إميل أمين - وقت كتابة هذه السطور كانت البشرية تمر بحالة خوف وقلق غير مسبوقين، ولم يكن الداعي لذلك أنباء عن حرب عالمية ثالثة أو ثورات الطبيعة من قبيل البراكين أو الزلازل والتسونامي، وكل ما هو هائج ومائج ومهول. الاضطراب الذي يلف العالم في هذه اللحظات، والمرشح للتصاعد وقت ظهور هذه الكلمات للنور، موصول بكائن دقيق لا يكاد يرى إلا من خلال المجهر المعظم، إن مساحته لا تقاس إلا بالنانو مليمتر، ومع ذلك قد أحال نهار العالم إلى قلق، وحول ليلهم إلى أرق. المخلوق غير المرئي هو فيروس «كوفيد -19»، المعروف باسم كورونا، ذلك الزائر غير المرغوب فيه والذي حط على أرضنا مرة، ولا يعلم إلا الله متى سيغادرها، وما هي تكلفة بقائه أو مغادرته، وما سيترك وراءه من آثار على كافة مناحي الحياة، من الاقتصاد إلى التاريخ، ومن السياسة إلى الاجتماع وفي هذه جميعها يظل الإعلام هو اللاعب الأكبر في تقدير صاحب هذه السطور في أزمة كورونا والسؤال كيف ولماذا؟ يعن لنا بداية أن نتذكر أن وسائل الإعلام هي جزء من المجتمع، وهي واحدة من العديد من المؤسسات المختلفة التي توجد ضمن مؤسسات المجتمع المختلفة، والمؤسسات مصطلح استخدمه علماء الاجتماع ليقوم مقام الكيانات والمنظمات طويلة الأمد التي تقوم بدور مهم في الحفاظ على المجتمع. أضحت وسائل الإعلام في عالمنا المعاصر من القوة والقدرة لأن تصنع صيفا أو شتاء، تجمع العالم أو تفرقه أن تبث الطمأنينة في النفوس أو تدفع الناس إلى الذعر والخوف والترقب. يمكن القطع بأن كورونا ليس الفيروس الوحيد الذي ضرب الإنسانية، ورغم الضحايا الذين يقتربون من الثلاثة آلاف الذين راحوا من جرائه، إلا أنه يعتبر في كل الأحوال لا شيء بالنسبة لأوبئة فتاكة عرفتها الإنسانية من قبيل الطاعون والكوليرا والحمى وغيرها، والتي أبادت عشرات الآلاف وتذكرها كتب التاريخ حتى الساعة. غير أن شيئا ما في المشهد قد تغير، فعلى سبيل المثال حين ضربت بعض الأوبئة الفتاكة الامبراطورية الرومانية السابقة قبل ألفي عام، لم يحدث التأثير الهائل الذي نراه ونحن الآن على مشارف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، وهنا يعن للقارئ أن يتساءل عن السبب. يقودنا الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة إلى أطروحة العولمة المتحركة، وقد باتت نبوءة قد تحققت بالفعل، ففي ستينيات القرن العشرين، استشرف من بعيد عالم الاجتماع الكندي الشهير «مارشال ماكلوهان»، مستقبل الإنسانية من جراء أمرين: الأول: وسائل المواصلات والانتقال، والتي رأى مبكرا أنها قربت المسافات، وجعلت البشر قادرين على الانتقال من مكان إلى آخر في وقت قصير، وربما لو امتد العمر بالرجل إلى القرن الحادي والعشرين، واستمع إلى آخر أطروحات العلماء الأمريكيين عن برنامج لنقل أي إنسان من أي نقطة على سطح الأرض إلى نقطة أخرى خلال ساعة واحدة، لتغيرت رؤيته للقرية الكونية، وعاد لاستخدام ما قد ذهب إليه أديب نوبل المصري، نجيب محفوظ، عن حارتنا البشرية، أو الحارة الكونية. الثاني: هو ثورة وفورة وسائل الإعلام، والتي تتسارع اختراعاتها ونتائجها يوما تلو الآخر بشكل اقرب ما يكون إلى قصص الأساطير في عهود الأولين، وإذ كانت الإذاعة يوما ما فتحا عظيما في أوائل القرن العشرين، تنقل الأحداث بالصوت والتعليق، فإن عصر التلفاز حيث يمكن للمرء أن يستمع إلى الصوت والصورة دفعة واحدة قد أحدث نقلة هائلة في التواصل. استمر الأمر على هذا النحو إلى حين الانفجار الإعلامي غير المسبوق، والذي تمثل في شبكة الإنترنت وما تلاها من قدرة أي إنسان على أن يصبح بدوره وسيلة إعلام متنقلة، فيكتب ما شاء له أن يكتب، ويسجل صوتا وصورة، وينقل الأحداث مباشرة من أماكن جريانها، عطفا على نسج خيوط وخطوط من التواصل الإنساني، والقول المضاد ورد الفعل وما يليه، إلى آخر الجدلية التي نراها حاضرة بين جنباتنا في حاضرات أيامنا. أثبتت أزمة فيروس كورونا حقائق عديدة موصولة بالمشهد الإعلامي العالمي، في المقدمة منها أن قضايا الشفافية باتت أمرا لابد منه بالنسبة لكل دول العالم، إذ لم يعد هناك ما يمكن أن يخفى عن أعين العالم في الحال أو الاستقبال، فقد باتت الحقائق معروفة، والأرقام مرصودة، والبشر على طرف أصابع الفارة، ومن هنا ولد مجتمع الإعلام الكوني إن جاز التعبير، وتوارت أدوات الأنظمة الشمولية، حتى أولئك الذين يحاولون قطع الطرق على الإنترنت وبقية منتجاته لن يقدر لهم فعل ذلك بسبب ثورة اسمها «ايلون ماسك»... ماذا عن هذا الاسم؟ باختصار غير مخل نحن في صدد الإشارة إلى المليونير الجنوب إفريقي الأصل الكندي الجنسية، والذي يرى الكثيرون انه ليس إلا غطاء لأبنية مؤسساتية دولية، قد تكون مدنية وربما عسكرية أو استخباراتية، ومهما يكن من شأن هوية الرجل، فإن ما يهمنا هو ما أبعد من ثورة قادمة من وراء أفكاره، والتي يخطط لها بدقة عالية، ويسعى في طريقها بسرعة رهيبة، وتتمثل في إطلاق نحو أربعمائة قمر اصطناعي تدور حول الكرة الأرضية صباح مساء كل يوم تنقل خدمات الإنترنت للعالم مجانا ومن غير أي رسوم، وهنا على المرء أن يتخيل حال العالم في ظل تلك الثورة. أظهرت إشكالية كورونا جوانب جيدة وأخرى سيئة في مدارات ومساقات الإعلام الدولي، يمكن أن نشير إلى البعض منها ولو في اختصار غير مخل. أما الجانب الجيد فيتمثل في أن قنوات التواصل الإعلامي قد قربت المسافات بين البشر، وجعلت الجميع على اطلاع لحظي بكافة المستجدات بما في ذلك طبيعة الأزمة وماهية الفيروس، وكافة المعلومات الطبية المعروفة عنه، عطفا على تبادل المعلومات حول افضل طرق الوقاية، وفتحت وسائل الإعلام الأجواء واسعة فسيحة لتبادل الآراء بين المتخصصين حول افضل الطرق للوقاية من هذا الخطر الداهم، وهذا أمر لم يكن قائما قبل مائة عام على سبيل المثال حين ضرب وباء الكوليرا العالم، أو قبل أربعمائة عام حين أباد الطاعون عشرات الآلاف من الفرنسيين في باريس وضواحيها. على أن هناك الجزء السلبي من وسائل الإعلام في التعاطي مع أزمة كورونا، الأمر الذي تبين في «الأخبار الكاذبة أو المفبركة»، وهذه يمكن تقسيمها إلى اكثر من مجال. بداية هناك الإعلام الموجه الذي يراد من ورائه بلورة شكل العالم، وهذا ما يفتح الباب واسعا لدعاة أحاديث المؤامرة، وفي حال كورونا تحديدا نحن أمام جدل لا ينتهي ما بين من يرون أن الفيروس ليس إلا أداة من أدوات السياسة، والحديث بمزيد من التصريح لا التلميح يدور حول دور الولايات المتحدة الأمريكية في تصدير هذا الوباء للصين وذلك لحرمانها من أن تضحى عند لحظة زمنية قريبة سيدة العالم، والقطب السابق للولايات المتحدة الأمريكية، وبنفس المنهجية في التفكير كذلك هناك من يربط بين انتشار الفيروس في الصين، وتفشيه في إيران لنفس الخلفيات السياسية العدائية، بمعنى أن الذين صدروا الفيروس للصين، قد صدروه لإيران. غير أن هذه المحاججة قاصرة قصورا كبيرا في واقع الأمر، ولا دليل على صحتها، إذ إن الفيروس ضرب بؤرة سكانية مثل إيطاليا، ومنها إلى فرنسا، وأمسك بأطراف دول عديدة صديقة للولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من ذلك انه ضرب الولايات المتحدة الأمريكية نفسها من خلال حالات ظهرت في ولاية كاليفورنيا، الأمر الذي يعني أن الأخبار الكاذبة التي أخذت مكانها في وسائل الإعلام إنما أضرت بالإنسانية ولم توحدها. جانب آخر من المعالجة الإعلامية المثيرة للجدل والتي تحسم بأن العالم برمته وليس المنطقة العربية فحسب في حاجة إلى مراجعة الخطاب الديني وضبط المفاهيم الإيمانية المجردة، وعدم فتح الباب للتأويلات التي تهز استقرار الخليقة. كان من المثير أن تفتح وسائل الإعلام الأبواب واسعة أمام مسألة العلاقة بين الوباء وبين عالم الغيب، أي هل الفيروس هذا انتقام الهي من البشرية الضالة، أم انه مجرد مرض عارض مثل غيره من الأمراض التي مرت بالإنسانية طوال تاريخها، وفي هذا السياق اتخذ البعض من مرض الإنفلونزا الاعتيادية التي أصابت بابا الفاتيكان البابا فرنسيس، مدخلا لقصص وأساطير ما انزل الله بها من سلطان عن وفاة البابا القريبة، وكيف أن هناك تنبؤات تشير إلى انه سيكون آخر بابا على عرش الفاتيكان، وانه من بعده ستكون نهايات الأيام وقيام الساعة، وحكما هذه جميعها لا أساس لها من الصحة بحال من الأحوال، وإنما هي أساطير الأولين والتي باتت تنتشر اليوم كما النار في الهشيم وبسرعة أكبر وأخطر، ما يؤثر على مفاصل مناحٍ أخرى غاية في الأهمية. احد اكبر ضحايا الهلع الإعلامي الذي نجم عن فيروس كورونا الأسبوعين الماضيين كان الاقتصاد العالمي، ذاك الذي خسر اكثر من ستة تريليونات دولار، أي اكثر من ستة آلاف مليار دولار، وعاشت البورصات العالمية ما لم تعشه منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 ولا يعلم المرء مع ظهور هذه الكلمات للقارئ كيف سيكون الوضع الاقتصادي العالمي. ما العمل وما هو الحل بالنسبة لوسائل الإعلام في أوقات الأزمات الراهنة؟ باختصار نشير إلى أن تلك الوسائل التي جعلت العالم قرية صغيرة، مدعوة أيضا لأن تكون أداة وفاق وليس آلية أو صوت افتراق، إنها مدعوة لأن تجمع لا أن تفرق، وأن تبشر لا أن تنفر. يمكن لوسائل الإعلام أن تكون صوتا نبويا ينادي بالحقائق، لا أبواقا للمنحرفين والمضللين الساعين لهدم عالمنا المعاصر بالخوف والرهبة والتنبؤات الابوكريفية التي تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها. نأمل أن يصنع الإعلام العالمي في مواجهة أزمة كورونا ربيعا حقيقيا يمد الناس بالأمل وطرائق الأمل، هذه هي رسالة الإعلام والإعلاميين في أوقات المحن والملمات.