حمود بن عامر الصوافي - منزلة العلماء الربانيين تبقى في نفوس العامة والخاصة مقدرة ومعتبرة بل قد تفوق أحيانا كثيرة منزلة الملوك والأمراء؛ لأنهم مصدر إشعاع للبشرية وتنوير للإنسانية لذلك تجد قصصا كثيرا تحكي تفضيل هؤلاء العظماء وتخليد ذكرهم وكيف لا يكون ذلك وعطاؤهم للبشرية كبير وثمارهم عظيمة يستقي منها العامة والخاصة ويجني منها الكبير والصغير ويستفيد منها المرأة والرجل، فهم وفد الله تعالى والقيمون على الدين والقائمون بالقسط والموضحون طريق الحق قال تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» لذلك استحقوا هذا التبجيل والاحترام والتوقير من إخلاصهم لله تعالى وسيرهم على منهاج الله ورسوله فأذعن لهم الخلق وقربوهم وأثنى عليهم الشعراء ومدحوهم دون أن ينتظروا منهم مالا أو منصبا أو جاها. وها هم الشعراء يقدمون لنا واحدا من أولئك الكبار من أولاد الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إنه زين العابدين ذرية بعضها من بعض يطوف بالبيت الحرام ويراه الناس ويتجافونه ويبتعدون عنه ويتركون له حرية الطواف وتقبيل الحجر الأسود ليس بغضا له أو نفورا منه أو كرها لمقامه بل توقيرا له واحتراما وتقديما لاستلام الحجر الأسود! يا ترى من أين جاء هذا الحب؟ وكيف حصل له هذا الإخلاص؟ ولماذا لم يفسحوا المجال للأمير هشام بن عبدالملك الأموي؟ فالأخير قد يستفيدون منه منصبا أو مالا أو جاها أكثر من الأول إلا أن الأول أحبوه لمحبته لله تعالى والتزامه بمنهج الله تعالى وعلمه وورعه وقربه من نبع النبوة وحسبه ونسبه الفاضل فهو يفوق منزلة الأمراء. آه يا ناس ما أكرمكم قد سرى هذا الحب لأهل مكة ففسحوا الطريق طواعية لهذا الهمام الهزبر لدرجة أن هذا الحب والتوقير أثار فضول جند الشام فأخذوا يسألون أميرهم من هذا الرجل الذي تندفع الناس عنه وتبعد طواعية دون أمر وإبعاد؟ من هذا الرجل المعجزة الذي نراه أمامنا يحترمه الحجيج ويفسحون له المجال ؟ قال الأمير: لا أعرف وهو كاذب في مقولته فلم يرد أن يبتعد عنه جنده أو يمجدوا شخصا غيره وكان الفرزدق حاضرا فجالت قريحته وفاضت حبا أيضا لهذا الرجل قائلا دون مبالاة بما يمكن أن يلقاه أو يجده من أميره: هَذا الّذي تَعرِفُ البَطْحاءُ وَطْأتَهُ وَالبَيْتُ يعْرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ هذا ابنُ خَيرِ عِبادِ الله كُلّهِم هذا التّقيّ النّقيّ الطّاهِرُ العَلَمُ هذا ابنُ فاطمَةٍ، إنْ كُنْتَ جاهِلَهُ بِجَدّهِ أنْبِيَاءُ الله قَدْ خُتِمُوا وَلَيْسَ قَوْلُكَ: مَن هذا؟ بضَائرِه العُرْبُ تَعرِفُ من أنكَرْتَ وَالعَجمُ كِلْتا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفعُهُمَا يُسْتَوْكَفانِ، وَلا يَعرُوهُما عَدَمُ سَهْلُ الخَلِيقَةِ، لا تُخشى بَوَادِرُهُ يَزِينُهُ اثنانِ: حُسنُ الخَلقِ وَالشّيمُ حَمّالُ أثقالِ أقوَامٍ، إذا افتُدِحُوا حُلوُ الشّمائلِ، تَحلُو عندَهُ نَعَمُ ما قال: لا قطُّ، إلاّ في تَشَهُّدِهِ لَوْلا التّشَهّدُ كانَتْ لاؤُهُ نَعَمُ عَمَّ البَرِيّةَ بالإحسانِ، فانْقَشَعَتْ عَنْها الغَياهِبُ والإمْلاقُ والعَدَمُ إذا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قال قائِلُها إلى مَكَارِمِ هذا يَنْتَهِي الكَرَمُ يُغْضِي حَياءً، وَيُغضَى من مَهابَتِه فَمَا يُكَلَّمُ إلاّ حِينَ يَبْتَسِمُ فأمر هشام بسجن الفرزدق الذي لم يتذمر من السجن ولم يندم على مديحه لحفيد المصطفى، فما كان من الكريم ابن الكريم إلا أن أرسل له مالا جزيلا وعطاء جميلا لكلماته العذبة ودفاعه الجميل فرده الفرزدق ولم يكتف الكريم بذلك بل رجع المبلغ وقال: إنا لقوم لا نأخذ مالا وهبناه من أحببنا فقبل عندئذ الفرزدق المال لأنه يعلم أن حفيد النبي صلى الله عليه وسلم يرى رد الصدقة كرجع القيء.