حقوق الطفل بين شرع الله وتجاوز البشر -
فوزي بن يونس بن حديد -
abuadam-ajim4135@hotmail.com -
لقد حفظ الإسلام حياة الإنسان منذ تكوّنه في بطن أمه، وأمر المسلمين في كثير من الآيات بذلك، وجرّم الإجهاض؛ لأنه اعتداء على الجنين، وحرّم الاعتداء على كل من خلق الله فيه روحًا، تحت أي مسمّى، كمسمّى العار إن جاء المولود عن طريق الزنا، أو مسمّى العوز والفقر أو مسمّى التشويه في الخِلقة، فالذي خلق الكون هو الذي يرزق الطفل مهما كانت حالته.
لذلك كان الإسلام حريصًا على حياة الإنسان منذ أن كان جنينا وإلى أن يصير شابًا يافعًا، وحرّم الاعتداء عليه بشتى أنواع الطرق، سواء بالتحرش أو الاغتصاب أو القتل؛ لأن ذلك جرم كبير ومقرف ينبذه ديننا الحنيف الذي يحترم الحياة ويسعى إلى تأصيل العلاقات بين البشر في إطار من البنود الإلهية تعدّ خطوطًا حمراء لا يمكن لأي إنسان أن يتعداها ومن يتعداها فقد ظلم نفسه، وعندما ننظر إلى الآيات الكريمة الكثيرة والمتنوعة التي تحرّم قتل الإنسان أو الاعتداء عليه بأي وسيلة نتبين أن الله تعالى رحيمٌ بعباده يريد أن يعيش كل منا حياته ويقضيها بمتعة وتسلية ولا يحقّ لأي كان أن يحاول إزهاق روحٍ خلقها الله تعالى لتحيا، فقد قال تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا» وقوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ» وقوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ». ولقد وردت السُّنة كذلك بتغليظ تحريم قتل النفس التي حَرَّم اللهُ إلا بالحق؛ سواء كانت نفسًا مُسْلِمة أو نفسًا كافرة؛ فإنه لا تَلازُمَ بيْن وصف الكفر وبيْن جواز القتل؛ فقد يكون الإنسان كافرًا ومع ذلك يكون معصوم الدم والمال، وهي المسألة التي اختلطت على الكثيرين، فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ في الدِّمَاءِ)، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصِنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَنْ يَزَالَ المُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ، مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا) وقال ابن عمر: «إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الأُمُورِ، الَّتِي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا، سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ»
وبعد أن جنح الإنسان مرة أخرى إلى الجاهلية الأولى من خلال تصرفات غير إنسانية نتيجة ضعف الوازع الديني وغياب الضمير الإنساني، همه إشباع رغباته ونزواته، وإرواء نهمه الجنسي ونزوعه للعنف والقوّة بعد انتشار تعاطي المخدرات وأنواع الحشيش، أصبح يبحث عن فرائس سهلة للانقضاض عليها وإشباع غرائزه بكل قسوة دون أي اعتبارات إنسانية للضحية، فقد يكون الضحية طفلًا صغيرًا أو بنتًا أو امرأةً تحمل منه فيتكون الجنين في بطنها وبعدها إمّا أن ترميه أو تقصيه من الحياة أو تلده معافى أو مشوّها، وبالتالي تضيع حقوقه الإنسانية وأبسطها طبعا الحياة الطبيعية والبقاء معافى من أي اعتداءات خارجية، وتكثر الجرائم المتنوعة وتنتشر بصورة مرعبة، وإذا لم تكن هناك قوانين صارمة في البلدان التي تعاني هذا الهيجان، فإننا سنشهد انهيارًا كليًا في التركيبة الاجتماعية وشرخًا عظيمًا في الحياة الأسرية، وعنفًا شديدًا في العلاقات البشرية، فهم يتصرفون مثل السكارى، وما هم بسكارى ولكن مفعول المخدرات والحشيش واللاوعي بتعاليم ديننا الحنيف ومبادئه وانهيار قيمه سيكون شديدا لا محالة ووقعه أليم على حياة أجيال بأكملها.
وعندما أدرك العالم حجم المعاناة بدأ يتدخل اليوم وينشئ ما يسمى باليوم العالمي لحقوق الإنسان واليوم العالمي للطفولة؛ لأن العالم أصبح يموج في الفتن ما ظهر منها وما بطن، مما استدعى حقا التدخل الفوري من العالم أجمع ومن الفقهاء خاصة لتطويع الفقه الإسلامي والنظر إلى جزئيات المجتمع الإنساني لبلورة قوانين جديدة تحد من التصرفات البهيمية والعدوانية التي تتعرض لها فئات ضعيفة في المجتمع، وينشئون فقهًا جديدًا يتطور حسب الحاجات البشرية التي تستغيث كل يوم بالمنظمات الدولية، وهي بحاجة إلى غطاء شرعي قوي يحد من نزيف العصابات والمافيا التي تهوى العبث بالطفولة وتحرجها وتعتدي عليها بكل قسوة وعنف، وكذلك المرأة التي تتعرض لأنواع بشعة من الاغتصاب والعنف الجسدي وتستغلها عصابات الدعارة والعهر للحصول على المال بأي ثمن، ومن ثم ينبغي على فقهاء الأمة الجلوس على الطاولة وبحث الموضوعات المتعلقة بالانتهاكات بتعمق وجدية وإصدار فتاوى وقوانين بالتعاون مع رجال القانون والخبراء المعروفين والمتخصصين في مجال العقوبات وذوي الخبرة في الإيذاء الجسدي والنفسي، وما يلزمها من عقوبات صارمة تتبناها الدول وتجعلها ميثاقًا توقع عليه وتلتزم به.
ونتيجة لهذا العبث المتواصل والاستهتار برجال الدين وتحدي الشارع ظهرت الجرائم بكل أنواعها ونتيجة لذلك أيضا احتفلت الأمم المتحدة قريبًا باليوم العالمي للطفل، وبهذه المناسبة أوصت جميع البلدان بأن تهتم بالأطفال تعليمًا وتدريبًا وتأهيلًا وإشراكًا في الحياة العامة وحتى السياسية والاقتصادية والأخذ بآرائهم ومقترحاتهم، وإبعادهم عن شبح الحروب والدمار والخراب الذي حلّ بعالم اليوم، واضطرّ كثير منهم إلى الهجرة السوداء، مما ألحق الضرر بهم وهم صغار، فكثير منهم اليوم يتعرّضون للانتهاكات الجسدية والجنسيّة، والاستغلال المهني والتجارة الرخيصة في سوق الاتجار بالبشر، وهو الملف الخطير الذي لم يغلق إلى حدّ الآن، وما زال الاستعباد والاسترقاق ظاهرة خطيرة تؤرّق العالم وتديره المافيا وتزدهر به السوق العالمية في ظل الصراعات الأتنية والطائفية والقبلية التي تمرّ بها البلدان العربية والإسلامية، ورغم أن الإسلام حرّم الاتجار بالبشر وجرّم الانتهاكات أيًّا كان نوعها خاصة تلك المتعلقة بالأطفال إلا أننا نجد البلدان الإسلامية تعاني من هذه التصرفات البذيئة تجاه العناصر الطرية الظريفة، التي لا تقوى على المواجهة والدفاع عن النفس.
ورغم القوانين العالميّة والإقليميّة والمحليّة، إلا أننا مازلنا نشهد انتهاكات خطيرة ومؤلمة للأطفال، وتستغل المافيا العالمية الوضع الهشّ للكثير من البلدان فتعمل على إلحاق الضرر بالأطفال الفئة الأضعف في المجتمع وتعمد على الاتجار بهم واستغلالهم جسديًّا ونفسيًّا وجنسيًّا دون مراعاة لأبسط حقوق الإنسان، ودون حياء أو خجل؛ لأنه ليس هناك تتبّع ومراقبة شديدة ولصيقة لعناصر المافيا وليست هناك عقوبات مشدّدة لما يقوم به هؤلاء، فالربح المادي والجشع والطمع هو الذي يغري الناس على حساب القيم والمبادئ والأخلاق والأعراف، وكلها تدخل في عالم يموج بالمتحوّلات والمتغيرات الشيطانية هدفها الاستيلاء بالقوة على المشهد العالمي الذي أصبح مخيفًا جدًا بل ومرعبًا إلى حد كبير، يستدعي التدخل سريعًا على مستوى منظمات ودول وكيانات حتى نحمي الطفولة من هذه الهجمة الشرسة اللاأخلاقية والمعتدية على حقّ الحياة والعيش بكرامة.
فالطفل يعيش اليوم أسوأ أحواله في ظل حروب همجية وعبثية طالت المنطقة العربية، هدفها التدمير والتخريب، فضاع الطفل فيها وتاه بين الهجرة القسرية والتعرض للقنابل الصوتية والانتهاكات الجسدية وإجباره على حمل السلاح والعمل المتواصل بثمن بخس ودراهم معدودة لا تشفي غليله ولا تطفئ جوعه، وليست هناك منظمات أو كيانات جدية تهتم بالطفل اليوم حتى تحفظه من هذه الهجمات المريعة التي يتعرض لها، أمام قوة المافيا الشرسة التي تستغل المواقف دون رحمة ولا شفقة ولا عناية ولا اهتمام.
فلا ننسى ذلك الطفل الذي قضى على مشارف بحر تركيا هربًا من جحيم القصف العشوائي في سوريا وتعرّضه لانتهاكات داعش، ونتذكر جيدًا محمد الدرة الذي قضى برصاص الاحتلال الصهيوني في مشهد مرعب ومخيف، ولا ننسى الطفلة اليمنية التي تُزف إلى رجل يكبرها بخمسين سنة وهي لا تعرف إلى أين ذاهبة، ولا ننسى الطفلات اليزيديات اللائي استغلهن داعش جنسيًا تلبية لرغباته الحيوانية، ونتذكر جيدًا عدد الأطفال السوريين المهول الذين قضوا غرقا في البحر الأبيض المتوسط، ولا ننسى تجنيد داعش والحركات المسلّحة المتمردة في العالم للأطفال، وهم في ريعان طفولتهم، ونتذكر جيدًا إهمال الحكومات للأطفال حينما تركوهم عرضة للتجارة في يد المافيا العالمية، وحتى المحلية ولا ننسى أطفال السودان وأطفال الصومال المشردين والمتسولين والمجنّدين للعمل اليومي المرهق من أجل لقمة عيش بخيسة الثمن.
كل ذلك نتذكره ونضعه اليوم على طاولة فقهاء الأمة الإسلامية لعلها تستفيق، وأمام الحكومات العربية التي تتلظى بوزر ما يُفعل بأطفالها اليوم من إهمال حقيقي كانوا عرضة للانتهاكات بجميع أنواعها رغم جدية بعض الحكومات العربية في اتخاذ تدابير حازمة وصارمة ضدّ من تسول له نفسه الاتجار بالبشر أو انتهاك الطفولة، لكنها محاولات خجولة في ظل تعامي العالم والأمم المتحدة والمنظمات الدولية عن ما تفعله إسرائيل مثلًا بالأطفال الفلسطينيين يوميّا من اعتقال تعسّفي واعتداء متعمّد وحرمان من الحقوق المعروفة بل ومن أبسط الحقوق، كحق الحياة وحق التعليم وحق الصحة، فالطفل اليوم عمومًا يستغيث ويستجدي هذه المنظمات والمجمعات الفقهية وعلماء الأمة الإسلامية لتخليصه مما يعاني من آلام مبرحة جسديا ونفسيا واقتصاديا واجتماعيا فلله الأمر من قبل ومن بعد.
مراعاة الجوانب الفطرية للإنسان -
د. سعيد بن سليمان الوائلي - كلية العلوم الشرعية - مسقط -
لقد أتى الدين الإسلامي في تشريعاته بما يحقق للحياة الإنسانية كيانها، ويثبت لها مقومات وجودها من نشأتها إلى نموها وتطورها، وصاحب ذلك التشريع من المظاهر والخصائص ما يدل على الإعجاز التشريعي، التي من بينها: مراعاة الجوانب الفطرية للإنسان، ذلك الإنسان الذي خُلق ضعيفًا في تكونه وفي طبيعة حياته، مع ما جعل الله له من تكريم وتفضيل على كثير ممن خلق الله، وما هذه المراعاة لجوانب الحياة الإنسانية بكل أجزائها، وما فيها إلا فلسفة عملية للحقوق التي جعلت لهذا الإنسان.
ويكفي في ذلك أن ننظر إلى أن التشريع الإلهي لم يترك جانبًا من جوانب الحياة المتعلقة بالكائن الإنساني إلا وأحاطه بما يناسبه من أحكام شرعية تكفل للإنسان حقوقه المتعلقة بصلاحه وما يصلحه، سواء في ذلك المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وفي الإطار الخاص والعام.
فالإنسان جدير بالحياة الطيبة والعيشة الصالحة، ويكون كذلك عندما يرتبط الإنسان بما له من حقّ ظاهر وباطن، فيما كفله له الدين الرباني، لذلك يدرك كل إنسان هذا الحق عندما يرتبط بتشريعات الدين الإسلامي، بحيث يكون ممن آمَن بربِّه، وعرَف غايته، وتبيَّن مصيره، وأيقَن بمبعثه، فعرَف لكل ذي حقٍّ حقَّه، فلا يَغمَط حقًّا، ولا يؤذي مخلوقًا.
إن هذه الحقوق الإنسانية التي تستنبط من نصوص الدين وتشريعاته، إنما تحمل من أصول ربانية في مصدرها وغايتها، حيث لم تنتج عن رأي بشري أو نظام وضعي أو فكر فلسفي.. ذلك لأن الدين الإسلامي مستمد من مصادره المعلومة التي على رأسها الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَـابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَل مُّبِينٍ)، فمن جهة التشريع هو من عند ربنا تبارك وتعالى، فمصدرها واضح، وأصولها واضحة، ومن حيث الهدف والغاية فهي ربانية؛ لأن في تشريعها يقصد بها وجه الله تعالى ورضوانه، حيث ينطلق صاحبها من منطلق إيماني بنية خالصة وإيمان صادق، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ولو نظرنا إلى حقوق الإنسان من زاوية بعيدة، لوجدنا أن تلك الحقوق من مبدئها إلى نهايتها، تلك التي تبدأ من حق الحياة إلى الحقوق المتصلة بكل مجالات الحياة الروحية منها والمادية، لها منطلق وأصول في الإسلام القويم، حيث تتجلى النصوص الشرعية ببيان خلق الإنسان وإيجاده إلى هذه الحياة مع تسخير لمقومات العيش فيها بما يحفظ وجود الجنس البشري واستقرار كيانه، وتوفير متعلقات الحياة بصورة تجعله مدركا للنعم وممتنا بها على من يسرها وسخرها، بل وجعل الشرع الشريف من مقاصد التشريع حفظها وجودًا وحفظها من التلف عدمًا.
ولنا بعد ذلك أن ننظر إلى تفاصيل معينة تربطنا نوعًا ما ببعض مجالات الحياة التي تثبت للإنسان حقوقه بأصول شرعية في دين الله تعالى، وهي على سبيل المثال لا الحصر، ويمكن أن يقاس عليها ما لم يذكر من الحقوق في المجالات الأخرى. فمن حقوق الإنسان فيما يتصل بالجوانب الإيمانية من التصديق وما يتبع ذلك من المعاني المستقرة في القلب، فقد كفل له الإسلام حق الاقتناع والرضا بما يؤمن به الإنسان من غير إكراه ولا ضغوط مادية. مع ما للإيمان من الأهمية البالغة في الدين.
ويتبع ذلك حقه في التخلق بروح التقوى والإخلاص واليقين، ومعنى التوكل والإخبات للرب المعبود سبحانه. ويجعل الإسلام هذا الحق بترغيب وتطميع للإنسان فيما يناله من الخير بالتزامه بذلك الجانب، وقد تأتي النصوص مصحوبة بترهيب من عدم تحقيق الأمر.
وفي مجال العبادة العملية، جعل للإنسان الحق فيها حتى يتمكن من أداء شرائع الدين وشعائره بدون إيذاء أو حرمان، ليتمكن من طاعة الله تعالى بامتثال ما أمر به وأخبر به عنه الرّسل والأنبياء عليهم السلام.
وقد أتت النصوص تصف الناس بالعبادة وأنهم عباد لله، بل وصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأنه عبد الله ورسوله، واختص قوما بأنهم عباد الرحمن لأوصاف خاصة، هذا بجانب الآيات الآمرة بالعبادة من مثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وقوله: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا)، (ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ)، وغيرها...
فيوصف الإنسان بأنه عبد وعابد ومن العباد، إذا ما حقق معنى العبودية لله تعالى في امتثاله الأوامر بالفعل، ويبتعد عن النواهي بالترك لها.
وفي مجال السلوك، تأتي حقوق الإنسان مكفولة ومحفوظة، ليسلك الإنسان ما يريد مع تحمله لنتيجة سلوكه واختياره، وبالنظر إلى أن حقه ينتهي بدائرته حتى لا يتخطى إلى غيرها ولا يتعدى على حقوق الآخرين.
وكذلك حقوق الإنسان في متعلقات العلم والمعرفة، أو إلى جانب التحصيل فيما يكوّن شخصية الإنسان الفكرية الثقافية، وما يترتب عليه من مقتضى العمل والتطبيق بعلم، وقد راعت الشريعة الإسلامية هذا الحق وحفظته لكل إنسان فيما دعت إليه ورغبت فيه من طلب العلم، الذي يعد واجبًا على كل فردٍ حسب موقعه وقدراته، إلى مندوب وغيره من أحكام أخرى.
وتتعدد مجالات طلب العلم ولكن أهمها هي العلوم الشرعية التي يُسأل عنها العبد يوم القيامة، فمعرفة الأحكام المتعلقة بالعبادات من العلوم التي يجب على كل مسلمٍ تعلّمها لأنها تقود إلى تأدية الفرائض والعبادات بالشكل الصحيح.
ومن نصوص الشريعة ما يخص بالذكر الذين يعلمون، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)، (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)، ومن الأحاديث: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»، وحديث: «من تعلم العلم لله عز وجل وعمل به حشر يوم القيامة آمنا ورزق الورود على الحوض»... وغيرها.
وكذلك ما يتصل بالعمل بالعلم، فعلى المتعلم مسؤولية عظيمة، وهي متفاوتة بحسب ما عنده من العلم، وبحسب حاجة الناس إليه، وبحسب طاقته وقدرته.
وفيما يتعلق بالأسرة والمجتمع، فهنالك حقوق كثيرة جعلت مرتبطة بمن يتعامل معه الإنسان من أفراد الأسرة وأبناء المجتمع، فإن سلوكه معهم ينطلق من أخلاق معينة، تحفظ الحقوق في إطارها اللازم لها من حق الإحسان الذي يشمل الوالدين وغيرهما من أفراد الأسرة كالأزواج والأولاد والأخوة والأخوات والأرحام والأقارب، بل يتعدى ذلك إلى حقوق الجيران، وهكذا بقية أفراد المجتمع.
وحق التعاون والمساعدة، الذي يكون عملًا إنسانيًا يتشارك فيه مجموعة من الناس من أجل تحقيق أهدافهم ليشمل جميع جوانب الحياة من الأسرة إلى غيرها.
ومن النصوص الشرعية في ذلك: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) «المائدة: 2».
وقد جعلت له ضوابط مهمة، منها: أن يكون التعاون على الحق، وأن يكون على علم وبصيرة، وألا تترتب عليه مفسدة، وألا يترتب عليه محظور شرعي.
وفي المجال الاقتصادي والمالي، فللإنسان حقوق عديدة أيضا، منها حقه في الكسب والتملك والإنفاق، ولكن هذه الحقوق جعلها الإسلام الحنيف مصانة بأطر وضوابط، وحدود لا يمكن أن تتعدّى، لتكون في صورتها بلا إفراط ولا تفريط، وبالوسطية المقبولة شرعًا وعرفًا.
وكذلك الحقوق المتعلقة بمجالات الصحة، وما يرتبط بالبيئة، حيث يضاف إلى الإنسان شيئًا من مجالاتها، فقد حفظ الإسلام حقوق الإنسان في صحته وعافيته، وقد أتت الشريعة الإسلامية لحفظ النفس البشرية في شتى جوانبها، ومن بين تلك الجوانب المهمة: صحة الإنسان سواء صحته النفسية أو العقلية أو البدنية، حيث إن من المقاصد الشرعية: حفظ العقل والنسل، ومنع الأضرار بهما بأي شكل من الأشكال.
ولهذا لم تغفل الشريعة الإسلامية تشريع كل ما يثبت حقوق الإنسان في الجانب الصحي في حياته، ومن النصوص: ما جاء في حديث: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ...»، وحديث: «اللهم عافني في بدني، اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت». وشرعت النظافة والطهارة، وحثت على الوقاية التي يراد بها: جميع الوَسائل المُتَّخذة للحماية من الأَمْراض كالتَّطهير والتَّلقيح وعَزْل المريض.
وفي مجال العمل والمهنة للإنسان حقوق، فمن حقه قيامه بالعمل المهني الذي يزاوله لكسب الرزق، وجعلت من أجل ذلك مجموعة من الأخلاق التي يتحلى بها، عند مزاولته لمهنته أو حرفته، ويمكن تأصيل ذلك بالنظر إلى الأصول الشرعية، حيث نجد تلك الأخلاق مسطرة في نصوصها، كتحمل المسؤولية في المهنة والعمل، والإتقان للعمل الذي يقوم به، والانتهاء منه بأفضل صورة وعلى أتمّ وجه، ويكون ذلك ببذل الجهد، والبعد عن التراخي في العمل. هذا طرف مما يتصل بحقوق الإنسان من جهة التشريع في الدين الإسلامي الذي ارتضاه الله تعالى للإنسانية، ولو أدرك الإنسان ما جعل له من حقوق، وما شرع لمصلحته من حدود لتضاءلت أمامه الواجبات التي يؤديها في حق خالقه الذي أكرمه بما أكرمه به من النعم وما يسّر له من تسخير الكون في مصلحته.. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.