ديفيد بروكس نيويورك تايمز ترجمة: قاسم مكي - أشعر بالأسى لجوزيف ستالين (زعيم سوفييتي سابق 18 ديسمبر 1887 - 5 مارس 1953- المترجم). لقد حلم بإيجاد مجتمع «شمولي» يمكن فيه التنبؤ بسلوك كل فرد والسيطرة عليه. لكنه ولد قبل الأوان بحوالي قرن أو نحو ذلك. وعاش قبل حلول التقنية التي كان من شأنها أن تجعل المستبد «مستبدا» بسهولة بالغة. أولا: كان سيحظى بمعدات مراقبة أفضل. فهذه الأيام معظم التفاعلات بين الناس تحدث عبر الحاسوب. لذلك سيتوافر له دائما سجل إلكتروني بما جرى. كما تعني تقنية «إنترنت الأشياء» أن ثلاجاتنا وساعاتنا وأكوابنا وهواتفنا وكاميراتنا الأمنية ستسجل تقريبا أي حركة نقوم بها. في عام 2017 صنعت شركة ليفاي ستراوس سترة تفاعلية «من قماش الدينم» بها مجسات ترصد وتنقل كل حركة حتى لو كانت في بساطة رفع إصبع. وعما قريب سيكون بمستطاع أجهزة الادعاء (النيابة العامة) تقديم طلب استدعاء قضائي لسياراتنا ذاتية القيادة واستخراج سجل عن كل مكان أخذتنا إليه. كل هذا ونحن لم نذكر بعد تقنية التعرف على الوجوه التي يستخدمها الصينيون لتعقب مواطنيهم. ففي بيجينج يتم استخدام أجهزة التعرف على الوجوه في البنايات السكنية لمنع المستأجرين من إيجار شققهم بالباطن. كما قامت شركة «ييتو»الصينية بتركيب نظام يحتفظ بسجل لتحركات الموظفين أثناء ذهابهم إلى حجرة الاستراحة. يسجل النظام حركة الموظفين بخطوط متقطعة زرقاء على شاشة مراقبة. إنه نظام يمكن أن يكون مفيدًا للمستبد الحديث. ثانيا: بفضل الذكاء الاصطناعي سيكون لدى العم جو (جوزيف ستالين) أدوات أفضل كثيرا للتنبؤ بالكيفية التي يوشك أن يتصرف بها رعاياه. وكما ذكرت شوشانا زوبوف، أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة هارفارد، في كتابها (عصر رأسمالية المراقبة) أنت عندما تستخدم (محرك البحث) جوجل لست زبونا لجوجل، بل مادة خام له. فجوجل يسجل أي شيء تفعله. ثم يقوم بإعداد نماذج للمعلنين الذين هم زبائنه الفعليون. بفضل هذا النموذج التجاري أنفقت بعض أفضل العقول في العالم بلايين الدولارات لتحسين الأدوات التي تتنبأ بالاستهلاك الشخصي. ويمكن لهذه التقنية أيضا أن تفيد أي «ستالين» حديث كامل الدسم. ثالثا: بفضل تقنية البيانات الكبيرة يمكن لهذا «الستالين» الحديث إقامة نظام ائتمان اجتماعي ضخم يمنح درجات للمواطنين ويصنفهم حسب جدارتهم الائتمانية مثلما يفعل النظام الذي يستخدمه الصينيون في الوقت الحاضر. فالحكومات والبنوك ومواقع المواعدة على الإنترنت تجمع بيانات عن كل شخص من شاكلة هل تسدد ديونك؟ وكم ساعة تنفقها في تشغيل ألعاب الفيديو؟ وهل تمشي في الطريق بطريقة مخالفة للقانون ودون مراعاة لقواعد المرور؟ وإذا كانت درجاتك بالغة الانخفاض يمكن أن توضع في قائمة سوداء. وقد لا تستطيع زيارة متحف أو أن تسافر بطائرة أو تنزل في فندق أو ترتاد مركزا تجاريا أو تتخرج من المدرسة العليا. وقد ترفض الجامعة المفضلة لابنتك قبولها. في أيام ستالين كان الضبط الاجتماعي بالغ الصرامة. فقد كان يلزمك (بصفتك مستبدا) تدبير محاكمة صورية ومكلفة أو إرسال شخص ما إلى القولاق (معسكرات الاعتقال والسخرة السوفييتية في عهد ستالين- المترجم) أو ترتيب عملية تطهير. أما الآن فمن الممكن أن يكون طغيانك بسيطا وحاذقا وكلي الحضور. فهو مثل نظرية النوافذ المحطمة. ومعاقبتك على الانحرافات البسيطة ستحول تماما دون وقوع الانحرافات الكبيرة. (تعني نظرية النوافذ المحطمة أنه إذا حطم أحدهم زجاج نافذة ولم يعاقب سيشجع الإفلات من العقاب آخرين على تحطيم نوافذ أخرى وسيتحول مشهد النوافذ المحطمة إلى شيء عادي- المترجم). رابعا: لا يلزمك أن تتعب نفسك باختلاق ثورة. فأنت فقط تغري الشعب على قبول مساومة فاوستية (شبيهة بصفقة فاوست مع الشيطان والذي باع له روحه مقابل متاع الحياة الدنيا- المترجم). فأنت تشغلهم لمدة ثمانية أيام بأفلام فيديو عن الحيوانات وعن الأفكار والصور والأفلام السريعة الانتشار عبر الإنترنت وسيتخلون لك عن خصوصيتهم ويتيحون لك التسلل إلى عقولهم. ومع اتساع نطاق الحياة الافتراضية (على الإنترنت) تتدهور الحياة في الحي السكني وتتبدد الثقة الاجتماعية. ومع تفكك النسيج الاجتماعي وتصاعد العزلة الاجتماعية وتراكم التدليس والخداع تقول للشعب إن على الدولة التدخل لاستعادة الثقة. وبسلسلة من الخطوات الصغيرة المعززة تحصل على الإذن بالتنظيم الكامل لحياتهم على الإنترنت. هذا أيضا ما يحدث بالضرورة في الصين. وكما فهم جورج أورويل وألدوس هكسلي، إذا أردت أن تكون شموليا جيدا لا يكفي أن تسيطر على السلوك. لكي تحصل على السلطة الكاملة سيلزمك أن تكون قادرا على السيطرة على عقول الناس أيضا. وبواسطة تقنية المعلومات الحديثة يمكن للدولة تشكيل «بركة» المعلومات الحميمة التي نسبح فيها. لا أريد أن أتظاهر بأن كل شيء سيكون سهلا لستالين القرن الحادي والعشرين. نعم تجعل التقنية السيطرة على الناس أكثر يسرا. لكنها أيضا توجد تركيبة ذهنية تزيد من غضب الناس على السيطرة عليهم. إنهم يشعرون، حين تكون في أيديهم هواتف ذكية، بوجوب أن يكون لديهم صوت وأن يبثوا ما في نفوسهم وأن تكون لديهم كرامة. وحين يكتشفون أنهم وقعوا في حبائل شبكة معلومات تسيطر عليهم في حذق سيكون لديهم رد فعل على ذلك. وكذلك هو الحال أيضا حين يدركون أن شبكات المعلومات البديلة لا يمكنها حقا إيجاد الحميمية والمجتمع الذي يتطلعون إليه ويتوقون له. تنطلق الحركات الغاضبة وأعمال الشغب تلقائيا. وما نحصل عليه هو نظام للهيمنة النخبوية تعترضه بين الفينة والأخرى أعمال شغب شعبوية. فتاريخ البشر يتشكل من سلسلة من الصراعات من أجل السلطة. وبعد كل أجيال قليلة تمنحنا الأقدار، من أجل المتعة فقط، مجموعة جديدة من المعدات التي تغير لعبة (السلطة) جذريا. لقد اعتقدنا أن الأدوات الجديدة ستجعل السلطة ديمقراطية. لكن يبدو أنها جعلتها مركزية. إنه ربيع الاستبداد. • الكاتب مؤلف كتاب» الطريق إلى الشخصية»