صلاح أبو نار - جاء رحيل صاحب الجلالة السلطان قابوس -رحمه الله-، ليفرض على الأذهان سؤالا مصيريا: كيف يمكن لعمان وشعبها أن يضمنا الحفاظ على الإنجازات التي حققها وأن يعملا على تطويرها في مسيرتها المستقبلية؟ فالسلطان قابوس مثل قيادة تاريخية تأسيسية أطلق مشروعات تغيير تاريخي نقلت بلاده من حال إلى حال، وأعادت تشكيل الواقع جذريا، وفتحت آفاقا رحبة وثرية للمستقبل. ولقد كان جلالته يتحسب لهذه اللحظة فلم يترك خلفه فراغا قياديا، وجاء ترشيحه لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق دليلا ساطعا، على وعيه لتحديات ما بعد غيابه وقناعته بقدرة خلفه على ملء الفراغ ومواجهة التحديات والدفع بمسيرة النهضة إلى الأمام. هذا القرار لا نجد برهان صحته في اختيار صاحب الجلالة الراحل فقط، بل أيضا في التاريخ الوطني الطويل والخبرات السياسية الثرية والثقافة العميقة لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق. أمامنا سؤال بخصوص المستقبل من بعدين للتحليل: الأول يتعلق بالمبادئ التي وجهت مشروع النهضة، والثاني يتعلق بالمرتكزات الأساسية لتطويرها المستقبلي. فلنبدأ بالبعد الأول: سيكون من الأفضل عند حديثنا عن الإنجازات ألا نكتفي برصدها، والمطلوب في موضوعنا هذا رصد المبادئ التي وجهت مسيرتها، والتي إذا وضعناها في الاعتبار يمكننا مواصلة المسيرة وتطويرها. أول هذه المبادئ: الإنسان العماني. تخبرنا مسيرة النهضة أن الإنسان العماني هو قاعدة انطلاقها وهدفها ومعيار نجاحها النهائي. العمانيون من حقهم أن يحيوا حياة آمنة ومستقرة، في دولة يحكمها القانون، وتديرها المؤسسات الكفؤة المتخصصة والعارفة بمهامها. والعمانيون من حقهم أن يحيوا حياة كريمة، ترتكز على العمل الإنساني كمعيار حاكم للوضع الاجتماعي، وعلى تكافؤ الفرص كمعيار منظم لعلاقات العمل. ولكن العمانيين أيضا من حقهم التمتع بخدمات الدولة الرفاه، أي حقهم في بنية أساسية كفؤة من طرق وكهرباء ومياه وصرف صحي، وحقهم في التعليم العام والرعاية الصحية والمساواة النوعية. ولا تشكل تلك الخدمات فقط شرطًا لكرامة العماني واكتمال مواطنته، بل أيضا أحد الشروط الأساسية لتهيئته للمشاركة في البناء الوطني. والعمانيون من حقهم المشاركة في بناء وطنهم. المشاركة بمعنى تحمل الأعباء بقدر التمتع بالحقوق. من خلال احترام القانون، والبناء الحر للقدرات الخادمة لمشروع النهضة، والمبادرة الشخصية والجماعية البناءة. ثم من خلال المشاركة عبر قنوات المشاركة الاجتماعية والسياسية، وممارسة الحق في التصويت والترشيح في انتخابات مجلس الشورى. وثاني هذه المبادئ: الوحدة. ويتخذ هذا المبدأ عدة أشكال: الرفع من راية الوطنية والولاء للوطن، والاعتزاز بالذات التاريخية، والحرص على بناء الإجماع الوطني، والولاء السياسي للدولة والقيادة، والتكافل الاجتماعي، والارتفاع فوق إلزامات علاقات الولاء الأولية. ولقد كانت الوحدة ضرورية لتعبئة الموارد الوطنية، ولإيجاد روح المبادرة الجماعية في بناء النهضة، ولكبح تأثير عوامل الفردية والتمايز الاجتماعي، ولنجاح مسيرة التدرج في بناء مؤسسات المشاركة السياسية. وانتهج الطريق نحو تجذير الوحدة عدة قنوات. أهمها الجهاز التعليمي، ومؤسسات الدولة الإعلامية، والتزام مؤسسات الدولة بمعايير عملها القانونية مثل الكفاءة الوظيفية في العمل وتكافؤ فرص التوظيف في تقديم الخدمات، وأخيرا قنوات التنشئة الاجتماعية داخل العائلة والأبنية القرابية الأعلى. وثالث هذه المبادئ: الأصالة والمعاصرة. وسنجد الأصالة عبر عدة أشكال. سنجدها عبر طرح النهضة كمشروع للإحياء التاريخي للنهضة العمانية القديمة، واحترام وتطوير التراث الديني العماني، والاعتزاز بالخصوصية الذاتية من عادات وتقاليد وملبس ومأكل وأنماط للعلاقات الاجتماعية، والكثير من الأسماء والعلامات والرموز الوطنية، وأخيرًا في السياسات الثقافية الرسمية مثل نشر التراث والاهتمام بالآثار والثقافة الأثرية. وماذا بشأن المعاصرة ؟ عاشت عمان لعقود عزلة شديدة، وجاءت النهضة لتنهي العزلة وتدمج عمان في عالمها المعاصر. وسوف نجد المعاصرة عبر عدة أشكال. سنجدها عبر التبني الجذري للمنظومة القيمية الحضارة الإنسانية الحديثة وبما لا يتناقض مع قيم الأصالة. على مستوى الفرد نرصد هذا التبني في العقلانية والتقدم ومرجعية المعرفة والضمير الإنسانيين، وعلى مستوى الجماعة نرصده في المؤسسية السياسية والقانون والمسؤولية العامة والفردية والمشاركة الاجتماعية. ثم سنجدها عبر تبني المعرفة الإنسانية الحديثة ومنتجاتها، بمعنى العلوم الطبيعية والاجتماعية والتكنولوجيا الحديثة، وبمعنى وحدة التراث الإنساني وتواصله العضوي، وبمعنى وحدة الضمير البشري والقضايا التي يطرحها. تلك هي رؤيتنا لبعض المبادئ الأساسية الهادية لمسيرة النهضة العمانية. ماذا بشأن ما دعوناه بالمرتكزات الأساسية لمواصلة وتطوير مشروع النهضة؟ أول هذه المرتكزات: المعرفة. المعرفة بمعنى نشر التعليم الحديث على أوسع نطاق مع التطوير الدائم لمحتواه الكيفي، والمعرفة بمعنى المتابعة الدائمة والعميقة لحركة التقدم العلمي العالمي وبناء المؤسسات القادرة على توطينها، والمعرفة بمعنى التدريب العملي أي تحويل المعرفة من مجرد معرفة نظرية إلى قواعد منظمة للممارسات المهنية، والمعرفة بمعنى الربط العضوي بين المؤسسات التعليمية ومؤسسات الإنتاج حتى تصبح المؤسسات التعليمية قادرة على تزويد الإنتاجية باحتياجاتها بانتظام وشمول وكفاءة. ويستمد مرتكز المعرفة أهميته من عدة عوامل. أولها دور العائد النفطي في الاقتصاد الوطني، حتى الآن ورغم تراجع مساهمته في توليد الدخل المحلي الإجمالي ونمو التنويع الاقتصادي، لا يزال العائد النفطي يشكل قاطرة الاقتصاد الوطني ويساهم بحوالي 70% من موارد الموازنة. ولكن هناك مشكلة متفق عليها هي الطبيعة المتناقصة لهذا العائد بحكم قابليته للاستنفاذ، وتذبذبه الدوري الحاد بحكم خضوعه للسوق العالمي. ومن هنا يصبح من الضروري مواصلة تنمية مسيرة التنويع الاقتصادي التي انطلقت من منتصف التسعينات، وداخل هذه المسيرة تشكل المعرفة القوة الموازية لرأس المال. وثاني هذه العوامل نسبة القوى العاملة الوافدة في الاقتصاد الوطني. وفقًا للمركز الوطني للإحصاء وصلت نسبة الوافدين من إجمالي السكان إلى 43,7% عام 2013، شكل 89% عاملين و11% مرافقين، وتوزع العاملين بين 82% للقطاع الخاص و14% للقطاع العام و4% للعائلي. ووفقًا لتعداد 2010 هناك 25% منهم بلا مؤهل دراسي، و10% منهم يحملون مؤهلا جامعيا، و45% مؤهلات دون الدبلوم العام. ويعني ذلك أن تطوير مسيرة التعليم ضرورية لإحلال العمانيين محل الوافدين ذوي المؤهلات العليا. وأيضا غالبية الوافدين الأقل من دبلوم عام، المرجح أن أكثريتهم تعمل في وظائف فنية دنيا عالية المهارة، يمكن للعمانيين شغلها عبر تطوير التعليم الفني العالي. وثالث هذه العوامل دور المعرفة في الثورة الصناعية الرابعة. تشكل المعرفة المصدر الأساسي لقوه عمل اقتصاد الثورة الرابعة والفائض الاقتصادي، والمعيار الأساسي للمزايا النسبية في التنافس العالمي على الأسواق. الأمر الذي يعني أن النجاح في اللحاق بمسيرة الثورة الرابعة، مرتبط جذريا بتطوير الهياكل التعليمية والبحثية وإنتاجها المعرفي. وثاني هذه المرتكزات المشاركة الاجتماعية. عند الحديث عن المشاركة تتجه الأدهان تلقائيا إلى عمليات الانتخاب للمجلس التشريعي ومنظمات المجتمع المدني. وتلك بالتأكيد إحدى أهم أشكال المشاركة، ولكن المسيرة العمانية في حاجة لمفهوم للمشاركة أوسع من هذا الشكل السياسي. على مستوى معين يمكن ترشيح الكثير من الممارسات باعتبارها تعبيرا عن نوع من المشاركة. منها تعميق الوعي بالقانون والنظام والالتزام بهما، ومنها وعي قيم الممارسة المهنية واحترامها وتحويلها إلى انساق عرفية ملزمة ومعايير للمحاسبة الاجتماعية، ومنها تعزيز قيم الابتكار والإبداع في الوعي الثقافي العام، ومنها وضع منظومة قيم أخلاقية حاكمة لممارسات وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها تبني منظومة أخلاقية عامة تتعلق بقيم مثل احترام الوقت والتقشف والنظام. وعلى مستوى آخر يمكن ترشيح أشكال أخرى للمشاركة في المجال الاقتصادي. مثل تعاونيات المنتجين والمستهلكين المحلية، ومثل أخويات المساعدة الاجتماعية المتبادلة، ومثل التعاون المنظم في تمويل مشروعات خدمة عامة محلية، ومثل الشركات المساهمة المحلية لإحياء الصناعات والحرف التقليدية وتسويقها. وثالث تلك المرتكزات الدولة. شكلت الدولة تحت قيادة صاحب الجلالة -رحمه الله- قاطرة النهضة ومخططها الاستراتيجي وقوتها المنظمة. وستظل النهضة العمانية في حاجة إلى هذا الدور في المدي المتوسط، لكنها أيضا في حاجة إلى مواصلة تطوير نمط هذا الدور، والذي بدأت مسيرته منذ منتصف التسعينات مع إطلاق رؤية عمان 2020. ما هي اتجاهات التغيير الجاري والمطلوب مواصلتها في نمط دور الدولة؟ على الدولة مواصلة تحولها من نمط «الدولة المالكة للمشاريع العامة»، إلى نمط الدولة المنظمة للمجال الاقتصادي. وبمنطق الأمور لا يمكن لمثل هذا التحول أن يكون كاملا، فسوف تظل هنك ضرورة لبقائها كمالك حصري أو مشارك في بعض القطاعات الاستراتيجية. وعلى الدولة أيضا مواصلة الانتقال من «التوظيف المكثف للقوى العاملة» المحدد عبر مزيج من الضرورة الإدارية والضرورة الاجتماعية، إلى «التوظيف المقنن للقوى العاملة» المحدد بضرورات عمل أجهزة الدولة ذاتها. وعلى الدولة مواصلة سياسات التنويع الاقتصادي التي أطلقتها، من خلال استكشاف سبل جديدة لتطوير القطاعات غير النفطية وبالتحديد الصناعية منها، عبر تقديم الخدمات الاستشارية والإعفاءات الضريبية المؤقتة والصناديق الاستثمارية وغيرها من الوسائل. وفي النهاية على الدولة مواصلة سياسة تشجيع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، عبر برامج التدريب والاستشارة ودمجها هيكليا بالمناطق الاقتصادية الكبرى، وتأمين السوق أمامها عبر تنظيم علاقتها مع الطلب الحكومي.