روبرت سامويلسون- واشنطن بوست ترجمة قاسم مكي - يحكم التاريخ على الحرب التجارية المشتعلة الآن بين الولايات المتحدة والصين بأنها لن تفضي إلى خير ومن الممكن جدا أن تتجاوز نتائجها موضوع التجارة وتهدد الاستقرار الجيوسياسي والاقتصادي للعالم. لا يمكن لأي أحد أن يعلم على وجه اليقين كيف ستسير هذه الحرب. لكن يجب ألا نتظاهر بعدم خطورة ترك هذا الصراع يستعر. فتداعياته تتراوح من التفكك التدريجي للنظام التجاري الدولي الحالي إلى تشكيل كتل تجارية واقتصادية وفي أسوأ الأحوال إلى الحرب نفسها. التماثلات التاريخية للوضع الراهن مدعاة إلى الانتباه. في أثناء عقد التسعينات كان الافتراض الواسع الانتشار وسط الاقتصاديين وقادة الأعمال أن «العولمة» دائمة ومفيدة في معظمها. فالتدفقات العالمية للسلع والخدمات والمال (رأس المال) والأفكار والتقنية عززت مستويات المعيشة. واعتبرت العولمة على نطاق واسع أنها عملية لا يمكن التراجع عنها أو «طريق باتجاه واحد للمستقبل»، حسب عبارة هارولد جيمس المؤرخ بجامعة برنستون. لكنها ليست كذلك كما حاجج جيمس في كتابه النافذ البصيرة «نهاية العولمة: دروس من الركود العظيم» والذي صدر عام 2001 في ذروة الافتتان بالعولمة. إذا ألقينا نظرة استرجاعية إلى الوراء (نستحضر بها الماضي) سنجد من السهل إدراك لماذا أن عددا كبيرا من المراقبين (بمن فيهم أنا) قبلوا دون تفحص حكاية العولمة. لقد كان معظمها صحيحا ولا يزال كذلك. ففي النصف الأخير من القرن التاسع عشر قربت التقنيات الجديدة كالتلغراف والسفن البخارية والسكك الحديدية البلدان إلى بعضها إلى البعض، تماما كما تفعل اليوم التقنيات الجديدة كالنقل بالحاويات والطائرات النفاثة والألياف البصرية والإنترنت. وكانت النتيجة تحركات واسعة النطاق للبشر والسلع ورأس المال (الأموال) عبر الحدود. لقد تم إنزال أول «كيبل» عابر للمحيط الأطلسي في عام 1866. وبين 1871 و1915 غادر أوروبا حوالى 36 مليون شخص تقريبا اتجه معظمهم إلى العالم الجديد تاركين البلدان التي بها عدد فائض من العمال إلى بلدان بها عدد غير كاف منهم. وعلى الرغم من أن هذا الانتقال (الهجرة البشرية) كان فوضويا ويتسم بالقسوة في كثير من الأحيان إلا أنه في نهاية المطاف طرح ثمارا وفيرة بتحسين مستويات المعيشة. حافظت بريطانيا العظمى التي كانت القوة الاقتصادية الأولى يومها على النظام من خلال تبنيها معيار الذهب (الذي أدى إلى تثبيت الأسعار) والتجارة الحرة التي وسعت الأسواق). كتب جيمس: كانت التيارات القوية لرأس المال والتجارة والهجرة مرتبطة ببعضها البعض. ولولا تدفقات رأس المال (الأموال) لاستحال إنشاء البنيات الأساسية من طرق ومدن للمهاجرين الجدد. إن العولمة تفشل لعدم قدرة البشر والمؤسسات التي يوجدونها على التعامل بقدر كاف مع العواقب النفسية والمؤسسية للعالم المترابط. لقد عجل الركود العظيم من سقوط «عولمة» ما قبل الحرب العالمية الثانية. لكن بحسب رواية جيمس ربما أنها كانت ستنهار تحت ثقل الضغوط السياسية على أية حال. لقد كانت هنالك مطالبة صاخبة بالمزيد من الحمائية والمزيد من القيود على الهجرة والمزيد من الكوابح لتدفقات رأس المال الدولي. هل يبدو هذا شيئا مألوفا؟ في عام 1931 تخلت بريطانيا عن معيار الذهب وفي عام 1932 تخلصت من حرية التجارة باستحداث الرسوم الجمركية التفضيلية لبلدان الكومونولث في مؤتمر بأوتاوا. ((معيار الذهب هو النظام النقدي الذي ترتبط فيه قيمة عملة بلد ما ارتباطا مباشرا بسعر الذهب. أوقفت بريطانيا استخدامه عام 1931 ثم الولايات المتحدة عام 1933 وتخلت عن بقاياه عام 1971 - المترجم). لاحقا، سنجد أن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية نجحت في حث الحلفاء على تحرير التجارة. لكن ضعف دعم هذه المقاربة. وسواء عن طريق الصدفة أو بالتدبير المسبق ستقود الآن المفاوضات المثيرة للخلاف بين الولايات المتحدة والصين إلى إعادة تأطير النظام الاقتصادي العالمي في سياق قرن جديد تحكمه ظروف سياسية واقتصادية مختلفة. وحسب تقرير أعده شاد باون من معهد بيترسون، وهو مركز أبحاث غير حزبي، رفعت الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها دونالد ترامب على الواردات الصينية القادمة للولايات المتحدة متوسط الرسوم إلى 24% من 3% في بداية الحرب التجارية. وهي، كما جاء في التقرير، ستؤثر «على كل شيء تقريبا يشتريه الأمريكيون من الصين». على الرغم من أن الصين ردت على رسوم ترامب (برسوم مضادة) إلا أن أثرها على الصادرات الأمريكية قد يكون أقل لسببين حسب تقرير باون. أولهما أن الصين استثنت 31% من الصادرات الأمريكية من زيادة الرسوم الجمركية بما في ذلك الطائرات والمواد الصيدلانية (الدوائية) وشبه الموصلات. ثانيا، تبدو رسوم الصين أقل من رسوم الولايات المتحدة (باستثناء السيارات الأمريكية التي من المقرر أن يصل متوسط الرسوم المفروضة عليها إلى 42.6%. كذلك تأثرت بشدة صادرات فول الصويا). يمكن التخمين بأن النظام الاقتصادي العالمي الجديد سيمنح وزنا أكبر من سلفه للاعتبارات السياسية السافرة. فبلدان تشمل، كما هو واضح، الولايات والصين ستربط المنافع والعقوبات التجارية بأجندتها السياسية. هذا المسار خطر كما أدرك بلا ريب الأمريكيون والصينيون في الشهور الأخيرة. هنالك توتر قوي بين السياسة والاقتصاد. فالبلدان تريد (وكذلك من ينتخبون حكوماتها) استعادة سيادتها الاقتصادية. أي استعادة القدرة على التأثير على اقتصاداتها. فالتقنيات والأسواق تنقل بوتيرة مطردة هذه القدرة إلى منابر «فوق قومية» ليس من السهل التلاعب بها. (هذا الصراع واضح خصوصا في جدل «البريكست» في بريطانيا حول خروجها من الاتحاد الأوروبي). ببساطة شديدة، تريد كل من الصين والولايات المتحدة بسط سيادتهما على «الساحة» بدلا من تعلم كيفية اقتسام النفوذ.