يكشف المسكوت عنه في حياة الكاتبة المنتحرة - الشربيني عاشور:- عنايات الزيات كاتبة مصرية، كتبت روايةً يتيمة بعنوان «الحب والصمت»، صدرت في العام 1967، بعد أربع سنوات من انتحار الكاتبة عام 1963، وهي في الخامسة والعشرين من عمرها. الشائع والمعلن وراء حادثة الانتحار هو رفض دار نشر حكومية لنشر روايتها بعد أشهر من الانتظار! هل كان ذلك هو الحقيقة؟ هل ينطوي الأمر على شبهة تعتيم لاعتبارات تتعلق بالعائلة والأصول والنفوذ السياسي والاجتماعي؟ ظلت هذه الأسئلة غريبة لا تجد من يجيب عنها، إلى أن طواها النسيان، كما طوى القبر رفات الكاتبة الشابة! بعد ثلاثين عامًا من انتحار عنايات الزيات، أي في العام 1993 تذهب شاعرة مصرية شابة هي «إيمان مرسال» إلى سور الأزبكية (مكان لبيع الكتب القديمة والمستعملة بالقاهرة). للبحث عن نسخة زهيدة الثمن من كتاب «كرامات الأولياء» للشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، تقع عينها على نسخة قديمة من «الحب والصمت» تشتريها وتقرأها فتقع في غرامها، تعيد القراءة مرة ثانية، وتدون في كراستها بعض فقرات من الرواية أحست أنها لمست مشاعرها: «كأنها نصوص قصيرة مستقلة، كأنها تنوير لما كنتُ أشعر به وقتها». بعد سنوات تتحول «عنايات الزيات» إلى ما يشبه «النَّداهة»، تلك الشخصية المعروفة في الأساطير الشعبية بإغواء من تظهر لهم وإغرائهم بمتابعتها. ذلك ما أحسته «إيمان مرسال» التي بدأت رحلة بحثٍ جادةً وشاقة عن الكاتبة المنتحرة طوال سنوات امتدت من العام (2015) إلى العام (2019). غير أن النداهة وإن كانت في الأساطير تغوي ضحاياها للسخرية منهم في النهاية، فإنها هنا ستغوي «مرسال» باكتشاف المسكوت عنه، بمحاولة الإجابة عن تلك الأسئلة التي طواها النسيان، بفرز الحقيقة من السراب في حياة «عنايات الزيات» ونفض الغبار عن انتحارها الغامض. وفي مفارقة تراجيدية، تنطلق رحلة «مرسال» في البحث عن عنايات الزيات من القبور. كانت عنايات قبل انتحارها تحضر لكتابة رواية ثانية أو كتاب يبدأ من القبور أيضا، لكنه عن باحث ألماني عاش في القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين، ذلك ما تستشفه إيمان مرسال من قصاصة ورقية عثرت عليها بخط عنايات. لكن القدر الذي لم يمهلها لكتابة تلك الرواية أو ذلك الكتاب، هو نفسه الذي سيدفع «مرسال» لكتابة كتاب عن رحلة البحث هذه، تصدره دار «الكتب خان» المصرية منذ أسابيع بعنوان «في أَثر عنايات الزيات». ليبدو ـ قدريًا ـ وكأنه تعويض عن كتاب لم يُكتب، أو كبديلٍ لرواية كانت ستكتبها الزيات غير أن القدر أراد لها أن تتحول من مقام «الكاتبة» إلى مقام «المكتوبة» هذه المرة. وإذا كانت الرحلة في ذاتها أهم من الوصول أحيانًا، فإن رحلة «مرسال» في أثر عنايات الزيات، تتوازى أهميتها مع كل الحقائق والكشوفات التي ستتوصل إليها بصبر وتعب ومشاوير ومكالمات هاتفية ولقاءات، في أثناء تقصيها للأماكن التي عاشت فيها الكاتبة المنتحرة وما خلفته من أثر، ومن تبقى قيد الحياة من الأشخاص الذين كانوا على صداقة أو معرفة بها؛ لتتوالى المفاجآت والاكتشافات، ويُسْتَغرَق القارئُ كليًا في متابعة الرحلة، مشدودًا ومشدوهًا بهذه «الخلطة السحرية» في الكتابة التي تجمع بين الرواية والتحقيق الصحفي الاستقصائي وكتابة الذات. إذ يجد نفسه محاصرًا بنصٍ مبهر في حكاياته وأحداثه ومفاجآته وأسلوبه والأسماء التي يستدعيها سواء من الأرشيف مثل مصطفى محمود وأنيس منصور ويوسف السباعي ومحمود أمين العالم كشهودٍ تاريخيين في القضية، أو الأسماء التي تلتقيها المؤلفة على أرض الواقع كشهودِ عِيان؛ بدءًا من الفنانة «نادية لطفي» الصديقة الشخصية للكاتبة المنتحرة، وانتهاء بحارس المقبرة، مرورًا بشخصياتٍ أخري على تماس بالموضوع، أضفى حضورها وشهاداتها على الكتاب هالة من الواقعية والتوثيق، وعلى الرحلة حبكة من الإثارة والتشويق، ودفعًا بالأحداث إلى الأمام باتجاه المُعَتَّم والمسكوت عنه وصولا إلى النهاية المؤلمة لحياة كاتبة شابة، بدا المعلن والشائع من أسباب انتحارها ساذجًا وهشًا وغير مقنع. فضلا عمَّا انطوى عليه المعلن ممثلًا في رفض الدار الحكومية لنشر روايتها من التباس ومكر. إذ عادت الدار بعد يومين من انتحار الكاتبة لتعلن عن خطأ في إبلاغها برفض نشر روايتها، فلم تكن هي المقصودة بالرفض، ولكنْ أخت لها تصادف أنها قدمت مادة مترجمة للنشر في الدار نفسها! «في أثر عنايات الزيات» كتابٌ مشغولٌ بحساسية بالغة وتكثيف متقن، تتداخل فيه الأزمنة وتتقاطع الأمكنة، كما تمتزج مشاهد من حياة المؤلفة بمشاهد من حياة الكاتبة موضوع البحث. ويتخلل الزمانيُّ ممثلا بالنص المقروء «الحب والصمت» الزمنيَّ ممثلا بالنص المكتوب «في أثر عنايات الزيات». ويبرز المتخيل ليملأ فراغات البحث لا كتزييف للواقع، لكنْ بما يمكن أنه كان. وإذا كنت ـ مثلي ـ سترى أن مأساة «عنايات الزيات» كمنت بداخلها، بقدر ما أسهم فيها بعضٌ ممن حولها، وإذا كنت ستتعجب من الأقدار التي كتبت مصيرًا مأساويًا لهذه الشخصية الحساسة الحالمة المتمردة، فأنهت حياتها مبكرًا ثم عادت لتبعثها من جديد في هذا الكتاب. وإذا فضلت لو أن اسم الكتاب كان «في إِثْر عنايات الزيات» وليس «في أَثَر عنايات الزيات»، مفرقًا بين الإِثْر والأَثَر، أو خطرت لك في لحظة ما في أثناء القراءة تلك البنية السردية لفيلم «الساعات». إذا كنت كذلك أو غير ذلك، فالذي لا شكَّ فيه أنك سترى الكتاب روايةً ممتعة، وتراه تحقيقًا استقصائيًا ممتازًا، وتراه نصًا بلا ضفاف، لا يحصر نفسه في جنس أدبي معين، كما صنفته دار النشر. وقد تراه كل هذا مجتمعًا في روح واحدة بتلك «الخلطة الساحرة» التي غزلتها المؤلفة بشغف وشفافية وقلم شاعرة، فكتبت بكل هذا الجمال في موضوع هو في ذاته مأساوي. سواء في تعبيره عن نفسه أو في ما سيكتشف عنه مما تخفيه الحياة تحت قشرتها اللامعة، وما سيتركه بداخلك من علامات التعجب والاستفهام حول النهايات الغريبة وتصاريف القدر، وما تنطوي عليه نفوس البشر من الأسى والظلم والادعاء والجشع.