حذر من الركون للماضي باجتراره للمباهاة بأمجاده - عاصم الشيدي - عندما قال جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور، طيب الله ثراه، في أول خطاب وجهه للعمانيين «كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي» كان واضحًا أنه يحمل فكرًا حديثًا لكنه غير منبت عن ماضيه، فعمان الدولة الحالمة بنهضة تجعلها تعيش العصر بكل تجلياته لا يمكن أن تتجاوز تاريخها وحضارتها القديمة الممتدة لأكثر من خمسة آلاف سنة. واستطاع السلطان الراحل بنجاح كبير أن يبني دولة مزجت ووازنت بين الأصالة والمعاصرة، وهذا مما يستطيع أي زائر لعمان ملاحظته منذ العتبات الأولى في عُمان. وقد لعبت تربية السلطان قابوس -طيب الله ثراه- ودراسته للتراث والتاريخ العماني دورًا محوريًا في ذلك، ولم يقتصر الأمر على خدمة التراث والتاريخ العماني فحسب بل إن اهتمامه امتد للتراث والثقاف الإنسانية الأمر الذي أشادت به اليونسكو في غير مرة، وفي 20 نوفمبر من عام 1994 قدمت المنظمة وسام «اليونسكو» للسلطان قابوس في الذكرى الأربعين لإعلان النداء العالمي لحقوق الإنسان وذلك تقدير له لما قدمه لخدمة قضايا السلام والعدل الدوليين وفق ما جاء في مبررات منح الوسام. وكانت السلطنة أول دولة في العالم العربي تنشئ وزارة خاصة بالتراث، حدث ذلك في وقت مبكر من عمر عُمان الحديثة، حيث أصدر السلطان -طيب الله ثراه- مرسومًا في عام 1976 قضى بإنشاء وزارة التراث القومي والثقافة. كان الهدف في ذلك الوقت المبكر، وعُمان تشهد حراكًا نحو الحداثة ألّا تفقد البلد هويتها الحضارية وتراثها العريق، في لحظة توقها للحداثة والتمدن. وفي العام التالي أصدر السلطان -طيب الله ثراه- مرسومًا آخر يتعلق بحماية المخطوطات العمانية والحفاظ عليها وعدم السماح لها بالخروج من عُمان. وشهدت الأعوام التالية حركة طباعة كبيرة للمخطوطات العمانية، كان الهدف الأول في تلك المرحلة حفظ المخطوطات بطباعتها وإنقاذها من التلف. وجمعت عشرات الآلاف من المخطوطات من الحارات العمانية ومن الأضاميم المنتشرة في البيوت القديمة. ويزيد عدد المخطوطات العمانية الموجودة في دار المخطوطات بوزارة التراث والثقافة اليوم على خمسة آلاف مخطوط، فيما يقدر الباحثون عدد جميع المخطوطات العمانية المكتشفة بـ65 ألف مخطوط متوزعة بين المؤسسات الرسمية والمكتبات الخاصة ومع الأفراد. بقيت خطابات السلطان الراحل -طيب الله ثراه- في كل المناسبات مؤكدة على أصالة البلد وعراقته وأن تلك الأصالة لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها في سياق تحديث المؤسسات والمشهد العام في البلد. ولذلك نجده يقول -طيب الله ثراه- في خطابه عام 1980 «إن قوتنا لا تكمن في الازدهار المادي وحده، بل إن قوتنا الحقيقية تكمن في التراث العماني العريق وشرائع ومبادئ ديننا الإسلامي الحنيف». وفهم العمانيون كما فهمت مؤسسات الدولة مكانة التراث العماني في فكر الدولة التي يقودها السلطان قابوس ولذلك حظيت كل تفاصيله بالعناية الخاصة. وفي خطاب للسلطان في أكتوبر من عام 1985 قال: «من المعروف، وهذه كلمة تقال دائما ولا بأس أن نقولها: إن الذي ليس له ماض ليس له حاضر ولا مستقبل، وأن من نسي تراثه وتاريخه لا بد أن ينساه الناس، يصبح كالإنسان الذي لا يعرف أبويه ويصبح مشردًا لا أحد يعرف عنه شيء، ولا أحد يعرف أصله، ويكون كما نقول طفيليا، ومن هذا المنطلق كان اهتمامي أنا الشخصي واهتمام حكومة السلطنة، وأيضا اهتمام الشعب العماني ككل بتراثه وتقاليده فهو ينظر إلى ماضيه ليستمد منه مستقبله، حاضره يعيشه، لكن القصد هما جناح الغابر وجناح المستقبل وبهذا فإن الإنسان العماني قد عمل على أن المدنية بما فيها من خير وشر أحيانا لا تفقده هويته، وهذا من أهم الأمور للاهتمام بالتراث، التراث هو الإنسان ذاته قبل كل شيء». ونشطت في عمان حركة إحياء التراث عبر المخطوطات وعبر ترميم القلاع والحصون المنتشرة في كل ربوع عمان والتي ينظر لها العماني باعتبارها علامة من علامات عراقة بلده وبالتالي عراقته ومصدر فخر واعتزاز له ولأبنائه من بعده. وكان إعلان السلطان قابوس -طيب الله ثراه- تخصيص عام 1994 ليكون عامًا للتراث دليلًا واضحًا على اهتمامه ورعايته الشخصية للتراث العماني، ويتضح فكره في ذلك في قوله في الخطاب الذي ألقاه في الاحتفال بالعيد الوطني عام 1994: «إن الرغبة في بناء دولة عصرية تأخذ بأحدث أساليب العلم والتقنية لم تجعل هذا البلد الأصيل يتنكر لتراثه العريق وأمجاده التليدة، بل سعى دائما إلى مزج الحداثة بالأصالة، ففي الوقت الذي أقام فيه المنشآت الحديثة في مختلف مجالات الحياة أولى اهتمامًا كبيرًا للمحافظة على تراثه المعماري بترميم القلاع والحصون والبيوت الأثرية، كما عمل على إحياء موروثه العلمي والثقافي من خلال جمع المخطوطات، ونشر الكتب الدينية والأدبية واللغوية التي أسهم بها علماء عمان وأدباؤها في حركة الثقافة العربية على امتداد العصور». مضيفا في السياق نفسه قوله: «إن تخصيص عام للاحتفاء بالتراث كان وسيلة قصدنا بها تركيز الاهتمام به، وإذكاء جذوة التقدير له في نفوس المواطنين، وتعميق شعور دائم في أعماقهم لا يخبو أبدا، بأن حاضرهم موصول بماضيهم وأن مستقبلهم إنما هو نتاج جهدهم في ذلك الماضي وهذا الحاضر، وأنه بقدر ما يسهم به كل فرد منهم من فكر متطور، وعلم متقدم وفن متحضر وعمل مفيد مثمر، يكون مستقبل هذا الوطن أكثر إشراقًا وبهاءً وأغدق خيرًا وعطاء وأعظم ازدهارًا واستقرارًا». ولم يقتصر الاهتمام بتراث الإنسان العماني العناية بالقلاع والحصون والمخطوطات بل شمل الأمر كذلك العناية بالفنون العمانية المغناة وكذلك بجمع الموسيقى العمانية التقليدية جمعا دقيقا وحفظها وأرشفتها وانشأ من أجل ذلك مركزا خاصة هو مركز عمان للموسيقى التقليدية. كما شجعت الدولة في احتفالاتها الوطنية والرسمية الفنون الشعبية التي ما زالت حاضرة في المشهد العماني دون تغيير رغم المساحة الحديثة التي تعمق فيها الشعب العماني ولكن كان على الدوام محافظا على ثنائية «الأصالة والمعاصرة» وهي الثنائية التي أخافت الكثير من الشعوب في ظل طغيان ثقافة العولمة. وكان الاهتمام العماني بالتاريخ والتراث العماني قد لفت أنظار العالم للمنجزات الحضارية العمانية عبر التاريخ، ولذلك أدرجت قلعة بهلا بولاية بهلا في محافظة الداخلية ضمن مواقع التراث العالمي في عام 1987اضافة إلى واحتها بأسواقها التقليدية وحاراتها القديمة ومساجدها الأثرية وسورها الذي يبلغ طوله ما يقارب 13 كلم ويعود تاريخ بنائه إلى فترة ما قبل الإسلام. ويعود تاريخ قلعة بهلا إلى الألف الثالث قبل الميلاد، وبذلك تكون قلعة بهلا من بين أقدم القلاع في عمان، وقد أعيد ترميمها بإشراف مباشر من اليونسكو. وفي العام التالي لإدراج قلعة بهلا ضمن قائمة التراث العالمي أدرجت ضمن نفس اللائحة مقابر ومدافن بات في ولاية عبري، ويعود تاريخ هذه المدافن إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وفي عام 2000 سجلت مواقع طريق اللبان في محافظة ظفار ضمن سجلات التراث العالمي. ويضم موقع طريق اللبان عددًا من المواقع التي أشرفت على عملية تصنيع وتصدير اللبان للعالم. وفي عام 2006 أقرت لجنة التراث العالمي إدراج خمسة أفلاج عمانية ضمن لائحة التراث العالمي تعبيرًا عن المكانة الدولية لهذا النظام المائي الفريد الذي يشكل موروثًا حضاريًا أبدعه العمانيون منذ ما يزيد عن ألفي عام كأقدم هندسة ري بالمنطقة ولا يزال المصدر الرئيسي لمياه الري في السلطنة ومورد مائي يعتمد عليه في معظم المدن والقرى العمانية ويندر أن يوجد مثيل له في مختلف دول العالم. وكانت الأفلاج هي فلج دارس الذي يعتبر من أكبر الأفلاج في السلطنة، وفلج الخطمين في نيابة بركة الموز ويبلغ طوله 2450 مترًا. وكذلك فلج الملكي ولاية أزكي بمحافظة الداخلية ويعتبر هذا الفلج من أقدم الأفلاج الموجودة بالسلطنة. وفلج الميسر ولاية الرستاق بمحافظة جنوب الباطنة، ويعتبر من أهم الأفلاج بولاية الرستاق بمحافظة جنوب الباطنة، ويتميز بعمق مجراه وكثرة سواعده. وفلج الجيلة هو من الأفلاج العينية، يقع في بلدة الجيلة التابعة لولاية صور بمحافظة جنوب الشرقية، ويتغذى من وادي شاب. ويعتبر هذا الفلج المصدر المائي الرئيسي للبلدة ويبلغ طول قنواته 161 مترًا. وفي عام 2018 أدرجت اليونسكو مدينة قلهات التاريخية ضمن المواقع التراثية العالمية. كما اهتم المغفور له بإذن الله السلطان قابوس بن سعيد بإنشاء المتاحف التي تحفظ التاريخ الإنساني للأجيال القادمة، وتوجت المتاحف في عمان بافتتاح المتحف الوطني الذي يضم آلاف اللقى والمكتشفات التي تدل على عراقة عمان وأصالتها وما قام به الإنسان العماني من مساهمات على مر التاريخ. كما وضع السلطان الراحل في يوليو من عام 2015 حجر الأساس لمتحف عمان عبر الزمان. وتبلورت فكرة المشروع عبر إنشاء متحف يعمل على إبراز تاريخ عُمان عبر الزمان من خلال الصوت والصورة، وإبراز الحقب التاريخية العريقة التي شهدتها عُمان وصولا إلى العصر الحديث. وبشكل عام فإن المتتبع لفكر السلطان قابوس، طيب الله ثراه، يستطيع أن ينظر حضورًا كبيرًا للتراث العماني بوصفه ركيزة أساسية للدولة العصرية وملمحا من الملامح المميزة للمجتمع العماني. وذلك تأسيسا على أن التراث عنصر مؤسس لتشكيل الهوية العمانية الوطنية. رغم ذلك فإن السلطان -طيب الله ثراه- بقي يؤكد دائما إلى أهمية عدم الركون لاجترار الماضي والعيش على ذكرى مفاخره يقول في خطاب له في عام 1994 «وإذا كان لنا أن نزهو ونفخر بالإرث العظيم الذي تلقيناه عن الأسلاف فإن ذلك يجب ألا يكون الغاية التي نقف عندها، مكتفين باجترار الماضي، نباهي بأمجاده، ونعيش على ذكرى مفاخره، فذلك خلق الخامل الذي لا عزم له، وحاشا أن يكون العماني كذلك، فلقد أثبت دوما أنه ذهن متوقد، وفكر متجدد وروح وثابة تطمح إلى ارتياد الأفاق... ومن هنا كان لزاما أن نبني كما بنوا، وأفضل مما بنوا، مستلهمين من عطائهم الإنساني العظيم دافعًا إلى البناء والتعمير، وحافظا إلى مزيد من الرقي والتطوير في تلاؤم مع العصر ومتطلباته، وتواكب مع التقدم العلمي الخارق ومقتضياته». وفي الخطاب نفسه أكد السلطان الراحل أساس فكر نحو التراث بقوله: «لقد أثبت التاريخ بما لا يدع مجالا للشك أن الأمم لا تتقدم ولا تتطور إلا بتجديد فكرها وتحديثه، وهذا شأن في الأفراد، فالجمود داء وبيل وقاتل عاقبته وخيمة ونهايته أليمة؛ ولذلك عقدنا العزم منذ اليوم الأول للنهضة المباركة ألا نقع في براثن هذا الداء، وبقدر ما حافظنا على أصالتنا وتراثنا الفكري والحضاري عملنا على الأخذ بأسباب التطور والتقدم في الحياة العصرية». وكان واضحًا لدى جلالة السلطان -طيب الله ثراه- كما نفهم من مجمل كلماته وخطبه أن «مفهوم التراث لا يتمثل لديه في القلاع والحصون والبيوت الأثرية وغيرها من الأشياء المادية وإنما أيضا الموروث المعنوي من عادات وتقاليد وعلوم وآداب وفنون ونحوها مما ينتقل جيلا عن جيل وإن الحفاظ على التراث لا يكتمل إلا بإعطاء كل مفردة من هذه المفردات حقها من العناية والرعاية». رحمه الله رحمة واسعة، فقد كانت نظرته لبناء الدولة نظرة شاملة لا تهمل جانبًا على حساب جانب.