رغم ذاكرة الشتات وأرق الصحراء -
بقـــــــلم : أحمد الفلاحي -
«كانت رحلتي العمانية كشفا لكبرياء الصخر وعنفوان البحر وتجليات الشعر إنها المرة الأولى التي أقابلك فيها فاكتشف كيف يتقابل الأصل والصورة في الشاعر الحقيقي وكيف يكون الكلام جميلا حين يسقط عنه أقنعة التشخيص والتلفيق والتثاقف الكاذب» هكذا خاطب الشاعر الكبير نزار قباني شاعرنا مقرا له بقوة الإبداع ومشيدا بأدبه وقدراته الرفيعة.
«نورسة الجنون» كان بداية كتب شاعرنا وقد صدر في دمشق سنة 1980 تلاه «الجبل الأخضر» بعد فترة غير طويلة ولكن الشاعر يذكر أن «الجبل الأخضر» هو الأسبق كتابة من «نورسة الجنون» الذي نشر أولا . وبعد هذين الكتابين توالت العناوين متواصلة لم تتوقف، عنوان يلحقه عنوان لم يكد يمضي عام إلا ويطل آخر جديد «أجراس القطيعة» «رأس المسافر» «مدية واحدة لا تكفي لذبح عصفور» «رجل من الربع الخالي» «يد في آخر العالم» «جبال» «الصيد في الظلام» « الجندي الذي رأى الطائر في نومه» «مقبرة السلالة» «قوس قزح الصحراء» «قطارات بولاق الدكرور» «ذاكرة الشتات» «أرق الصحراء» «حوار الأمكنة والوجوه» «منازل الخطوة الأولى» «حياة على عجل» «شجرة الفرصاد» «صالة استقبال الضواري» «رسائل في الشوق والفراغ» وربما كتب أخرى نسيتها وغابت عني.. عناوين ملفتة موحية تتابعت على مدى ست وثلاثين سنة متضمنة الكثير من الإبداع الراقي المتميز لغة وجملة وصورة وهي عناوين تتنافس موضوعاتها ولغتها على اجتذاب قارئها والسيطرة عليه فلا يجد انفكاكاً من سحرها إن فتح أحدها امسكته الصفحات بقوة ولم تطلقه حتى يفرغ منها وذلك هو سر الكتابة البليغة الذي لا يستطيع بلوغه إلا النبغاء الأفذاذ من الناس موهبة فوارة تنطلق منسكبة تبعث الدهشة في من يقترب منها فياضة غزيرة الدفق والانصباب لا يدفعها دافع كأنها الوادي في غزارة جريانه يتحدر لإرواء الأرض وإخصابها وإظهار نباتاتها.
صاحب تلك العناوين البراقة اللامعة هو القلم المتميز السيال الأديب الشاعر والناثر سيف الرحبي الذي يفاخر الأدب العماني المعاصر بتجربته الثرية ودوره المرموق. وفي أي مدينة عربية ينزلها العماني يجد اسم سيف الرحبي سابقا له يرحب به مقرونا باسم عمان من القاهرة إلى الرباط ومن دمشق إلى صنعاء ومن بيروت إلى تونس وكثير من الأكاديميين والمثقفين العرب لا يعرفون الكثير من كتاب عمان سوى سيف الرحبي المنشورة كتبه في كبرى دور النشر العربية والمترجم بعضها إلى لغات أجنبية ومن الدلالات على أهميته وشهرته مقابلاته الكثيرة في الصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزيون التي يصعب حصرها واستقصاؤها وقد تم جمع بعضها في كتاب مستقل صدر عن «دار الغشام» سنة 2015م تحت عنوان «حوارات في الحياة والأدب والمكان» وفي تلك الحوارات إضافات مهمة عن إبداعات الكاتب ومؤلفاته وسيرة حياته ومن بين كتب سيف الرحبي كتابان يتحدثان عن سيرته الذاتية هما «منازل الخطوة الأولى» و«شجرة الفرصاد» بهما قصص وحكايات من طفولته ونشأته وتنقلاته وتجاربه وفي الكتابين تفاصيل دقيقة من مشاهد بلدته «سرور» وأناسها ومعالمها وحراك الحياة بها وإشارات لتواريخها ولأنساب قبيلة الرحبيين التي تسكنها وأفرعها وبعض أعلامها ومواطنها الأخرى في عمان بل وحتى خارجها في اليمن وسوريا مع التقاطات من حياة الشاعر ذاته إبان طفولته ومراهقته وشبابه الأول المختلطة بتلك المشاهد وما تخللها من صور ومفارقات تؤشر لحالة المكان العماني وأهله في ذلك الزمن والحق أن ملامح حياة الشاعر وتحولاتها غير مقتصرة على هذه الكتابين بل هي متناثرة في جميع كتاباته لا يكاد كتاب من كتبه يخلو منها بطريقة أو أخرى وفي كتابه «صالة استقبال الضواري» وقفات وصور من السفارة الأوروبية والبريطانية بشكل خاص.
أما «سرور» القرية الجميلة الوادعة في «وادي سمائل» التي نستطيع القول أن لها من اسمها نصيبا فهي مكان ولادة شاعرنا ومقر منازل أسرته وقومه وفيها نشأته وصباه وقد ظلت باستمرار مضيئة في دواخل ذاكرته متجلية في سطور إبداعاته يروي أحداثها ويسرد ذكريات أيامه بها واصفا جبالها ووديانها وأفلاجها وطرقها وبساتين نخيلها وأشجارها محددا أسماء شخصياتها وأعلامها ومساجدها وحاراتها غير غافل عن معلم من معالمها أو شأن من شؤونها . وبعد «سرور» تجيئ مسقط ومطرح حيث انبثاق الشباب وبزوغ إطلالته إضافة إلى مناطق عديدة من الوطن العماني في شرقة وغربه وشماله وجنوبه جلتها نصوصه وأبانت صورها كتاباته.
وكتابات سيف الرحبي في غالبيتها تذهب بقارئها إلى عوالم المدن البعيدة والأقطار القصية في الجزر النائية أو وسط المدن الواسعة المزدحمة ولكن أصداء عمان فيها تبدو ساطعة تبرق بين سطورها حديث عن باريس أو هولندا أو جزر تايلند أو ريف بريطانيا تبرز عمان في كلماته وتلوح بين ثناياه ولا تغيب عن فضاءاته مشاركة في أطياف النقاش وفي حوار الأصدقاء معهم أو عنهم كما لو كانت رفيق الروح الملازم الملتحم ولا مجال للافتراق عنه عمان حاضرة دوما لديه في جبالها وبحرها وحصونها ونخيلها وأفلاجها وصحرائها ومناظر أهلها في تجمعاتهم وملتقياتهم وعاداتهم وممارساتهم للعبادة والزرع والحصاد والفنون والتنقل وكذلك أنواع التمور والفواكه والاسماك وأحوال التعليم والأدب واخبار الحروب والأحداث وخلفيات التاريخ مشهد شامل يختزل عمان في شتى جوانبها لا تغيب أي جزئية منه يسوقه في أسلوب شيق مدهش وسلس .
وسيف الرحبي يصنف ضمن كتاب الحداثة ومنظريها ولكنه في الوقت نفسه غير منقطع أبدا عن التراث العربي وما فيه من شعر ونثر ومواريث متعددة يراها قارئه واضحة بينة في نصوصه يستشهد بأمثالها وحكمها وأبيات قصائدها إن كان المتنبي أو المعري أو البحتري أو الشعراء المتقدمون عليهم أو الآتون بعدهم كما يحتفي بالجواهري والشابي وناجي ونظرائهم من رموز عصره ومن عمان أبو مسلم وعبدالله الخليلي وخلفان بن جميل وسواهم هو في الحداثة ومعها ولكن دون انسلاخ عن التراث أو صد وانحراف عنه.
وهذا الشاعر والكاتب العماني الكبير هو أيضا احد رموز ما يطلق عليه الآن قصيدة النثر في الأدب العربي التي ذاعت وشاع أمرها ولقيت رواجا خلال السبعين سنة الأخيرة ومن خلاله وبعض رفاقه كان دخولها إلى عمان وهي لون من ألوان الكتابة الحديثة منها الرفيع الجيد المستوى ومنها ما هو دون ذلك حالها حال القصيدة العمودية غير أن هذه عمودها الأساسي الذي ترتكز عليه هو الصورة المحكمة واللغة الرصينة والجملة المنسجمة ولفظة كاتبنا وجملته قوية البناء والاتساق وتصويره راق كامل البهاء والدقة بحيث تتمكن صياغته من القارئ وتجتذبه بتلقائيتها وعذوبتها وحسن سبكها ودلالاتها.
وقد كانت بدايات شاعرنا في مقتبل شبابه في القصيدة الكلاسيكية القديمة القائمة على الإيقاع والقافية وفق الطريقة التقليدية السائدة لدى أساتذته وفي محيطه وبيئته يومها ثم تحـــــــول بعد خروجه من عمان واطلاعه على الآداب الحديثة الى الكتابة النثرية متأثرا بأعلامها البارزين في مصر ولبنان وسوريا من أمثال الماغوط وأنسي الحاج ويوسف الخال وأدونيس وأصبح من مشاهير كتابها المعدودين ومشت على خطاه فيما بعد أجيال تلته قلدته وانتهجت سبيله واقتفت مسلكه متبعة مدرسته وان بنوع ربما اختلف كثيرا أو قليلا حسب القدرات والإمكانات لهذه الفتاة أو ذاك الشاب.
وحين قررت وزارة الإعلام إنشاء مجلة «نزوى» عام 1995 اختارته ليكون رئيس تحريرها فأصابت وأحسنت وبزغت المجلة على يديه عملاقة منذ ولادتها ترتقي وتتطور عددا بعد عدد حتى وصلت إلى المستوى العالي الذي بلغته الآن شاهدة له بالكفاءة والدقة وسعة الرؤية وغدت في مقدمة المجلات العربية الأدبية والبحثية المحتفى بها في أوساط الاكاديميين والكتاب والأدباء وأهل الفكر وكان وجوده فيها وإشرافه عليها السبب الرئيسي لتوافد أقلام كبار الكتاب العرب للنشر في صفحاتها ومدها بالجديد من دراساتهم وبحوثهم وإبداعاتهم وما كان هذا ليتم لو لم يكن اسمه يتصدر إدارتها وهذه المجلة هي واحدة من مشاريعه الرائدة المميزة وقد أحرزت النجاح الكبير وحظيت بالتقدير لدى النخب الرفيعة في مشرق الوطن العربي ومغربه وأصبحت من بين العناوين الرئيسية لعمان حينما يمر ذكرها في ندوة أو ملتقى يحضر فورا اسم عمان كمرادف لها مثلها في ذلك مثل رئيس تحريرها الذي ما إن يذكر إلا وتذكر عمان معه.
ومن بين كتب الأستاذ سيف الرحبي الكثيرة التي سلفت الإشارة إلى بعضها في بدايات هذه السطور كتاب له إسمه «حياة على عجل» به ومضات مركزة امتلأت بالرؤى المتأملة ومحاولة استكناه الحكمة من سيرورة الحياة في هدوئها وسكونها أو في صخبها واضطرابها وتبدل حالاتها. وفي كتابه «نسور لقمان الحكيم» يأتي نصه الباذخ الطويل عن الجبل الأخضر وقممه ومغاراته وصدوع أوديته ومناظر بساتينه وأنواع فاكهته وطقسه الشديد البرودة في الشتاء والجميل في الصيف مع شذرات من تاريخ ذلك الجبل البعيد والقريب.
وفي كتابه «نشيد الأعمى» حوار ممتد أراد منه استبطان ملتبسات الحياة وتناقضاتها واضطراب تموجاتها وحركة متغيراتها ورصد حيرة الإنسان تجاه دورانها وركضه اللاهث في معابر سبلها.
وفي كل كتاب من كتبه ابداع قوي يقود إلى معان عميقة وبصيرة واعية ملهمة.
وتجربة سيف الرحبي الثرية المتدفقة بأصالتها وتشكلاتها لفتت أنظار النقاد والكتاب فذهبوا يتحسسونها ويفحصون مضامينها ومكوناتها متأملين ميزاتها وخصائصها فجرت أقلامهم بالكثير عنها وعن فرادتها وكان من بين هؤلاء د. محمد لطفي اليوسفي ود. حسام الخطيب والشاعر والناقد فاروق شوشة والشاعر والكاتب يوسف الخال والناقد د. سعد البازعي والناقد د. جبرا إبراهيم جبرا والشاعر محمد علي شمس الدين والناقد صبحي الحديدي والناقد شوقي بزيع وغيرهم تضافرت رؤيتهم على عمق تلك التجربة وقوة تشكلها يقول الشاعر فاروق شوشة «وفي هذا الإطار الحميم من الوعي والتفهم والتوقع الدائم ولدت شاعرية سيف الرحبي منذ بزوغها إن هذا الشاعر الشديد العصرية حفيد السندباد يحمل قلقه وتمرده وأشواقه وعذاباته التي لا تنتهي لأنها عذابات المعرفة والتواصل والحب والحرية والعدل المفتقد في كل مكان من العالم يكتب سيف الرحبي قصيدة النثر ساكبا فيها وهج شاعريته وحصيلة خبراته الوجودية واللغوية».
ويقول يوسف الخال «حداثة سيف الرحبي ليست حداثة افتعال إنها انفجار الوعي والحساسية الجديدة في تعبيرهما عن شقاء الانسان في غربته ومنفاه نقرأ ذلك في لغة شعرية متميزة وسط فوضى الهويات الشعرية السائدة» ويقول الناقد صبحي الحديدي «شعر سيف الرحبي كان وما زال جزءا تكوينيا لا يتجزأ من مشهد التجديد الشعري العربي».
ويقول الدكتور حسام الخطيب «حصيلة الشاعر العماني سيف الرحبي تجربة فريدة في باب الرؤية الشعرية تسمح للمرء بأن يصنفه في خانة شعراء الرؤى المتماسكة على المستوى العربي وربما العالمي إلى حد ما» ويقول الشاعر شوقي بزيع «شعر سيف الرحبي لا يحول شكله إلى عائق ولا يذكر إلا بجوهر الكتابة إن ما فيه من توتر ونبض واختلاج حار لا يدع لقارئه فرصة السؤال عن الإيقاعات الخارجية والأوزان المألوفة بل يدفعه دفعا للتخلي عن المسابقات وللطيران في فضاء المعنى وشعابه الكثيرة» ويقول الكاتب عبده وازن «لا ينهك سيف الرحبي نفسه كشاعر في البحث عن لغته وشعريته صورا مجازات ولعبة تعبيرية فالقصيدة تسلس له مسلمة إياه أسرارها متدفقة كسيل لغوي يجرف معه ما ليس شعريا تماما من مفردات وتراكيب ومن هموم يومية ومنثورات غالبا ما يطفح بها نثر الحياة العادية» هذه نماذج مقتطعة مما كتبه كبار الكتاب عن شاعرنا وهناك كتابات أخرى كثيرة لا يتسع الوقت لتتبعها كلها تتضمن الإشادة بمنجزه والثناء عليه من أعلام الكتابة والنقد العرب من أمثال جبرا إبراهيم جبرا وجابر عصفور ومحمد بنيس وعبد العزيز المقالح وغيرهم.
كاتبنا الكبير عاش مغتربا لفترة ليست قصيرة متنقلا بين العديد من الأمكنة فقد خرج من عمان إلى القاهرة في زهو شبابه عام 1971م فأكسبته القاهرة التغيير في ذائقته ورؤيته للأشياء وأدخلته عوالم جديدة لم يكن يعرفها وفرضت عليه عشقها والتعلق بها ومنها انطلق إلى دمشق وبيروت والجزائر ليقتبس من كل منها مستجدات أضافت لأفكاره ورؤاه قبل ان تأخذه الحياة نحو معظم كبريات المدن العالمية غير العربية كمثل لندن وباريس ووارسو ولاهاي وغيرها ليغوص في عوالمها وينغمس في تياراتها يأخذ ويدع تتلقفه دروبها وتتقاذفه مسالكها مترحلا بين المطارات ومحطات القطارات لا يستقر في موضع حتى يغادره إلى غيره «موكل بفضاء الله يذرعه» شأن وصف القائل القديم إلى أن حانت نهاية هذا التطواف المتعب بالعودة إلى وطنه لينعم بالاستقرار فيه وليلتئم شمله بأهله الذين اشتاق إليهم وطال انتظارهم لمقدمه وليجلس على تراب الأرض التي حملها لزمن بين جوانحه أينما تشابكت به الطرق فقد احس في النهاية أن لا مكان في العالم يتسع له ويطمئن إليه غير عمان «سرعان ما ألح علي سؤال ماذا أفعل وحيدا في الشتاءات الكاسرة في هذا القفر الأخضر البعيد؟ ماذا أعمل في هذا المكان الذي ينفح نأيا ووحدة».
وفي النهاية وعلى توالي السنين تجلى أسلوب سيف الرحبي المتفرد في الكتابة أخرجته الموهبة القوية الفائرة من أعماق الذات وصقلته المكتسبات من خارجها عبر المعايشة والتجارب والمشاهدات والقراءات المنوعة. أسلوب شكل علامة بصمة خاصة له عرفها الناس واعتادوها ملتصقة به غير منتمية لسواه.
كان لقائي بالصديق العزيز الأستاذ سيف الرحبي أول مــــــرة مصادفة في أوائل سنة 1971 في مقر سكن الطلاب بمسقط مع أحد رفاقه يومئذ حيث كانوا يدرسون في جامع الخور والمرة الثانية كانت في منزل والده بمطرح بعد اللقاء الأول بأسابيع ثم توالت اللقاءات بيننا وكان وقتها يهيئ نفسه للذهاب إلى القاهرة مع مجموعة من زملائه في أول بعثة طلابية ترسل للدراسة بالخارج وفي العام التالي عاد ليعمل معنا بالإذاعة مؤقتا خلال العطلة الصيفية، ومنذ ذاك سافر لتجره الغربة في انفلاتاتها على مدى سنوات طويلة تبادلنا فيها بعض الرسائل وقبل ذلك أحضر لي شقيقه سليمان العائد من زيارته له في دمشق سنة 1982كتابه الأول «نورسة الجنون» ثم جمعت بيننا الأيام بعد أعوام كثيرة في بدايات تسعينات القرن العشرين الماضي في القاهرة التي يحبها كثيرا وأنا مثله كذلك حيث كانت لـــــه آنذاك زيارات متكررة لها أثناء عمله في سفارتنا بهولندا وكنت وقتها في السفارة العمانية بمصر لتتواصل الصلة واللقاءات في مسقط بعد عودته للاستقرار الدائم.