريحا للقيادة المركزية تهديدا إيرانيا للحلفاء الإقليميين. هل يقودنا التحليل السابق إلى أن الخيار العسكري نُحي عن قائمة خيارات ترامب نهائيا؟ كلا . عرفنا ما فعله ترامب عمليا بعد 12 نوفمبر، لكن الإعلام لم يرصد ما دار بعد ذلك داخل عقل ترامب والنخبة المحيطة به. ولكنه كان لا يزال حاضرا، بدليل حضوره القوي في أطراف الصراع الآخرين. سنجده في إيران. تخبرنا الاسوشيتد بريس في 20 نوفمبر أن قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، اجتمع في زيارته لبغداد مع قادة فصائل عسكرية عراقية ليحذرهم من الرد على الاستفزازات الأمريكية المتوقعة، حتى لا يمنحوا ترامب الفرصة لشن هجمات ضد إيران. وفي لبنان خاطب حسن نصر الله مناصريه، مطالبا بأقصى درجات الحذر وعدم الانسياق وراء الاستفزازات المتعمدة حتى تنتهي رئاسة ترامب. ويخبرنا باراك ديفيد في تقرير كتبه من تل أبيب ونشره موقع أكسيوس الأمريكي في 25 نوفمبر، أن التعليمات صدرت للقوات الإسرائيلية كي تكون مستعدة، لأن الفترة القادمة «شديدة الحساسية» قد تشهد ضربات أمريكية ضد إيران. وعلى أية حال من الأفضل أن نتعامل مع تلك المخاوف كتعبير عن احتمالات راهنة. ليس فقط توخيا لسلامة التحليل، بل أيضا لارتباطها الوثيق بشخصية ترامب. مع سياسي من نمط ترامب لا يجب استبعاد أي خيارات مهما كانت غير عقلانية. فهو نمط لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وطوال المعركة الانتخابية أغرقنا محللون متزنون بسيناريوهات حول شطط ترامب المحتمل في مواجهة الهزيمة، وحتى الآن لا يزال يمطرنا بتغريدات تصف الانتخابات بالتزييف رغم 40 قضية رفعها وخسرها جميعا، ويمتلك جرأة عزل وزيري الدفاع والعدالة بعد هزيمته ولأسباب تتعلق برفضهم مسايرة أهوائه. والمشكلة ليست في مجرد تلك التوجهات، بل لوجودها لدى شخص خاسر ويائس ويصارع لتجميل نهايته المهينة. إلا أن تلك الشخصية القابضة على السلطة تواجه كوابح ستحد كثيرا من قدرتها على الفعل. فهي - أولا - تواجه كابحا زمنيا متصاعد السطوة. كل يوم يمر في الفترة الانتقالية يقلل قدرة ترامب على الفعل الاستثنائي وعلى الأخص في المجال الخارجي. ونفترض أن تلك القدرة ستنتهى تماما في 6 يناير مع اجتماع الكونجرس وإقراره لفوز بايدن، ولن يكون في إمكانه ممارسة هذا الفعل إلا في حالة استفزاز أو عدوان خارجي صريح وقوي، وهذا مستبعد في حالة إيران. وهي - ثانيا - تواجه كوابح مؤسسية. يصعب تصور تجاوب المؤسسة العسكرية مع قرارات عسكرية تحمل شططا حركيا يترتب عليه اشتباكات وتداعيات إقليمية واسعة. وهذا ما حدث بالفعل في اجتماع 12 نوفمبر. الذي كان في جوهره استكشافا لرأي القوات المسلحة ممثلة في شخص رئيس أركانها، وانتهى الاجتماع باعتراض رئيس الأركان لذات الأسباب. ومن الصحيح أنه يظل القائد الأعلى صاحب القرار النهائي، ولكن القادة أيضا يمتلكون حق الاعتراض والاستقالة، وتحويل القرار لقضية عامة بينما يواجه ترامب شكوكا واسعة داخل مؤسسات الدولة والمجتمع والإعلام. ويمكن تصور تجاوب المؤسسات العسكرية مع قرار بضربة محدودة غير قابلة لتوليد تداعيات إقليمية، ولكنها لن تتجاوب معه إلا كرد فعل على استفزاز إيراني سافر أو غير إيراني مصدره حليف لإيران، وهذا بالتحديد جوهر تحذيرات حسن نصر الله وإسماعيل قاآني لاتباعهما في لبنان والعراق. وحتى بافتراض تجاوبها مع قرار بضربة محدودة لا يسبقها استفزاز إيراني، فسوف تكون حريصة على درجة محدودية تضمن لها ضبط التداعيات، وفي هذه الحالة لن تمتلك الضربة أي قيمة عسكرية حقيقية تبرر خسائرها السياسية الأكيدة. ويقودنا التحليل السابق لسؤال هام: أليس من الممكن أن تستغل إسرائيل لصالحها رغبة ترامب وتبادر بهجوم يستهدف تدمير قدرات إيران النووية والعسكرية؟ يمكن ذلك في حدود ضربة محدودة، والمشكلة إنها قامت بالفعل بضربتها المحدودة الممكنة باغتيال فخر الدين زاده. ويصعب تماما أن تفكر إسرائيل في ضربة شاملة غير محدودة لعدة أسباب. إنها ستطلق صراعات إقليمية لا تعرف تداعياتها ولها خسائرها الباهظة، وإنها ستكون قد أعلنت حربا موازية وخسائرها فادحة على بايدن المناصر لعودة اتفاقية 2015، وإنها بافتراض قدرتها على تحمل الخسائر المؤكدة لا تضمن قدرا من النجاح يعوض خسائرها، وإن نتانياهو على وشك خوض انتخابات رابعة ولن يغامر بحرب قد يخسر فيها ما تبقى له من رأسمال سياسي.