عبدالحميد بن حميد الرواحي - لقد أسلفنا في شرح القانون السابق أن النعمة هي كل ما يتنعم به الإنسان ويخاف أن يفقده سواء نعمة ظاهرة أو باطنه ويؤدي شكرها (بتسخيرها فيما يحبه الله) إلى زيادتها ونمائها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، وفي هذا القانون يذكر الكتاب العزيز أن كفران هذه النعم (بتسخيرها في عمل المعاصي) يؤدى إلى فقدانها وحلول المصائب المعبر أيضا عنها في كتاب الله بـ (الضر) إذ لا يصيب الإنسان العاصي شيء منها إلا ببعض ما كسبت يداه ليتوب ويؤوب (وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)، وقد توعد الخالق العظيم بأن لا فوت لأحد من العصاة من قبضته (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ) وتوعد كل مسيء أن العذاب الأدنى آت منه سبحانه إن لم يتب وهذا رحمة من الرحيم ليعيد عباده إليه قبل الممات ودخول النار (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وهذا ينطبق على الفرد وعلى المجتمع بل والعالم بأسره (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) وأنظر إلى الآية حين قال (ليذيقهم بعض الذي عملوا وليس كل الذي عملوا) وهذا رحمة منه سبحانه إذ لو آخذنا على الكل (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ)، وكذلك أنظر أيها الأريب في المثل الذي ضربه الله في القرية التي كانت شاكرة لله مؤمنة به مستقيمة على أمره كيف كانت آمنة مطمئنة ولكن حين بدلت الشكر بكفر النعمة بدل الله عليها (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ).. هذه القرية كفرت بأنعم الله ولم يقل كفرت بالله فلم يغنها ذلك شيئا حين عصت.. إن آيات الكتاب العزيز تشير إلى أن سحب هذه النعم من العصاة يتم شيئا فشيئا وتشتد آيات الضر تصاعديا باستمرار الإنسان في المعاصي (وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً) فتكون حياته بذلك في تعاسة وضنك مما يجعله أمام خيار واحد وهو أن يستجيب لفطرته فيركع طالبا الرحمة ويقطع على نفسه المواثيق والعهود مخلصا لله الدين بالاستقامة والشكر ولو كان كافرا (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ). إن هذه المشاهد تتكرر كل يوم بين أعيننا..فلان عادته لا يصلي ولا يقرأ القرآن وتلك المتبرجة البعيدة كل البعد عن دين الله وفي غمرة المعاصي يأتي الله بأمره فيصيب فلانا هذا أو فلانة بالضر فقد يكون مرض فيهما أو في أحد أبنائهما فإذا بهما يتحولان جذريا من الغفلة إلى الذكر وكأنهما من عباد الله المتقين فيدعوان الله بإنابة قاعدين وقائمين بل ويقومان الليل ويتركان ما هم عليه وربما يبكيان ولا ترى فلانا إلا ويسابق الناس في الجماعات ثم يبدآن في قطع العهود بينهما وبين الله بعدم العودة على ما كانا عليه قبل دخول ابنهما للمستشفى ويسألان الله أن ينقذ ولدهما بتبتل وتهجد وربما نذرا بنذور تكون عليهما إن سلم الله ولديهما...ولكن ماذا بعد استجابة الله لهما.. معظم الناس ينسون هذه العهود والنذور ويعودون لما كانوا عليه من فسوق وضلال وكفران (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، نعم يمر الإنسان كأنه لم يدع ربه ولم يعاهده بشيء (وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، (وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً) بل وأشد من ذلك فقد يرجع الإنسان كشف الضر هذا إلى أحد من مخلوقات الله أو إلى علمه هو وقوته (فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)، (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) وينسى أن الله هو الذي قدر عليه المصيبة وهو الذي كشف عنه الضر (مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ). ولقد ضرب الله لنا المثل بالأمم السابقة كيف وعدت الله ثم نكثت وماذا أصابها فهذا الضر يصيب فرعون وقومه (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ) فإذا بهم يجأرون ويلجأون إلى موسى بالعهود والمواثيق «وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ»، «فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ» فماذا كانت النتيجة بعد هذا ..إنه الانتقام «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ»، وكذلك لنا في قارون عبرة حينما أغدق الله عليه ثم أعاد النعمة إلى علمه فجره ذلك إلى البغي «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ». أجزم أيها العاقل الفقيه أنك بدأت تتفكر فيما يكون بيننا من ضر ومصائب وما قد مر علينا وعلى مجتمعاتنا وما ربما نعانيه حتى الآن في هذه الحياة فإذا به لا يخرج عما جاء به القرآن قيد أنمله، أجزم كذلك بأن سؤالا يراودك الآن قائلا: وماذا عن ابتلاء الله للمؤمنين؟؟ أولسنا نبتلى في هذه الحياة؟؟ ألم يقل الله ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع...الخ)؟؟ إن كتاب الله كما توعد العصاة بالضر فقد ذكر المؤمنين كذلك بأن طريق الإيمان وإن كان به الانشراح والتأييد والنصر إلا أن اختبارات الإيمان قادمة لا محالة ليتبين الصادق من الكاذب والمطيع من العاصي والصالح من الطالح «أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ» وأن الابتلاءات لا مناص عنها «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»، وهذا لجميع الأمم التي أعلنت الإيمان «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» بل وحتى الأنبياء فهم أشد الناس بلاء ثم الذين يلونهم فهذا نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم لاقى ما لاقى من المكذبين فصبر حتى أظهره الله وذلك نبي الله أيوب عليه السلام يبتلى بالمرض ابتلاء طويلا مزلزلا فيخرج بالفلاح والفوز «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ».