آمــنة الربيع - «الأمور طيبة والخير جاي، والبلد فيها فايض فساد لا تحاتوا، ما مستهلك الرصيد، شابه شابه خوزوا عني، أنا إنسان قانوني وأفهم في قانون البلادين.. نسرق وبعدين نسير نبني مسجد...». استند البناء الدرامي في مسرحية (وَلد البَلد) لمؤلفها ومخرجها مالك المسلماني، إلى مظهرين مسرحيين معروفين: أولهما ظاهرة المؤلف المخرج. وثانيتهما؛ اعتماد ما يمكن تسميته بالقوى الخارقة مرتكزا لبناء الحبكة وتسيير الحدث في تصاعده وهبوطه. ويطرح المظهر الأول بعض الإشكالات الفنية المتعلقة برؤية حولها الجدل لم ينته من المسؤول عن إخراج العرض؟ هل هو المؤلف الذي هو نفسه المخرج؟ الأمر الذي حسب اعتقادي يهدر طاقات إبداعية ومرئيات متجددة للنص الدرامي على الخشبة إذا ما كانت المسافة واضحة. أما المسألة الثانية فلها شؤون أخرى. واختلط الحدث بتعدد أدوار الشخصيات، ما بين شخصيات واقعية نظنُ أننا شاهدناها أمامنا هي (أمينة، ومرهون، وشريف، وصياد وحمدان)، وشخصيات أخرى غير واقعية أشار إليها المؤلف/‏‏ المخرج بوصفها ضمائر مؤنسنة للشخصيات الواقعية، هي (إبليس، والخسيس، وعصفورة، وسميحة، وصلاح، وعادل، ومحبوب). وإذا كان من البداهة، في ظل الثقافات الدينية الموروثة يَصعب النظر إلى الضمير الإنساني مخلوقا غيبيا متمردا كالشياطين أو الجن والأشباح، إلا أن المسلماني تعمّد حصول هذا الخلط ليجعل من بؤرة صراع الحدث الدرامي تتوزع ظاهريا بين مفصلين منفصلين هما (الإنسان/‏‏ وإبليس وأعوانه) أو الإنسان وضميره. لكنهما من جهة أخرى هما في الواقع مفصلٌ واحد يحدث في داخل النفس البشرية، وهو الضمير الإنساني؛ خيرُ الإنسان وشرّه في آن معا. وتوْخى المسلماني إذكاء لعبة الصراع والتسلية بين مخلوقات مختلفة الخصائص في المُطلق، محاولا بذلك إضفاء شيء من اللعب والخداع والتورية، لمكاشفة النفس البشرية بما يعتمل في داخلها من أهواء ونزاعات ومتناقضات. فعالم هذه الكائنات الخرافية يستحيل معه تطابق عالم الإنسان الواقعي، لكن جرّ المتلقي إلى الإيهام عبر وسائط عدة كالمسرح والإضحاك من شأنه خلق مساحة بينية لبناء المخيلة الواقعة تحت ظلال عالم من الأحلام والسحر والغيب، أو هجر هذا العالم كله. وحسنًا فعل المسلماني حينما ابتعد عن اجترار موضوعات الشرّ والخير المستهلكة التي أورثتها لنا الدراما عبر عقود لا يُستهان بها، لاسيما، أن مَزْجَه الصراع بين الإنسان وضميره، وإبليس وأعوانه، غالبا ما يَجلب بعض عوالم السحر وطقوس الزار والشعوذة. ويُحسبُ كذلك للمسلماني محاولته عبر هذا التوّخي تمرير بعض الرسائل النقدية للمجتمع، تارة يقولها صراحة وتارة تأتي مبطنة مستترة خلف التورية. وبالنظر إلى هيمنة الضحك في العرض على حساب انسحاب الفكر والقيمة، فإنّ مسرحية «ولد البلد» تعدّ صيحة «تنفيسية» معبّرة عن بعض قضايا الراهن المجتمعي السياسي. كان يمكن للمسرحية أن تُكثف وتُختزل في زمن قصير، لكنها لأهداف (مسرح الجمهور) أو المسرح التجاري تمددت لما يزيد على الساعة والنصف، في مساحة عالية من الوهم والتخييل، أو الطرافة والغرابة، واللعب بالألفاظ والضمائر، فشابها معه، بعض الاختلال أو الهبوط على مستويين متوازيين هما التأليف والإخراج. ثمة مرتكز في الصراع الدرامي لا ينبغي تجاهله، وعلى كل مؤلف مسرحي أن يعيه جيدا؛ هو أن الدراما تقوم على الصراع وليس على المحاكاة، وأبسط تعريف للصراع هو الجدل. وأن الصراع كذلك يجري حدوثه بين شخصيتين أو فريقين، كُّل شخصية تُجسد قوة متعارضة مع الأخرى، وكل شخصية كذلك تمثّل فكرًا وتحمل قيمًا تظل تدافع عنها، إما أن تحقق الشخصية في النهاية مكاسبها أو تُهلك دونها! كما أن للمسرحية خطا تسير عليه ضمن صراع درامي وجدل منطقي متصاعد، لا ينبغي التغافل عنه، وينطبق هذا التوصيف على الكوميديا والتراجيديا. يدور الحدث الدرامي في العرض حول الشاب مرهون «ولد البلد» الذي يمثل شريحة من الناس البسطاء، والمؤمن بعدة مبادئ رآها تنهار أمامه تلو الأخرى، ورغم محاولته الحفاظ على مبادئه يعجز عن ذلك بسبب الظروف الاجتماعية والمادية الطاحنة، لأن «بالوعته فايضة من شهرين ما قادر يشطفها»، فيقرر التخلي عن مبادئه وقتل ضميره، لكن السّحر ينقلب في النهاية على الساحر وينتهي نهاية تليق به، من دون أن نعرف مصير البالوعة!! لعلّ السؤال الذي يقفز إلى المُخيلة: من السبب وراء تخلي مرهون عن مبادئه؟ هل هم الناس الذين ظلت توحي إليهم حوارات المسرحية وجسدتهم عبر المجاميع أو إبليس وأعوانه؟ وما الأزمة المركزية التي تدفع شخصية مرهون إلى التحول والانقلاب من وضع إلى آخر؟ هل تكفي البالوعة الفايضة سببا لذلك؟ يبدأ العرض بمحاولات مستميتة من (صلاح) إقناع (مرهون) الامتثال بالقوة لمقولة تخديرية ذات مفعول ساحر تفننت البلاد وإعلامها في جعلها مكسبا عظيما هي جملة «الأمور طيبة»، لكن مرهون «يحاول من زمان يقولها بس ما طايعه تطلع معه المسكين ...مصادرنا تقول من يوم مولود ما عمره قال الأمور طيبة، يعني بعده ما مستهلك الرصيد». ومن جهة أخرى، تتطور الأحداث فنتعرف على أمينة الشريرة، وهي تسعى في صراع مزدوج مع أخواها (عادل وصلاح) وأباهما (إبليس) إلى حيازة مُلكية البيت الكبير الذي عاشت فيه.! وبحثها المحموم عن ضمير فاسد تدير به الشغل في مصنعها المُعرض للإفلاس. ما يربط بناء شخصية مرهون بإبليس وعياله أن الجميع ظل يبحث عن ضمير فاسد! إذ تُخبرنا (سميحة) أن «المصنع متوقف، الشغل واقف، كل الغرش فاضيه، كيف بتنترس الغرش وما عندنا ولا ضمير فاسد؟ بلاد ويش كبرها ما فيها ولا ضمير فاسد؟». تتطور الأحداث ويحتد النقاش بين مرهون وضميره (الخسيس) الذي ظل يلازمه مثل ظله منذ بداية المسرحية؛ إذّ يقرر الأول دخول بيت أمينة لسرقته بهدف أن «يزغط له غرشة الأمور طيبة»، وتتقدم المواقف الضاحكة فيدخل (شريف وشيطون وشطين) معلنون استغنائهم عن خدمات أمينة التي لم تستطع توفير الضمير الفاسد، فيهتدي مرهون إلى اقتراح البحث عن «ضمير صالح ومحلي مال البلاد» ليفسدانه، فيقع الاختيار على إفساد (محبوب) الذي يساوي برأي أمينة ثروة لا تعادلها ثروة ألف ضمير فاسد. ونتيجة لذلك يحظى مرهون بعناية إبليس واصفا إياه «بأرقى أنواع الضماير الفاسدة المعتقة»، لكن السحر ينقلب على الساحر، ففي المشهد الأخير نشاهد مرهون وأمينة مكبلان وبينهم الشياطين وأهل الحارة يُحيطون بالبيت الكبير يريدون «زغط الأمور طيبة»، لكن «الغرش مخلصة وما نلحق نسوي شيء الحين»؛ لأن الأمور طيبة تحتاج لزمن طويل حتى تختمر وتؤدي مفعولها. وفي لحظة انقضاض أهل الحارة على البيت الكبير يُلقى إليهم بمرهون بعد أن يغرز (صياد) سكينه فيه انتقاما منه لأذيته السابقة له، وبذلك يحتفل الناس بالنصر بينما يعاتب إبليس أمينة التي أَدخلت مرهون بينهم دون مشورته. إنّ فكرة المسرحية جميلة للغاية في محاولة اقترابها من ظاهرة الإسقاط والالتزام بهموم الوطن وقضاياه، ولكن عندما يكتب المؤلف نصا دراميا، فهو يقينا سيضع فيه عصارة أفكاره المحتملة والمؤجلة. ولا شك أن نسبة من ترجيح فكرة على أخرى ستدفع بالمؤلف إلى اختيار الفكرة الأكثر مناسبة مع فكره وقناعاته. ومهما بلغ طموح الكتابة المسرحية مداه، فهناك متلقٍ يستقبل ما يراه، تارة قد يتأثر بما يراه، وتارة قد يُهمله. وهذا مؤشر مهم على أن المؤلف والمخرج والممثلون والجمهور ليسوا بريئين أو ميتينعطفا على مقولة موت المؤلف لرولان بارت فالجميع يشتركون في تحمّل مسؤولية العرض وعلى وجه خاص في مفهوم التعاطف مع بعض الشخصيات! بطاقة المسرحية وبنيتها هل الشّر جميل؟ ثيمة المسرحية غير معقدة، فهي في نسختها الأولى تعود كتابتها إلى يونيو 2017م، وهي على ما يبدو «تجربة مالك المسلماني» المتقاطعة مع هموم وأفكار مسرحياته السابقة التي تسنى لي مشاهدتها (حارة البخت، ودمدم). ما المُربك في النص/‏‏ العرض؟ بُنيت المسرحية كنصّ من أربعة مشاهد تدور جميع أحداثها في ثلاثة أماكن مختلفة هي: السوق، ووسط البلد، وصالة البيت الكبير. وتلعب الشخصيات أدوارا مزدوجة لتثبيت فكرة الصراع مع الضمائر؛ فالفنانة فخرية خميس هي أمينة وسميحة وشيطونة وضميرها المؤنسن هي عصفورة وتجسده الممثلة أنغام المطروشي، والممثل عبدالحكيم الصالحي هو مرهون، وضميره المؤنسن الممثل قاسم الريامي في دور الخسيس، والممثل الصلت السيابي، يؤدي ضمير صياد المؤنسن الذي جسّده الممثل قحطان الحسني، أما الفنان جمعة هيكل فجسّد دورين هما صلاح، وشطين، وجسّد الفنان عبدالغفور أحمد دورين هما عادل، وشيطون، والممثل قحطان الحسني في دور صياد، والممثل الصلت السيابي في دور محبوب، الذي جسد ضمير صياد المؤنسن، والمجاميع البالغ عددهم (15) ممثلا جسدوا أدوارهم مع الشياطين وأهل البلد. بينما استقرت الأدوار الثابتة لدى الفنان صالح زعل في شخصية إبليس، والممثل سامي البوصافي في دور شريف، والممثل سامي التوبي في دور حمدان. القراءة الإخراجية ماذا كان سيفقد المخرج المؤلف إذا التزم بعناصر الإخراج الواقعي؛ فشاهدنا سوقا وساحة وبيتا كبيرا وبالوعة فائضة؟ أطرح هذا السؤال لأن تجليات التغريب الملحمي الذي وظفه لم يؤدِ غرضه بالقدر المطلوب؛ لاسيما، وأن الخشبة حافظت في مستوياتها على مستوى واحد! وإذا كان للمخرج حق اعتماد الرؤية الإخراجية التي يراها مناسبة له، أفترض جدلا كان عليه ألا يضحي بمكاسب التغريب على ذلك النحو، فعلى الرغم من تصدر خلفية المسرح لفواصل خشبية ثابتة متجاورة غير منفصلة، وترّكز حركة الممثلين على مقدمة الخشبة وتداخل الأماكن وزحمة تعددية الضمائر، مع محاولة استثمار الإضاءة للدلالة على الانتقال من مكان لآخر، إلى أن هذا أدى إلى الإرباك. وإذا كان مالك المسلماني قد نجح في تقديم مسرحية يمكن تسميتها بمسرحية لقاء لأجيال المؤسسة للتمثيل بالمسرح مع الشباب، فالنظر إلى التحول الحاصل للشخصية لم يأت بجديد، فقد غازل المسلماني الصالة في مواقف كثيرة ضجت بإعجاب الجمهور والتصفيق، لكن النهاية لم تكن لصالح العدالة والحرية والكرامة، بل شاهدنا بطلا فرديا تحول إلى سارق ثم منتقم. وهنا يبرز مفهوم التعاطف كأحد مرتكزات الدراما عبر العصور كقيمة وجدانية وأخلاقية راقية! فالجمهور سيتعاطف مع من؟ مع إبليس وشره الجميل؟ أم مع الضمائر التي لم تُبنَ كشخصيات درامية جيدا؟ أم مع المجاميع المخدّرة التي ثارت ضد «الأمور طيبة» لتطلب المزيد منها؟