في الذكرى الخامسة لرحيله -
عاصم الشيدي -
في سبتمبر من عام 2019 كنت في القاهرة ولا همّ لي إلا البحث عن إجابة عن سؤال واحد فقط: هل كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل مذكراته؟ وإذا كان قد كتبها متى يمكن أن تنشر وترى النور؟
وهل السؤال ليس جديدا بالنسبة لي، فيوم التقيت «الأستاذ» في مكتبه في شهر سبتمبر من عام 2015 كنت أحمل السؤال معي، وكان بين الأسئلة التي سأطرحها عليه في الحوار الذي وافق أن نجريه بعد أربعة أيام من ذلك اللقاء لولا أنه دخل في عارض طبي استمر يلازمه حتى توفي بعد 5 أشهر من ذلك اللقاء الذي أعتز به كثيرا وبالتحديد في مثل هذا اليوم قبل خمس سنوات.
وبقيت أنتظر صدور مذكراته بفارغ الصبر، ويقيني أنها ستقدم رؤية متكاملة، وقد تكون مختلفة، لما جرى في المنطقة خلال أكثر من نصف قرن كان فيها هيكل ملء السمع والبصر وقريبا جدا من مركز صناعة الحدث، بل إن البعض كان يعتقد أنه تجاوز مرحلة الاقتراب إلى المشاركة الحقيقية في صناعة الأحداث والتأثير على مسارها علاوة على أنه كان المنظّر الأول لها وكاتب فلسفتها.
ومن نافل القول إن الأقدار أتاحت للأستاذ محمد حسنين هيكل الاقتراب بما فيه الكفاية من الزعيم جمال عبدالناصر يوم كانت القاهرة عاصمة دول العالم الثالث، وقائدة حركات التحرر الوطني في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وهذا الاقتراب أتاح له اقترابا آخر من زعماء العالم وصناع التغيير فيه، بل إنني متأكد أن لدى الرجل مصادر لا تتهيأ في بعض الأحيان لدول، وكان يملك القدرة على تتبعها وربطها ببعضها وتحليلها واستقرائها. ونشأت أحد أعظم العلاقات في التاريخ بين زعيم سياسي وصحفي، وكان علاقة ملتزمة عرف فيها هيكل النقطة التي عليه أن يقف عندها فلا يقترب أكثر حتى لا تحرقه السياسة فيحترق كصحفي وينتهي مجده.
وبدأتُ في القاهرة أبحث عن إجابة على السؤال المحير.. ولم تكن الإجابة على السؤال سهلة أو حتى متاحة من المصادر التي تملك الإجابة الحقيقية. فمديرة مكتبه جيهان عطية اعتذرت عن الحديث لأي صحفي حتى لو كان قد قطع المسافة الطويلة بين مسقط والقاهرة خصيصا ليستمع منها إلى بعض تفاصيل أو إشارات رغم أنها تملك قبل غيرها إجابة شافية على هذا السؤال. أما حرم الأستاذ هيكل هدايت تيمور التي تملك هي الأخرى الإجابة الشافية فقد كانت مسافرة خارج مصر، ولكن هل كانت لتبوح بالسر الذي سألتها عنه مئات وسائل الإعلام شرقا وغربا وأحجمت، وما زالت تحجم حتى اليوم على أقل تقدير! والمقربون من الأستاذ ومريدوه لا يقطعون بأي إجابة شافية؛ لأن أحدا منهم لا يملك الإجابة القطعية الكاملة على هذا السؤال. وسمعت بعضهم يقول ربما كتبها وربما لم يكتبها! وهذا رد قابل لأن يُسقط على كل شيء دون استثناء؛ فكل الأشياء إما أنها فُعلت أو لم تُفعل كُتبت أو لم تكتب! لكنّ الصديق الفلسطيني خالد عبدالهادي، وهو أحد المقربين من الأستاذ هيكل وقد كتب حوله كتابا مهما حمل عنوان «علامات على طريق طويل.. هيكل لمحات إنسانية»، يقطع يقينا أن الأستاذ قد كتب مذكراته. ويقول في حوار نشرته جريدة الدستور المصرية في فبراير 2020 «بشكل يقينى كتب هيكل مذكراته، لكن لست متأكدًا إذا ما كانت تعرضت للحرق في أغسطس 2013، عندما أغار شيطان على منزله الريفي فى برقاش، فأحرق النسخة الوحيدة التي أودعها هناك ومعها كنوز أخرى أم لا؟» وحادثة حرق بيت الأستاذ هيكل معروفة وقد أثرت فيه كثيرا، بل إنه شعر بالتشظي وشاهدته متحدثا في حوار تلفزيوني عن الحادثة وكان متأثرا جدا جدا، وقرأت رده على مقال كتبه الصحفي فهمي هويدي حول حرق منزله وكانت كلماته في المقال تنم عن تأثر عميق بالحادث. ومرد ذلك التأثر للمكانة الكبيرة لذلك المنزل في نفسه، وفيه مكتبته الكبرى التي تضم وثائق ضخمة ونادرة عن مصر وعن العالم العربي وعنه بوصفه صحفيا حضر وشارك في كل أحداث المنطقة في مرحلة مهمة من مراحل الوطن العربي.
لكن على فرضية أن المذكرات كتبت واحترقت نسختها الوحيدة في ذلك الحادث الأليم فهل كان هيكل ليقع في هذا الخطأ وهو المعروف بقدرته الهائلة على العناية بأرشيفه والاحتفاظ بكل ورقة صغيرة أو كبيرة تقع في يده وكان يودع أوراقه الخاصة في بنوك بريطانية من أجل التأمين عليها من الفقد والسرقة! ثم هل يعقل أن تبقى النسخة الورقية من المذكرات دون أن تكون له نسخة إلكترونية في هذا الزمن الإلكتروني وعندما يرد الدفع بالمذكرات إلى النشر يعاد طباعتها من جديد! يجيب عبدالهادي على بعض هذه الأسئلة في الحوار نفسه: «بحكم معرفتي بطبيعة صاحبها أعتقد وجود نسخ أخرى، وهناك من قال لي إن المذكرات ستنشر بعد 30 سنة، وهو ما لا أعتقده فيه لأنه يخالف نهج وطريقة تفكير الأستاذ». لكل أليس هيكل الذي قال إن حسن باشا يوسف، وكيل الديوان الملكي، قد تحدث معه طويلا، وسجل شهادته على 32 ساعة، كان فيها مجمل وأهم ما جرى في عصر فاروق «لكنه طلب مني عدم إذاعتها إلا بعد وفاته ووفاة زوجته بـ 20 سنة» وعلق هيكل على ذلك بالقول «وأنا لن أكون موجودا ساعتها». وأليس هيكل الذي لديه أكثر من 40 ساعة مسجلة مع محمود فوزي نائب رئيس الجمهورية المصرية الأسبق ولم تنشر حتى الآن، وقال مرة «أنا مؤتمن عليها ولا بد أن تصل إلى الناس بأمانة»! وهذا يعطي إحساسا أن فكرة النشر بعد الوفاة بسنوات متقبلة لدى الأستاذ هيكل وممكنة.
على أن خالد عبدالهادي ليس الوحيد الذي يقطع بكتابة هيكل لمذكراته. فالأستاذ نفسه قال للصحفي رجب البنا في عام 1987 في حوار نُشر ضمن دراسة عن الأستاذ بعنوان «هيكل بين الصحافة والسياسة» عندما سأله متى ستنشر مذكراتك؟ قال: «إن أوراقي جاهزة، وكتابتها لن تستغرق وقتا طويلا، فهي مرتبة ومنظمة، ويمكن لأولادي أن ينشروها كما هي، وإن كنت أفكر في مشكلة وهي: كيف أتعرض بالحقيقة لأشخاص ما زالوا أحياء؟ والأمانة تقتضي أن أقول الحق ولا شيء غير الحق، وهكذا أفعل دائما وألزم نفسي به». وهذا الكلام يؤيد فكرة النشر بعد الوفاة، وبعدها بسنوات حتى لا يؤثر ما في المذكرات عليهم وعلى حياتهم ربما. ثم إن الأستاذ هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ» الذي صدر في عام 1985 أعاد نشر حوارات سبق أن نشرها في الأهرام، ولكنه أضاف لها معلومات لم تنشر في المرة الأولى؛ بسبب أن نشرها قد يؤثر على البعض.
واليوم فيما تمر الذكرى الخامسة على رحيل الأستاذ محمد حسنين هيكل يتجدد السؤال مرة أخرى.. متى تصدر مذكراته؟ وحجم السؤال والإلحاح عليه يعكس حجم ومكانة هيكل في أحداث المنطقة. وعسى أن تكشف الذكرى الخامسة للرحيل بعضا من الأسرار التي قد تكون المذكرات بينها.
ونهاية العام الماضي أصدر الصحفي المصري محمد البَاز كتابا ضخما سماه «هيكل المذكرات المخفية.. السيرة الذاتية لساحر الصحافة العربية» جمع فيه كل ما كتبه هيكل عن نفسه وما يمكن أن يدخل ضمن السيرة الذاتية من علاقته بالأشخاص والأحداث والصحافة وصحيفة الأهرام وأخبار اليوم، وعلي أمين ومصطفى أمين وغيرهم من الشخصيات، وبدا الكتاب مهما لمن لم يقرأ كتب هيكل وأراد أن يعرف مسيرة الرجل وسيرته وعلاقاته بالأحداث وبصناعها، كما تكمن أهمية الكتاب في أنه بوب الأحداث لتكون منسجمة في بنيان واحد، بأن جمع كل ما يخص علاقة الأستاذ هيكل بالأهرام في مكان واحد، وعلاقته بعبدالناصر في مكان واحد وكذلك علاقته بالسادات وهكذا.. وهذا هو الجهد الذي يشكر عليه الكاتب أما غير ذلك فإن مادة الكتاب كتبها هيكل بنفسه بدءا من الصفحة رقم 51 وحتى الصفحة الأخيرة رقم 600.
لكن، مع أهمية الكتاب بهذا المعنى، إلا أن هذه ليست مذكرات الأستاذ هيكل التي ننتظرها، ولن يكتب هيكل مذكراته على هذا النحو وهو الذي كان مهتما بموضوع المذكرات التي يكتبها رجال السياسة والصحافة في كل مكان. ولو كانت مذكرات هيكل على هذا النحو فإن كتابه الصادر في عام 1984 «بين الصحافة والسياسة» هو أهم كتب مذكراته لأنه كتب فيه حكايته مع الصحافة. ولكان مقاله «علامات على طريق طويل» المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ 11 فبراير 1972 والذي تحدث فيه عن علاقته الطويلة بالصحافة وهو بحق نواة لمشروع كتابة مذكرات.
ولكان كتاب «أحاديث برقاش» للكاتب الصحفي عبدالله السناوي بمعنى من المعاني يدور في هذا الفلك. وكذلك كتاب «الجورنالجي وكاتم الأسرار.. محمد حسنين هيكل ومصطفى ناصر» لطارق فريد زيدان وغيرها من الكتب الكثيرة التي اقتربت من حياة الأستاذ هيكل واعتمدت على حوارات مباشرة معه. رغم كل ذلك أدعو الجميع لقراءة الكتاب والكتب الأخرى التي ذكرتها أعلاه لأنه تكشف بعضا من مكانة الرجل وإمكانياته.
أما أنا فسأبقى منتظرا صدور المذكرات الحقيقية التي كتبها الأستاذ هيكل لتكون مذكراته وليس تلك التي اعتقد بعضهم أنها مذكراته أو يمكن أن تحل محل مذكراته.