عقل المؤمن ليس مُشاعا تُصب فيها تيارات الثقافات المختلفة -
أمة تشرق في قلوبها شمس الهداية بالوحي الرباني أولى الأمم بأن تمسك بزمام العلم في هذا الكون -
متابعة: سالم الحسيني -
«عقل المؤمن ليس مشاعا تُصب فيها تيارات الثقافات المختلفة أو وعاءً يتلقى إفرازات المجتمعات البشرية غثها وسمينها، بل عليه أن يكيّف الدنيا لا أن يتكيّف معها، ليتمكن من قيادة البشرية قيادة ربانية ليخرجها من الظلمات إلى النور، فالأمة الإسلامية التي شاء الله سبحانه وتعالى أن تشرق في قلوبها شمس الهداية الربانية هي أولى الأمم بأن تمسك بزمام العلم في هذا الكون، وأن تقدم للإنسانية دين الرحمة كما أنزله الله سبحانه وتعالى غضا طريا غير مشوب بأمراض النفس البشرية، وأن تتمثله في منهجها وفي سلوكها.. ذلك ما أوضحه المكرم الشيخ زاهر بن عبد الله العبري في محاضرة له ألقاها بجامع التواب بولاية السيب. وبيّن من خلالها أن البشرية في حاجة إلى هذا الدين الحنيف ليبصرها بالطريق السوي، وينقذها مما هي فيه من غواية وضلال ومن فتك للنفس البشرية وفساد في الأرض.. ملحق «إشراقات» ينشر هنا بعضا مما جاء في تلك المحاضرة التي جاءت تحت عنوان: «المسلمون بين واقع الهزيمة النفسية وعوامل الانتصار».
استهل العبري محاضرته قائلا: ما أعظم نعمة الله سبحانه على هذا الإنسان الذي خلقه مكرّما مفضّلا على كثير من الخلق وبوأه سدة القيادة في هذا الوجود، مسخّرا له ما في السماوات وما في الأرض من أجل أن يعبد الله وحده حق عبادته، ومن أجل أن يعمر هذه البسيطة واختصه سبحانه بما اختصه به من نعمة العقل التي هي في الحقيقة نور رباني أودعه الله سبحانه فطرة الإنسان ليستهدي بأشعته بين دياجير الطبيعة المطبقة، ولينفذ ببصيرته من خلال ما يأتي من وحي رباني إلى حقائق هذا الوجود مستجليا أبعاده مدركا مغازيه وأصلا إلى مراميه عارفا الحدود التي يجب أن يقف عندها، وشاء الله- عز وجل- أن تكون كلمات الوحي نورا ربانيا تألقت من الغيب في تلك الكلمات التي أنزلها الله- سبحانه وتعالى- نورا وضياء في أفق البيان، كما تتألق أضواء النجوم النيرات في الآفاق التي يشاهدها الإنسان، ولكن الفرق بين تلك وهذه، أن تلك يعتريها الأفول، وهذه لا تغور ولا تزول، وتلك لا تهدي إلا الأبصار، وأما آيات الله وكلماته فهي تهدي البصائر، وهي مع ذلك تمد الإنسان بما يرفع شأنه ويقربه إلى الله زلفى من خلال مسيرة في الحياة راشدة، لا يعتريها انحراف في التصور ولا خلل في الفكر ولا انزلاق في المشاعر والأحاسيس، ولا ارتكاس في القيم والأخلاق، والقرآن الكريم نصبه الله- سبحانه وتعالى- ليصلنا بالغيب وليعكس لنا حقائق هذا الوجود ولينير لنا مهيع الحياة ويمدنا بعطائه الذي لا ينفد بعبارات لا ترقى إليها ملكات البشر إلا بقدر ما ترقى الأبصار إلى النجوم تستجلي لمعانها، كما يقول شيخ العصر علما واجتهادا وفضلا وعملا سماحة شيخنا أحمد بن حمد الخليلي- حفظه الله- ولا تنعكس هذه الآيات إلا في تلك المنحة الربانية التي تسمى (العقل) الذي في حقيقته ليس إلا نور رباني أودعه الله سبحانه وتعالى فطرة هذا الإنسان، ولا يمكن أن يستوثق هذا العقل نوره إلا بما يتممه من الشرع الشريف، وكذلك الوحي يتعذر أن تبزغ شمسه إلا في آفاق هذا العقل، ومن هنا كان العقل مناط التكليف حيث شُرّف الإنسان بالخطاب الرباني تكليفا اقتضاءا أو وضعا ذلك من اجل أن يأخذ في سلّم الارتقاء إلى الله زلفى بعمل الصالحات وتصحيح المفاهيم وقيادة الحياة بمنهج الله الذي ارتضاه لعباده، فما الدين في حقيقته إلا انه وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة إلى ما فيه منفعتهم المحضة لمصلحتهم في دنياهم وأخراهم، وبذلك يُعلم انه بقدر إشراقة الوحي الرباني الذي جاء في الكتاب العزيز وفي صحيح سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- يكون هذا الإنسان أقدر على تفكيك رموز هذا الكون وتحليل ألغازه، وفهم فلسفته، وعلى أن يعلم مبدأه الذي منه ينطلق، والمصير الذي إليه يؤول، وأن يعرف ما بين ذينكم الطرفين من محددات المسير الذي يجب أن يسلكه، فالمعوّل في صلاح الإنسان على قدرته في إدارة ملكات ذهنه من أجل أن تسبح في عالم المعاني والمحسوسات لتزنها بموازين الحق على هدى من الله سبحانه وتعالى ماثلا في وحيه وفي هدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وبذلك تستقيم موازين القسط ويتمكن الناس أن يرجحوا الصالح من الطالح، وأن ينتصروا للحق على الباطل، وهذه سنة ماضية أرادها الله- عزّ وجلّ-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) ولا مناص حينئذ لهذا الإنسان العاقل من أن يستمسك بعرى الوحي حتى لا يتيه بعقله من حيث انه قدرة هائلة شاءها الله أن تكون زادا لهذا الإنسان يستعين به في دنياه فإذا ما أطلق العنان لعقله يفسر هذه الدنيا ويفكر في مضامينها ويدرس الروابط التي تكون بين الأحياء والعقلاء من ناحية وبين العقلاء أنفسهم من ناحية أخرى، ذلك كله لن يسلمه إلا إلى مزيد من التراكم الفلسفي العقيم، لأنه لا يتمكن بمحض قدرات عقله مهما بلغت حدة وقوة من أن يتسوّر إلى عالم الغيب، بل هو أعجز في كثير من الأحيان بل في أكثرها عن إدراك المحسوسات في عالم الشهادة، فأنّا له بعالم الغيب.
وأضاف قائلا: وهكذا يتبين أن الاستئسار لطاقة العمل في تفسير الأشياء وفهم المعاني إنما هو نتيجة طغيان يستشعره صاحبه عندما يستأنس في ذاته طاقة وملكة إدراكية فائقة، فيأخذ بالانصراف رويدا أو سريعا عن منبع الوحي متكئا على عقله لأنه يستشعر أنه قادر على محاكمة الأشياء بل على إخضاع النصوص- حسب زعمه- لفكره وعقله وما ذلكم إلا ما حذّر الله- سبحانه وتعالى- عنه في أولى الآيات التي أنزلت على قلب محمد- صلى الله عليه وسلم- حيث يقول الحق- تبارك وتعالى-: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) فهو عندما يستشعر الاستغناء بعقله قد يتنكب الطريق فيعرض عن حقائق الوحي ودلالاته القطعية ومفاهيمه ومضامينه ومراشده لينزلق في دركات سحيقة من الأوهام والخيالات التي يصوّرها له هواه وهو يحسب أنه يحسن صنعا، وما ذلك إلا من إضلال الشيطان وغوايته، وهكذا يمكن تلمس المبدأ الذي يصدر عنه ما يسمى بـالانهزامية في أوساط المسلمين وذلك يُعلم بانه ضعف في صلة عقولهم بخطاب ربهم إما من حيث الاستسلام لمقتضيات ذلكم الخطاب ومقتضياته، وإما من حيث فهمه والانصراف عنه، وإما أنك تجد كلمات تشاع هنا وهناك بأن انهزامية تسري في أوساط المسلمين فإن شئت أن تقر بذلك أو تقرره فأرجعه في مبدأه إلى ذلك الانفصام بينما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من الاستمساك بحبل الله وبالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وبين إدراكه لكتاب الله- عز وجلّ- وبين قدراته العقلية وملكاته هل أطلقها كما أوجب الله- سبحانه وتعالى- عليه لتمتد إلى آفاق هذا الوجود تتملّى آلاء الله وتسبر أسرار حكمته في خلقه وما أودعه في هذا الوجود من دلائل وحدانيته عزّ وجلّ أم أنه صرف هذه الطاقة الهائلة التي هو مسؤول عنها إلى غير المصرف الذي أمره الشرع الحكيم عن يسلك بها فيه.
وأشار إلى أن الانهزامية التي عنون بها هذا اللقاء المبارك لا تأتي إلا من وهن في الإيمان، ولا يكون الوهن أفظع وأكلح وأقبح أثرا من الوهن العلمي من حيث إدراك العقيدة بمعانيها وبمقاصدها، ومن حيث الاستلهام من وحي الله سبحانه، ومن حيث صون مصادر المعرفة والتلقي لدى المؤمن، لأن هذا المؤمن عقله ليس مشاعا تُصب فيها تيارات الثقافات المختلفة، وليس مشاعا لأن يكون وعاءً يتلقى ويقبل إفرازات المجتمعات البشرية ما كان منها غثا أو سمينا بل إنه مطالب بأن يحاكم الأوضاع البشرية كلها وأن يكيّف الدنيا لا أن يتكيّف معها، وأن يقبض بأزمّة السيرورة البشرية ليقودها قيادة ربانية ليخرجها من الظلمات إلى النور، فتخلي المؤمن عن هذه الرسالة العظيمة وهو أنه فرد في أمة أرادها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، ثم بعد ذلك قل ما يحلو لك من مظاهر تلك الانهزامية النفسية لتجدها ماثلة في تلك الفرقة والتشتت والخلاف والنزاع والشقاق مع أن القرآن الكريم يتلوه المؤمن ويقرأ فيه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، ويذكّرهم بنعمة الله- سبحانه وتعالى- عليهم.. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، كما ذكّر النبي- صلى الله عليه وسلم- بنعمة جمع المؤمنين ورصّ صفوفهم ومؤاخاة قلوبهم وتعاطف مشاعرهم مع بعضهم البعض: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، فهذه نعمة ربانية لا يتم التفريط فيها من قبل أصحابها إلا عندما يتسرب الشر من خلال الوهن في الإدراك العلمي لمرامي الوحي ومقاصد التشريع الحنيف وأهداف الشرع الشريف، وإلا فإن المؤمن لا يرضى إلا أن يكون مع أخيه المؤمن كما قال الله- سبحانه وتعالى- حيث وصف المؤمنين: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)، وكما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)، وقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، مشيرا إلى أن هناك قوة كامنة وطاقة هائلة غير منظورة في كون جزئيات البنيان يشد بعضها بعضا لكل تجاه الآخر من أجل أن يقوى البناء، مبينا أنه لولا قوة الشد بين أجزاء البناء لتفتت تلك المباني فكيف بهذه الحقيقة الشرعية الاجتماعية المعنوية «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، و«المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».
وأضاف: عندما يأتي الذين تفرقوا في دينهم وكانوا شيعا قال الله سبحانه عنهم: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) أي النبي- عليه الصلاة والسلام- وأمته تبعا له- ليسوا في شيء من أولئك الذين تفرقوا في دينهم وكانوا شيعا، حيث إن الشيطان لا يتسلل بشره وأذاه إلا عندما تتفرق الأمة ويتصدع بناؤها وتفقد قوة تماسكها، ولذلك ترى انتهاكا للحرمات وسفكا بالدماء وانتهاكا للأعراض دون وازع من إيمان ولا يقظة من ضمير حي بسبب اتباع الشيطان وأربابه في هذه الأرض.. مشيرا إلى أن هذا الشأن انعطفت «للأسف» الأمة الإسلامية في دركه منذ أحقاب زمنية متطاولة غِبّ الخلافة الراشدة مباشرة، لتتجرع مرارة وغصص ذلكم الانعطاف في حاضرها كما تجرعته في ماضيها، وستظل تزداد عليها وطأة هذا الانعطاف وشره إن لم تتدارك نفسها بالرجوع والأوب السريع إلى المنبع الصافي، إلى كتاب الله سبحانه، وإلى سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي ودّع الأمة قائلا: «تركت فيكم أمرين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي عضوا عليهما بالنواجذ». فالقرآن الكريم يجب أن يكون منهجا مطبقا يعيش الناس أحكامه وهداياته واقعا معيشا في حياتهم، في حركاتهم وسكناتهم، في سخطهم ورضاهم، في إقبالهم وإدبارهم، في حربهم وفي سلمهم، وفي كل حالة من أحوال هذه الدنيا، يكيفون الدنيا لكي تنصاع لمنهج الله، ولا يحاولون أن يتكيفوا هم على الأوضاع، مبينا أن الأمة المؤمنة التي شاء الله- سبحانه وتعالى- أن تشرق في قلوبها شمس الهداية الربانية بالوحي الرباني لهي أولى الأمم بأن تمسك بزمام العلم في هذا الكون الذي نعيش فيه، فعليها أن تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، وأن تقدم للإنسانية دين الرحمة كما أنزله الله سبحانه وتعالى غضا طريا غير مشوب بأمراض النفس البشرية، تبلغ كلمات الله إلى أذهان العالمين كما أرادها الله بريئة من حظوظ النفس ورغباتها الذاتية، مشيرا إلى أن الله سبحانه وتعالى أوجب على نبيه أن يجير مشركا (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).. فما بالها لا تجير هذه الإنسانية التي تستجير بها، فعلى إرادات هذه الأمة ممثلة في كياناتها السياسية، وكفاءاتها المتعددة من العلماء الضالعين في كل فن من فنون الحياة أن تقدم للبشرية هذا الدين كما أراده الله سبحانه وتعالى مبرأ من زيف المنتحلين وانتحال المبطلين.