مقال غادة الأحمد - جاء في الأخبار: «أن النضر بن شميل» توفي (203هـ) أوحد زمانه في الفضل والأدب والفصاحة ضاق به العيش في مدينة البصرة، وأضناه الفقر، وهو ما هو عليه من سعة العلم وقوة الفكر وفصاحة اللسان، فعزم الخروج من مدينته والسفر إلى خراسان فخرج الوجهاء لتشييعه (نحو ثلاثة آلاف من المحدثين والفقهاء واللغويين والنحاة والأدباء، جلسوا لوداعه على قارعة الطريق، وهم يبكون لفراقه ويولولون ويندبون أنفسهم لخسارتهم إياه! فقام بينهم، وقال: يا أهل البصرة يعزُّ عليَّ، والله فراقكم، ولو وجدت عندكم كليّة من الباقلاء، ما فارقتكم، فلم يكن فيهم واحد يتكفل له ذلك، فسار إلى خراسان، وأقام فيها، وأفاد منها مالاً كثيراً». ولا تخفى دلالة الخبر على أحد!. فالكثير من العقول العربية هاجرت، بسبب الفاقة والعوز وضيق ذات اليد، وطلباً لمساحة حرية افتقدوها في أوطانهم، وآخرون طلباً لمزيد من العلم وآفاق أرحب في البحث العلمي في بلاد الغرب؛ أسماء لامعة أثبتت حضورها العلمي والأدبي في بلاد المهجر، وحازت على التكريم والترحيب لمنجزها وتميزها فنذكر على سبيل المثال لا الحصر العالم أحمد زويل من مصر والمعمارية زهاء حديد من العراق وأدونيس من سورية وإدوارد سعيد من فلسطين وغيرهم... الكثير الكثير الذين غادروا أوطانهم الأم، ووجدوا في الوطن البديل البيئة والاحتضان والتكريم والدخل المادي العالي الذي يوازي عملهم وخبرتهم وتميزهم ونتاجهم. ولا يخفى على أحد اليوم أن السوريين الذين هاجروا بفعل الحرب رغماً عنهم قد حققوا منجزات هامة وتميزا ملحوظا، دفع بالدول المضيفة إلى احتضانهم والإشادة بتميزهم في جميع مشارب العلم والإبداع والفنون. إن هجرة العقول تهدد الأمن القومي العربي، وتفرغ البلدان العربية من اللبنات الأساسية لعمليات البناء والتطور والنمو، فأين هي المؤسسات الرسمية العربية من التزايد الواضح والسريع في هذه الهجرة التي كانت الحروب المسبب الأهم فيها؟! إن عملية إعادة جذب هذه العقول تتطلب نفي الأسباب التي أدت إلى الهجرة، وهذا يتطلب جهداً عربياً مشتركاً. وخلق بيئة عربية حاضنة لا طاردة للإبداع والتميز ووضع استراتيجيات للبحث العلمي في مراكز متخصصة لمواجهة كافة المشكلات التي يعاني منها المجتمع العربي ومن أهمها: (البطالة، والأمية، والتطرف)... وغيرها. ولعل الكتّاب والأدباء والفنانين من أولى الفئات بالاحتضان والاهتمام والرعاية والجذب.... رعاية تبدأ بالمقابل المادي لمنتجهم وتنتهي بالرعاية الصحيّة، والعيش الكريم في تقاعدهم، هذا الأمر لا يتعلق باتحادات الأدباء والكتّاب والجمعيات الأدبية بل بجميع المؤسسات الثقافية، ودور النشر العامة والخاصة والصحف الرسمية وغير الرسمية التي تتعامل مع الناتج الإبداعي والثقافي والفكري والمعرفي. فالاهتمام يتطلب مقابلاً يساوي سنوات الخبرة، واحترافات الإبداع، أو يكافئه، ولا تكفي «أحسنت» في مقالتك أو قصيدتك أو كتابك!! فهذه تذكرنا بقصة الخليفة الذي كان كلما سمع بيتاً جميلاً من الشعر صرخ من بين خلاخيل جواريه المزينات بالذهب والفضة: أحسنت دون أن يحصل شاعرنا على أي شيء؛ فما كان منه إلاَّ أن هتف بأعلى صوته: كلما قلت بيتاً، قال: زدني و بأحسنتَ لا يُباع الدقيق.