د. عبدالملك بن عبدالله الهنائي - تعتبر الخدمات المرتبطة بإنتاج الفنون والعلوم من الخدمات التي تجذب إليها الاستثمارات، وأبرز الأمثلة على ذلك الإيرادات الهائلة للأعمال السينمائية التي تنتجها هوليوود الأمريكية وبوليوود الهندية، وكذلك تزايد صادرات كوريا الجنوبية من الإنتاج السينمائي حتى صارت تشكل في الوقت الحاضر نسبة كبيرة من إجمالي صادراتها. متابعة لمقالي الذي نشرته جريدة عمان في عددها الصادر في 1 فبراير الجاري بعنوان «خدمات للتصدير»، الذي أشار إلى أن قطاع الخدمات يلعب دورا أساسيًا في اقتصادات كثير من الدول، يتحدث مقال اليوم عن الأهمية الثقافية والاقتصادية للاستثمار في خدمة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها. تعتبر الخدمات المرتبطة بإنتاج الفنون والعلوم من الخدمات التي تجذب إليها الاستثمارات، وأبرز الأمثلة على ذلك الإيرادات الهائلة للأعمال السينمائية التي تنتجها هوليوود الأمريكية وبوليوود الهندية، وكذلك تزايد صادرات كوريا الجنوبية من الإنتاج السينمائي حتى صارت تشكل في الوقت الحاضر نسبة كبيرة من إجمالي صادراتها. وفي السنوات الأخيرة أصبح استخدام التقانة الحديثة ملازما لتطوير كثير من الخدمات، لا سيما تلك المتعلقة بقطاع التعليم، الأمر الذي سهل من نشر ونقل العلوم والمعارف عن طريق بثها عبر شبكة الإنترنت. ومن أهم الخدمات التي يمكن الاستثمار فيها في السلطنة خدمة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها باستخدام تقانة التعليم عن بعد. يكتسب الاستثمار في هذه الخدمة أهميته من مصدرين، فهو من جهة ذو جدوى ثقافية وحضارية ويأتي وفاءً لدَين كبير وتركة عظيمة أورثنا إياها علماء اللغة العربية من العمانيين العظام، أمثال الخليل بن أحمد و ابن دريد الأزدي والمبرد وغيرهم، وهو من الجهة الأخرى له جدوى اقتصادية ومردود مالي. وباستثناء بعض المحاولات التي ظهرت مؤخرا، مثل المعجم العربي التاريخي الذي يجري العمل على إصداره في قطر، وكذلك شبيهه الآخر في الشارقة، لم تنل اللغة العربية منذ عقود طويلة مضت الاهتمام الذي يليق بها، ولم تستفد من التقدم الحاصل في التقانة، خاصة في طرق تدريسها سواء كلغة أمّ أو لغير الناطقين بها، لذلك تراجع دورها لا سيما في المجالات العلمية والتقنية وفي مجال الأعمال والتجارة، بل إن البعض صار يشكك في قدرتها على استيعاب المفردات الحديثة في مجال العلوم والتقانة، وذلك بالتأكيد ليس لقصور في اللغة العربية ذاتها ولكن لعجز أهلها عن مواصلة التقدم في كثير من المجالات، الأمر الذي ظهر في عدم القدرة على توسيع استعمال مفرداتها الزاخرة، وعدم القدرة على خلق مفردات جديدة لنقص فيما يمتلكونه من معارف وتقانة. فحين كانت الفجوة ليست شاسعة بين العرب والتقانة الحديثة استطاعوا إدخال كثير من المفردات والأدوات إليها، بدءا باستخدام النقط والتشكيل ثم بتعريب عدد من مفردات التقانة التي ظهرت، ومن ذلك تعريب كلمات مثل، الحافلة bus والبرقية telegraph والإذاعة radio، لكنهم عجزوا فيما بعد عن تعريب المفردات الأحدث مثل، التلفزيون والإلكترونيات والأنترنت، لأنهم تخلفوا عن ركب الحضارة الإنسانية وعن التطور التقني، وصاروا يستوردون الآلات والمعدات الحديثة ولا ينتجونها. وعلى خلاف اللغة العربية فإن اللغات الأخرى، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية نالت اهتماما واسعا، ليس من أهلها والناطقين بها فقط وإنما أيضا من غير الناطقين، الذين وجدوا أن الاستثمار في تعليمها تجارة رابحة ذات مردود مالي عالي. ومن أحد الأمثلة على ذلك ما قامت به رائدة الأعمال الفيتنامية فو فان، التي كانت تدرس اللغة الإنجليزية في أمريكا، حيث تعاونت مع شخص متخصص في مجال إعداد الخطب الرقمية digital speeches يدعي خافير انجويرا. ففي عام 2015 وضعت فان مع زميلها أنجويرا تطبيقا على الهواتف المحمولة لتدريس اللغة الانجليزية لغير الناطقين بها، وذلك بدعم من صندوق جوجل للذكاء الصناعي. وخلال أقل من خمس سنوات تمكن التطبيق من جلب استثمارات بلغت 15 مليون دولار من صناديق استثمارية عالمية معروفة، كما تمكن من التوسع خارج فيتنام، خاصة في اليابان و الهند، و قد بلغ عدد المشتركين فيه 13 مليون مشترك، وارتفعت إيراداته في عام 2020 بنسبة 300%. وعودة إلى ما أشرت إليه في مقالي الذي نشرته جريدة عمان بتاريخ 1 فبراير الجاري عن أهمية الاستفادة من المؤسسات القائمة من أجل إيجاد «خدمات للتصدير» تسهم في التنويع الاقتصادي، فإنه يمكن لبعض رواد الأعمال والمختصين في المجال الإلكتروني والخدمات الرقمية digital services التعاون مع «كلية السلطان قابوس لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها»، وكذلك مع صناديق رأس المال الجريء venture capital، وفي مقدمتها الصندوق العماني للاستثمار في التكنولوجيا otf، لوضع تطبيق على الهواتف المحمولة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، بحيث يبدأ استخدام هذا التطبيق بالسوق المحلي ثم ينطلق إلى العالمية عندما تتوفر فيه الكفاءة العملية والجودة التعليمية. قد يبدو مشروع كهذا بسيطا و بالإمكان إنجازه بجهد قليل، لكنه في الوقت نفسه مشروع حضاري حين يُنظر إليه من زاوية خدمة اللغة العربية، وهو أيضا مشروع اقتصادي مجدٍ يمكن أن ينال دعم شركات عالمية مثل جوجل، كما أنه يمكن أن يجذب إليه بعض المستثمرين من الخارج، وذلك قياسا على التجربة الفيتنامية المشار إليها. كذلك قد يساعد إنشاء التطبيق على إيجاد عدد من فرص العمل أو تحسين دخل بعض المختصين في عدد من المجالات. فبالإضافة إلى شخص خبير في التقانة والبرمجيات فإنه يحتاج عند تأسيسه إلى مختص في التحليل المالي ودراسات الجدوى الاقتصادية، كما أنه لا بد فيه من الاستعانة بمختصين في اللغة العربية، خاصة في مجال الصوتيات phonetic، إذ أن المخارج الصوتية للغة العربية دقيقة وتحتاج إلى خبير مختص فيها، فليس من السهل على غير العربي التفريق مثلا في النطق بين السين والصاد أو بين التاء والطاء، أو بين الألف والعين أو بين الهاء والحاء، دعك عن التفريق بين الضاد والظاء اللتين يصعب حتى على كثير من العرب التفريق بينهما. الجدير بالذكر هنا أن علم الصوتيات علم عربي، عماني الأصل، وضعه الخليل بن أحمد الفراهيدي وأخرجه في كتابه الذي أسماه، «كتاب العين»، وذلك لاستنتاجه أن حرف العين هو أعمق حروف اللغة العربية من ناحية النطق. وقد يكون هذا التطبيق جزءا من مشروع أكبر لتعليم العربية، يدخل فيه مثلا موضوع النقل الحرفي، أو ما يسمى «النقرحة» transliteration وتعني كيفية كتابة الكلمات العربية بحروف غير عربية. وبالرغم من أنه قد يكون هناك تطبيقات مشابهة، لكن سوق تعليم اللغة العربية سوق واسعة سعة اللغة العربية ذاتها، ليس فقط من حيث عدد كلماتها التي تقدر باثني عشر مليون كلمة، ولكن أيضا من حيث تصاريف أفعالها وأوزان أشعارها إضافة إلى تعدد لهجاتها وطرق نطقها، الأمر الذي يعني إمكانية الاستثمار في رقمنة digitisation كثير من خدمات تعليمها ومعاجمها وقواميسها، مما سيجعلها لغة تساير التقدم في كل المجالات وترسخ مكانتها بين أهلها والناطقين بها وتنتشر بصورة أسرع بين الشعوب والأمم الأخرى. كما أن الاستثمار في قطاع الخدمات بصورة عامة، وليس خدمات التعليم فقط، سيفتح آفاقا رحبة لاكتساب التقانة وتطويرها وسيساعد على تنويع الاقتصاد وعلى إيجاد فرص ذات دخول مجزية لكثير من الباحثين عن عمل. ■ باحث في الاقتصاد السياسي و قضايا التنمية