سبعون عامًا في حب السينما وتصوير الأفلام - حوار : الشربيني عاشور - في الخمسينات من القرن الماضي، وفي قاعة السينما بمنطقة عابدين بوسط القاهرة، يجلس طفلٌ في الخامسة من عمره بجوار والده. الوالد وهو طبيب أسنان ينتمي لأسرة عريقة في العسكرية المصرية، يمسك بيد الطفل؛ ليضبط انفعاله بمشاهد الفيلم فلا (يتنطط) فوق الكرسي أو يلكم أحدًا بقبضته وهو مندمج في المشاهدة! آنذاك، لم يكن الأب يعرف أن طفله الذي تستهويه أفلام الحركة أكثر من غيرها، سيصبح واحدًا من أهم مصوري السينما في العالم العربي، وأنه سيلقب بـ«ملك التصوير»، و«مصور الشوارع»، و«أول من صور تحت الماء»، وأن اسمه «سعيد شيمي» سيكتب بالخط العريض كمدير للتصوير على شرائط أفلام روائية، أصبحت عشراتٌ منها علامات في تاريخ السينما العربية مثل: ضربة شمس، وطائر على الطريق، والشيطان يعظ، والعار، وسواق الأتوبيس، والحريف، والبريء، والحب فوق هضبة الهرم، وملف في الآداب، وأربعة في مهمة رسمية، وكتيبة الإعدام، وغيرها من الأفلام التي عرفت باسم «الواقعية الجديدة». هذا الطفل الذي تجاوز السبعين من عمره الآن، والذي يتكأ على تراث من الأفلام التي صورها، فبلغت 108 أفلام روائية، و70 فيلمًا تسجيليًا، وبضعة مسلسلات تليفزيونية، التقته «عُمان» في بيته بمنطقة المعادي في القاهرة، حيث دار الحوار التالي حول الحياة ورحلته مع احتراف التصوير السينمائي، وحب السينما، وأشياء أخرى من بينها زيارته لسلطنة عُمان: «تاريخيًا أعرف عمُان جيدًا من خلال حبي ودراستي للتاريخ، لكنني ذهبت إليها مع المخرج عادل الأعصر عام 2012، للعمل في مسلسل «دنيا ودين». اكتشافي الحقيقي هو الشعب العماني؛ شعب طيب جدًا، وأبناؤه يعملون بأنفسهم في مختلف المجالات، وهذا يعني أن هناك دولة. وعُمان كبلد جميلة، وقد قلت لمن عملت معهم هناك: حافظوا على جمال أنفسكم وبلدكم». بعد «دنيا ودين» توقف سعيد شيمي عن العمل في التصوير السينمائي. كان عازمًا على الاعتزال إذا قدَّر الله له بلوغ السبعين، وقد بلغها، لكنه لم يتوقف عن نقل خبراته للأجيال التالية، فهو يواصل إلقاء المحاضرات وتقديم الدورات والورش الفنية هنا وهناك، كما أنه أصبح أكثر تفرغًا لمواصلة إثراء المكتبة السينمائية بكتبه التي بلغت 28 كتابًا. لقد كانت هناك علاقة دائمة ومبكرة بالكتابة: «وأنا صغير كنت ممتازًا في مادة الإنشاء، لأنني تربيت على حب القراءة، كان والدي حريصًا على شراء جريدة الأهرام يوميًا، ومجلتين أخريين واحدة لي والثانية لأختي التي تكبرني. وفي مدرسة النقراشي الثانوية النموذجية، انتميت إلى جماعة الصحافة. كنا نصدر مجلة اسمها «النموذجية»، وكنت أكتب فيها نقدًا سينمائيًا ليس بالمعنى المعروف للنقد. فقد كنت أحكي الأفلام التي أشاهدها». يضحك الرجل فتلمح طيبته وهي تنتشر في ملامح وجهه كالضوء. وتتعجب من أنه دخل جماعة الصحافة رغم وجود جماعة للتصوير الفوتوغرافي الذي يهواه، وأخرى للتمثيل، وتتساءل إن كان قد فكر ذات يوم في أن يصبح ممثلا، خاصة مع انخراطه في الوسط السينمائي وعلاقته القوية بأبرز المخرجين: «دخلت جماعة الصحافة؛ لأنني أحب أن أكتب عن الأفلام. وفي المدرسة الإعدادية مثلت دورين في مسرحيتين مدرسيتين؛ دور صياد يجمع الشباك، ولم أنطق فيه بكلمة، ودور رئيس وزراء بريطانيا أيام العدوان الثلاثي على مصر «أنطوني إيدن». أخذوني لشكلي؛ طويل وأبيض ورأوا أنني أشبه البريطانيين! وقلت في هذا الدور كلمات قليلة، لكن التمثيل لم يشغلني أبدًا. كان هدفي واضحًا وأمام عيني منذ تفتح ذهني على العمل بالسينما. التصوير السينمائي ولا شيء غيره». رغم وضوح الهدف أمام سعيد شيمي عارضت الأسرة رغبته في الدراسة بالمعهد العالي للسينما، لكنه لم يتنازل عن هدفه، لذلك سيلتحق بقسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وفي الوقت نفسه سيقدم أوراقه في المعهد العالي للسينما. لكنْ، ولسببٍ غريب لن يتمَّ قبوله في المعهد. «كنت أحمل معي بعض الصور الفوتوغرافية التي صورتها بكاميرا خاصة كنماذج من تصويري، وفي أثناء اختبار القبول، توقف «محمد كريم» المخرج السينمائي الرائد أمام إحدى هذه الصور منزعجًا.. وطردني من لجنة الاختبار». كانت الصورة التي أفزعت محمد كريم، عبارة عن سيجارة مشتعلة على طاولة صغيرة، يتصاعد منها الدخان ومن خلفه امرأة عارية الظهر. ويقول سعيد شيمي معلقًا: «تعرف عندما تكون شابًا فإنك لا تفكر كثيرًا في التابوهات». بعد رفض قبوله للمرة الأولى في المعهد، يواصل سعيد شيمي دراسة التاريخ في كلية الآداب: «أحب التاريخ دائمًا. هل تعرف من أين أتى هذا الحب؟ من السينما. ففي طفولتي كنت أشاهد أفلامًا عن الرومان، والفايكنج، والفرس، فأريد أن أعرف من هؤلاء الناس؟ وما تاريخهم؟ ومن هنا نشأ حبي لمادة التاريخ والجغرافيا». فنانون وكتاب وشعراء كثيرون لم يرحبوا بدراسة الرياضيات. إنها ظاهرة غريبة! هل يتعلق الأمر بالطبيعة النفسية؟ بالجينات أو الاستعداد الفطري؟ أسئلة تمرُّ على الخاطر، إلا أنها خارج الموضوع الآن، لذلك سأعود إلى الحوار مرة ثانية، كما سيعود سعيد شيمي إلى محاولته الثانية لدخول معهد السينما، فيواجه الرفض أيضًا على الرغم من إجاباته الصحيحة عن أسئلة الاختبار! قل إنها «الواسطة» التي تفسد أشياء كثيرةً في عالمنا العربي. محاولة ثالثة للسنة الثالثة يحاول سعيد شيمي دخول المعهد، فتبوء محاولته بالفشل كسابقتيها. إلا أن السبب هذه المرَّة سيكون مختلفًا؛ فقد تجاوز السن القانونية للقبول: 24 عامًا، كما أخبره موظفٌ متجهمٌ خلف مكتبه المهيب، رافضًا أيَّ التماسٍ بالاستثناء يمكن تقديمه ولو إلى الوزير! «كان أمرًا مؤسفًا حقًا، وكنت قد وصلت إلى السنة الثالثة في كلية الآداب، لكنني كنت أيضًا قد انضممت إلى جمعية الفيلم التي أسسها ورأسها السينمائي الراحل أحمد الحضري، وكنت أشارك في تصوير أفلام تسجيلية تنتجها الجمعية للهواة، وكان الحضري معروفًا بجديته واستقامته، وعدم مجاملته لأحد؛ لذلك عندما أرادوا تطوير المعهد اختاروه للقيام بهذه المهمة، وما إن تم تعيينه مديرًا للمعهد، حتى قدمت أوراقي للقبول، إنها المرة الرابعة والأخيرة، فتم قبولي. لقد حققت المركز الأول، وعندئذٍ تركت كلية الآداب وتفرغت للدراسة في المعهد». أيُّ خسارةٍ كانت ستلحق بالسينما المصرية بسبب غِلْظة موظف، لو أن سعيد شيمي لم يدرس بالمعهد؟ هذا السؤال يمكن توجيهه إلى هذه النوعية من الموظفين في أماكن كثيرة ترتبط بالفنون، لكنَّ الدأب والإصرار والإرادة التي يتمتع بها سعيد شيمي ستفتح أمامي بابًا للسؤال حول رؤيته للمصادفات ومكانها في حياته، واسهامها في تحقيق ذاته: «سأقول لك شيئًا؛ عندما دخلت المعهد تعرفت على زوجتي الأولى -رحمها الله- كانت زميلتي في الدفعة بقسم التصوير، أحببتها وخطبتها في السنة الثانية، وتزوجنا بمجرد التخرج. وعندما أفكر في عدم قبولي في المعهد لمدة ثلاث سنوات، أقول: إنَّ الله أراد هذا التأخير لكي ألتقي بها. كانت مصورة، وكانت أمهر مني في التصوير. كانت الأولى على الدفعة. وغير ذلك لم تكن هناك مصادفات في عملي، فأنا من النوع العلمي، عندما أحب أن أفعل شيئًا فإنني أخطط له وأدرسه، ثم أنفذه بدراية كاملة». يضرب سعيد شيمي مثالا لما يقصده بالنوع العلمي، فعندما قرر أن يصور فيلما تحت الماء ـ وهو أول مَن صور تحت الماء ـ تعلم كيف يكون الغطس، وتدرب كثيرًا لكي يصبح غطاسًا كما ينبغي. ففي يقينه أن التصوير والعمل لا مكان فيهما للصدفة. هناك العلم والممارسة والخبرة التي سيحرص على نقلها للأجيال التالية من خلال المحاضرات والدورات والكتب التي يصدرها. البداية من تحت الماء كان سعيد شيمي يكتب من وقتٍ لآخر مقالاتٍ صغيرةً متنوعةً ينشرها في بعض المجلات، لكن التفكير في إصدار الكتب جاء بعد تجربته في تصوير الأفلام تحت الماء: «التصوير تحت الماء تجربة شاقة وشائقة، وتحتاج إلى تثقيف وتدريب ومعرفة؛ فـ«تحت الماء» وسطٌ مختلفٌ تمامًا عن «الاستوديو» أو «الشارع». لم يكن هناك إنترنت، فبدأت رحلة البحث عن المعلومات. وعندما تحصل لي ذلك الكم المعرفي الكبير في هذا الخصوص، ومارست الغوص وصورت بالفعل تحت الماء، أردت أن أنقل معرفتي وخبرتي إلى الآخرين، خاصة أن المكتبة العربية كانت خالية تماما من هذا النوع من الكتب. ومن هنا بدأت إصدار كتبي، وكانت البداية في عام 1996 بكتابي «التصوير السينمائي تحت الماء». كتب كثيرة أصدرها، لكن كتابًا منها سيخصصه لتجربته في العمل مع عاطف الطيب ويعطيه عنوان «أفلامي مع عاطف الطيب»، تقرأ الكتاب، فتتساءل: لقد عمل الرجل مع 40 مخرجًا روائيًا فلماذا يخص عاطف الطيب تحديدًا بكتاب؟ «عاطف كان زميلي في المعهد، وكان لا ينبئ بأنه سيكون شيئًا في المستقبل. كان هادئًا ومبتسمًا ولا يدخل في مناقشات. وبعد التخرج بأحد عشر عامًا، كنت أصبحت مصورًا معروفًا في السينما الروائية، وتقابلنا فطلب مني أن أصور له فيلمًا هو: «الغيرة القاتلة»، وقد نصحته بأن السيناريو ضعيف، والموضوع مستهلك. فقال لي جملة كانت السبب في أنني قبلت تصوير الفيلم والوقوف بجانبه كصديق قال: «نور الشريف ونورا ويحيى الفخراني موافقون على السيناريو، وأنا أريد أن أقول إنني مخرج». ورغم أن الفيلم لم ينجح، إلا أنني اكتشفت من خلاله أن عاطف الطيب مخرجٌ قويٌّ فاهمٌ في (التكنيك). ففرحت به، وعرفته بـ(شلتنا)؛ محمد خان وبشير الديك ونادية شكري فانضم إلينا. وبعد ذلك جاءت فكرة فيلم «سواق الأتوبيس». عاطف من أفضل المخرجين الذين عملت معهم ليس فقط من ناحية (التكنيك)، ولكن أيضًا من حيث إرادته للتعبير عن شيء ما من خلال الموضوع الذي يعالجه. والناس تعرف عاطف الطيب كمخرج لكنهم لا يعرفونه كإنسان، فأحببت أن يعرفوا الإنسان وليس فقط المخرج. وهذا أيضًا ما فعلته مع محمد خان في معرض الصور الفوتوغرافية الذي أقمته عنه، فالناس تعرف محمد خان المخرج، لكنهم لا يعرفون محمد خان الذي وراء الكاميرا». لم تكن الكتب التي ألفها سعيد شيمي هي الوحيدة التي حملت اسمه، هناك كتب لم يكن مؤلفها، لكنه كان بشخصه وفنه هو مادتها العلمية، ومنها كتاب «سعيد شيمي شاعر الصورة السينمائية» الذي كتبه أحمد الحضري. إنه كتابٌ جيد، لكن ماذا عن رأي الحضري في أن سعيد شيمي يعمل بروح الهاوي رغم أنه مصورٌ محترف؟ قبل أن يجيب، يفصح وجه سعيد شيمي عن ابتسامة رضا ويقول: «الهواية مسألة مهمة، فروح الهواية تعصم من النمطية التي قد يقع فيها المحترف؛ فالهواية تتغذى على الحب، وهذا الحب يفرض نفسه على الاحتراف بلا شك». رغبات الفنانين تتعارض خدمة الدراما أحيانًا مع رغبات الفنانين. بعضهم يريد الظهور بوجه جميل حتى لو تعارض هذا الظهور مع متطلبات التصوير، هل واجه سعيد شيمي هذا النوع من الفنانين، سيضرب مثلًا بفنانةٍ شهيرة دون أن يذكر اسمها، لكنه سيؤكد أن هذه المسألة لا تخصه فهي من اختصاص المخرج: « اعتبرت نفسي دائمًا خادمًا للدراما مثل المخرج، فلم تكن مهمتي أبدًا أن أظهر هذه الممثلة جميلة أو قبيحة. في تصوير فيلم (الحرف) مثلا، قلت لعادل إمام: «التصوير في هذا الفيلم ليس له علاقة بالتصوير الذي صورته لك في أفلام سابقة، فقال لي: هذا شغلك وليست لي علاقة». هذا ممثل فاهم. وعلى أية حال فإن المسألة تتعلق بالمخرج، فالمخرج القوي لن يفرض عليه الممثل إرادته أبدًا. لقد فقد أحمد زكي بطولته لفيلم الحريف؛ لأنه أصر على تصفيف شعره بطريقة معينة، غير التي أرادها المخرج محمد خان، وكانت النتيجة أن ذهبت بطولة الدور إلى عادل إمام». ما سبق سيفسر تلك القاعدة التي التزم بها سعيد شيمي طوال عمله في السينما وهي: (كلام المخرج لابد أن ينفذ) حتى ولو تعارض ذلك أحيانا مع وجهة نظره الشخصية كمصورٍ دارس للأدب والموسيقى والفن التشكيلي، هو يقرأ السيناريو ويعطي رأيه بصراحة، وقد يأخذ به المخرج أو لا يأخذ، إلا أنه من حسن الحظ أن عاطف الطيب و(السيناريست) بشير الديك أخذا برأيه في فيلم «سواق الأتوبيس»: «عندما قرأت السيناريو وجدت أن الأب «عماد حمدي» يعيش حتى نهاية الفيلم. قلت لعاطف الطيب: «كل هذه الأحداث، وفي النهاية يعيش الأب! إنه خطأ درامي. لابد أن يموت الأب لتصبح الدراما قوية»، وقد كان». في الحديث العذب يمر الوقت سريعًا، ماذا تفعل إذا كان أمامك مثل هذا الكنز من الخبرة والمعرفة؟ الأسئلة كثيرة، والوقت يمضي، ولا مفر من التأجيل والاختصار؛ لذلك ألقيت على عجل بهذا السؤال: مع تقدم تقنيات التصوير حاليًا هل أثر ذلك على روح الاحتيال والإبداع التي ميزت المصورين في فترة ضعف الإمكانيات؟ «لا، فمهما تقدمت التكنولوجيا سيظل العقل البشري وراءها. التكنولوجيا تسهل الأمور فقط. كان جيلي من حيث التقنية أفضل من الجيل الذي سبقه، والجيل الحالي أفضل من جيلي، لكن دعنا نقول: إن التكنولوجيا لا تصنع فنًا لكنها تساعد الفنان». يرن الهاتف الجوال لمدير التصوير، أوقف التسجيل إلى أن ينتهي من المكالمة التي استأذن في الرد عليها، في تلك الأثناء كنت أرتب سؤالًا آخر، وبمجرد أن انتهت المكالمة ألقيته: تتنوع مجالات التصوير بين مسلسلات تليفزيونية وأفلام تسجيلية وروائية، هل يختلف التصوير باختلاف نوعية العمل؟ «لا شك، لكنني بصراحة لا أحب المسلسلات بسبب المطِّ والتطويل. هذا المطُّ عكس تصوير الأفلام الذي يقوم على التكثيف والاختزال. في الأفلام أنا (الكنترول) على كل شيء في التصوير . لكن في المسلسلات عملت فقط على الإضاءة، هناك كاميرات أخرى تعمل. أما تصوير الأفلام التسجيلية فيعلمك كيف تكون فعَّالًا، ولمَّاحًا، وكيف تقتنص اللقطة بسرعة لذلك فقد استفدت كثيرًا من بداياتي في تصوير الأفلام التسجيلية وانعكس ذلك على تصويري للأفلام الروائية فيما بعد». وماذا عن اختيارك العمل، المعايير التي كان من شأنها أن تدفعك لقبول تصوير عمل ما؟ هل يتعلق الأمر بالمخرج أو بالموضوع أو بنجومية الممثلين؟ «يؤثر في اختياري للعمل: المخرج ثم سيناريو الفيلم ثم المنتج. وأعطيك مثالًا لفيلم وقعت عقده بالفعل كان المخرج هو عاطف الطيب، ولكن عندما علمت من هو المنتج رفضت العمل، ورشحت زميلا آخر. وكان الأمر كما توقعت بالضبط مشاكل لا حد لها، والنتيجة أن الفيلم لم يعرض سينمائيًا حتى الآن». يعتمد السرد الروائي على تقنية الراوي، إلى أي مدي يمكن للكاميرا أن تقوم بهذا الدور في السرد السينمائي؟ «مؤكدًا الكاميرا تقوم مقام الراوي، سأضرب لك مثلا بفيلم تسجيلي، لمخرج أحبه جدًا هو سمير عوف، في هذا الفيلم، قدم المخرج صوتًا مصاحبًا للصورة، عبارة عن حكايات بلهجة تراثية غامضة وغير مفهومة، لكن التصوير البصري هنا قام برواية الحكايات وعبر عمَّا لم يعبر عنه الصوت. ولو نظرنا إلى فيلم «ملف في الآداب» في أحد المشاهد كنا سنصور فريد شوقي وأسرته وهم ذاهبون لشراء ملابس العيد من شركة بيع المصنوعات، وطلب مني عاطف الطيب أن أبرز اسم الشركة في اللقطة، وهنا الكاميرا تقول أشياء كثيرة بالصورة». الخروج إلى الشارع الأفلام التي حمل فيها سعيد شيمي الكاميرا إلى الشارع كثيرة، ورغم الزحام والمخاطر إلا أنه أحب هذا الأسلوب في التصوير، ويقول: «أحببت هذا الأسلوب في التصوير منذ عام 1964، وتأثرت به عندما شاهدت أفلامًا فرنسية؛ لأنه يجعل المشاهد أكثر حميمية مع العمل، وهذا الأسلوب من الأساليب الحديثة التي دخلت السينما في العالم كله، إلا أنه يحتاج إلى الإتقان الشديد والتوظيف الجيد في سياق الفيلم، لقد كان خروجي بالكاميرا إلى الشارع نقلة كبيرة جدًا، لم يكن أحد يتصورها». اعتمد سعيد شيمي على طريقة الصدمة في تصويره في الشارع، فهو يجهز كل شيء لأخذ اللقطة قبل أن ينتبه المارة لوجود الكاميرا والممثل، لذلك لم تكن هناك مساحة للزيف بين الصورة على الشاشة والصورة في الواقع. ويقول: «باستثناء الممثل الناس كانوا حقيقيين وليسوا كومبارس». هذا عن الكاميرا والشارع فماذا عن الكاميرا وعشقها أو نفورها من وجوه الممثلين؟ «حب الكاميرا لممثل أو ممثلة مسألة حقيقة، ومضبوطة، وهو ما ندعوه بالـ«فوتو جينيك» أي الصالح أو الملائم أو الجذاب للتصوير. أحمد زكي وهو أفضل ممثل مصري رأيته في حياتي، كان من هذا النوع، فقد كان بوسعه أن يعطي الكاميرا ما تريد بتعبير بسيط من عينيه. الكاميرا تعشق بعض الوجوه وتجعلها جميلة، وتنفر من أخرى وتشوهها. ومن أجل ذلك تجرى اختبارات التصوير لمعرفة مدى ملائمة الممثل للكاميرا والتمثيل». ساعتان ونصف الساعة هي مدة هذا الحوار، وكل ما حملته سطوره من معلومات وآراء وحكايات، كانت غيضًا من فيض هذا الفنان الكبير، الذي عشق التصوير السينمائي منذ صباه، وأعطاه عمره دراسةً وسعيًا وممارسةً، فانفتحت أمامه سجلات السينما والتاريخ لترحب باسمه عن جدارة وتقدير في سجل الخالدين.