خميس العدوي - مباحث كثيرة تطرقت إلى الأخلاق؛ فلسفياً ودينياً وصوفياً، وحتى بيولوجياً، وعمانويل كانط (ت:1804م) أبرز فيلسوف اعتنى بالأخلاق، بل جعل البرهان الأخلاقي دليلاً على وجود الله، بعد أن لم يثبت لديه بالدليل العقلي، حتى لُقّب بـ«لاهوتي الأخلاق»، والمقال لا يشرح فلسفة كانط الأخلاقية، وإنما يستفيد منها في رؤيته. إن حقيقة وجود الله لا يؤثر عليها إثبات وجوده أو نكرانه، فواجب الوجود قائم بذاته، بيد أنه يمكن ترتيب أدلة وجوده كالآتي: أقواها الدليل النفسي، فالدليل الأخلاقي، ثم الدليل العقلي، ثم الدليل الديني؛ ومع أهميته هو أضعفها، أضع هذه المقدمة الموجزة لألج منها إلى الحديث عن نظرية «وحدة الأخلاق الإلهية». «وحدة الأخلاق الإلهية» نَحْتٌ مني في قِبالة «وحدة الوجود» التي طرحها بعض الفلاسفة والمتصوفة في تصور العلاقة بين الله والوجود، وهي مع الجدل الذي جرى حولها من قِبَل الأديان؛ تعاني من قصور في الدليل، سواء أردنا منها الإقرار بوجود الله، أو تحقيق المعنى الصوفي من الارتقاء النفسي إلى الحضور الإلهي، لأن «الدمج» بين الواقع المادي المُدرَك والذات الإلهية المتعالية عن الإدراك هو ضرب من المستحيل العقلي، ولذلك.. فالقول بـ«وحدة الأخلاق الإلهية» هو محاولة لتجاوز هذا الإشكال الفلسفي العميق. إن كانت حقيقة التصوف هي تحقيق الاتصال بين الإنسان والله؛ بالترقي في المقامات لتحصل الاستجابة الإلهية عبر الأحوال، فإن التساؤل الذي يحضر: وكيف يحصل ذلك؟ كثيرٌ من المتألهة يذهبون إلى أن حصوله يقع بطريق غير مُدرَك؛ يجده الإنسان في نفسه، وذهب البعض إلى أنه إلهام معرفي، ورغم عدم نكران حصول العرفان بكونه تأييداً ربانياً أعبّر عنه باللطف الإلهي؛ كتوفيقه في سلوك طريق مؤدٍ إلى الخير، وليس بحصول المعرفة؛ التي هي إدراك علم الأشياء، فهذه موقعها الكسب العملي. إن ما أراه في تحقيق الاتصال بين الإنسان والله.. هو أنه يكون بالترقي في مقامات الأخلاق، ليحصل له حال الوصول إلى المبدأ الأعلى للأخلاق وهو الله، وحينها يكون قد تحققت للإنسان «وحدة الأخلاق الإلهية». نظرية «وحدة الأخلاق الإلهية».. تنطلق من كون الله مصدراً للأخلاق، فإذا اتصل الإنسان بالله؛ فإنما اتصاله به بالأخلاق القائمة في النفس التي هي نفخة من روح الله، وهي الدالة على وجوده، ولذلك قلتُ: إن الدليلين النفسي والأخلاقي هما أقوى الأدلة على إثبات وجود الله، داخل النفس الإنسانية، وليس خارجها، بمعنى أن الإنسان لا يستطيع أن يدفع عنه من واقع وجود نفسه وأخلاقه الإقرارَ بوجود الله، وإن لم يستطع أن يقيم على ذلك لطرف آخر الأدلةَ العقلية التي تقوم على التسليم بالمنهج بين الطرفين، أو الأدلةَ الدينية التي تقوم على الاتفاق في المعتقد. الله كامل؛ ولا يصدر عنه إلا الكمال، ولذلك.. يسعى الكون نحو الاكتمال عبر مراحل تطوره، وهذا لا تعارضه حقيقة فنائه، لأن الفناء هو أحد دوافع سير المخلوق نحو الكمال، ولولاه لما تحرك عن نقطة بدئه، أما الخالق فهو كامل بأصله. الخَلْق يترقى في وجوده طالباً الكمال، حيث ابتدأ من ذرات بسيطة حتى وصل إلى الإنسان العاقل، بسنن بثها الله في الكون لا تتبدل؛ هي ما أسميه بـ«الأخلاق الكونية»، والتي بالإضافة إلى كونها منبع الأخلاق الإنسانية هي تحكم الكون كله، بينما حصرها كانط في الإنسانية. فعلى الإنسان لكي يحقق «وحدة الأخلاق الإلهية» أن يترقى في مقامات الأخلاق مبتغياً الكمال فيها، متمثلاً بالصفات الإلهية التي لا نقص فيها. إن وجود مثال أعلى تنطلق منه الأخلاق الإنسانية لهو ضرورة وجودية للإنسان، فبدونه لا وجهة للحياة تسير إليها ولا معيار تحتكم إليه، وهذه عدمية مدقعة في السلبية، فحتى القائلون بالعدمية هم محتاجون لمثال أخلاقي يكون حاضراً في سلوكهم، على الأقل.. لكي يخفف عنهم جفاف الحياة الخانق. ما أقصده هنا بالأخلاق.. ليست الأعمال الصادرة عن الإنسان؛ فهذه ترجمة للأخلاق، وإنما الخُلُق ذاته كمعطى إلهي؛ مرتسّم في الوجود الإنساني، فالعدل خُلُق لابد منه ليس للإنسان وحده، وإنما للكون كله، فهو ميزان يحكم سيرورة النظام الكوني بأسره، وصيرورته، وفقدانه يؤدي إلى الاختلال والتداعي، ولا يقيم العدل في الوجود إلا العادل الكامل في عدالته، فهكذا.. نرى أن الخُلُق ليس حتمية كونية وضرورة بشرية فقط، وإنما أيضاً دليل يشير إلى الله بالوجود وتصريف الموجودات. ما أرمي إليه.. أن الخُلُق هو صفة بذاته، ولا يصدر إلا عن صفات الله الذاتية، وعندي.. بهذا المعنى؛ كل صفات الله ذاتية، بخلاف التقسيم الكلامي «نسبة لعلم الكلام»، فالله عادل قبل الخَلْق وبعده، وهو رحيم قبل الخَلْق وبعده، فهو العادل الكامل والرحيم الكامل، ولا يمكن أن يكون إلهاً للكون إلا لكونه متصفاً بذلك بذاته. والوجود قائم على الخُلُق، وقيامه عليه بأن كل سُنة فيه مستمدة من الله المبدأ الأعلى. وعلينا أن نلحظ أن تقسيم الخُلُق اعتباري، أوجدته ضرورة الحياة لدى البشر، أما الخُلُق حقيقةً فلا تقسيم له، فقولنا بالعدل هو قول بسائر الأخلاق الفاضلة، فالصدق «مثلاً» الذي مصدره الله؛ لا يمكن أن نفهمه خارج العدل وسائر منظومة الأخلاق، بل منظومة الأخلاق هي أكثر بكثير مما نتصورها في ممارستنا الاجتماعية. وإن كان علينا أن نلتزم بالصدق لكي نكون أخلاقيين؛ فإن الكون أيضاً متركب على الصدق، فسننه لا تكذب ولا تحابي، ولا تتغيّر مع وجود الإنسان وعدمه. بخلاف كثير من ضروب التصوف.. فإن «وحدة الأخلاق الإلهية» لا تقول بملازمة الزهد لذاته أو الصبر لذاته مثلاً، فالزهد أو الصبر.. لا يأتي منفصلاً عن سائر الأخلاق كالحب والحياة واللذة والعدل، وينبغي ألا يجانب الحب والرغبة بالحياة والعيش فيها بلذة، فهي كلها تأتي في حزمة واحدة، وإن شئنا «فرضاً» أن نضع خُلُقاً في الأعلى فهو العدل، الذي يضع الموازيين بالقسط في كل شيء. وإذا كنتُ أقول بأن الإنسان كائن أخلاقي، فلا أقول بأن الله -ذاتاً- أخلاقي، فذاته غير مُدرَكة، وإنما هو مصدر الأخلاق المنبثة في الوجود، وكذلك.. لا أقول بأن الوجود كائن أخلاقي، وإنما تحكمه «وحدة الأخلاق الإلهية»، وأقول بأن الإنسان كائن أخلاقي ما تمتع بأمرين؛ هما: الوعي والإرادة، فمن لا يملك الوعي هو ليس بكائن أخلاقي، وإن حَكَمَتْه الأخلاق الإلهية كسائر الوجود. فالإنسان.. لكي يكون أخلاقياً؛ فلابد أن يكون واعياً بالخُلُق ذاته، وواعياً كذلك بفعله، فمن يَقتل وهو فاقد الوعي لا يعتبر منتهكاً للخُلُق، ومن يُحسِن لغيره وهو غير عاقل فلا يحمل صفة الأخلاقي، وكذلك.. من لا يملك الإرادة لا يعتبر فعله أخلاقياً، فمن أُجبر على فعل خير؛ فحقيقةً.. لم يأتِ بفعل أخلاقي، ومن سرق وهو تحت سيف الإكراه لا يُعدّ بأنه انتهك خُلُقاً. إن على الإنسان أن يقضي حياته في الترقي الأخلاقي باستمرار، ويبذل جَهده في ذلك، حتى يصل إلى «وحدة الأخلاق الإلهية» الكلية التي لا تتجزأ، وبهذا يصل إلى الله، والقول بهذا الوصول لا يعني الأخذ بالشطحات الصوفية، ولا طقوسها الطُرُقية، وإنما هو وصول إلى الله عبر المنظومة الأخلاقية الشاملة التي تسيّر الوجود، والتي تجعلنا منسجمين معه، ومتصلين بخالقه. ومن نافلة القول.. تبيان أن الترقي نحو «وحدة الأخلاق الإلهية» لا علاقة له بتعذيب النفس وطقوس حرمانها، كما يراه بعض المتصوفة، بل الترقي هو ممارسة الحياة بكل أوجهها على مقتضى الأخلاق، فالاعتدال يعتبر من مقتضيات العدل وعموم الأخلاق، والحرمان والتعذيب هو مناقضة للأخلاق كما أن الكذب والخيانة والظلم نقض لها.