عادل محمود - قبل 50 سنة كان بوسع راتبي الصغير في مجلة سورية ثلاثمائة ليرة. كانت تكفي لكل أنواع العيش والدراسة والتقدم في السن، وتوفير القسط الشهري لبيت في جمعية سكنية. والآن: الغالبية العظمى من السوريين يبحثون عن خط جديد للسكن تحت خط الفقر. قبل 50 عامًا أهديت خاتمًا رخيصًا لأول فتاة أحببتها. وما زلت أتذكر لحظة وضع الخاتم في أصبع بريء، في كف يرتكب في طلاقة كل يوم، وهم سلام العالم. أتذكر الآن، حرقة القلب عند الوداع الذي كأنه قدرٌ يلحق بكل عربات الحب الأول... تجرها خيول الزمن. منذ أيام بحثت عن هذا الخاتم: لقد آن أوان الاستغناء عنه لتمضية الوقت مع أسعار الحياة التي جعلتها الحرب وكورونا غير قابلة للاحتمال.الاسعار التي انضمت إلى فريق قتلة السوريين. لم أجد الخاتم بسهولة.. فلقد عمّقت السنوات مخبأه، وحافظ النسيان على سريره في أحد جيوب القمصان المهملة. وأخيرًا هاأنذا أمام الصائغ. يحدثني عن العيارات والأنواع والأسعار. كنت أقف منحنيًا قليلًا أتفرج على معرض الذهبيات في الواجهة ريثما ينهي مكالمته الهاتفية. قلت له وأنا أحس بلحظة اكتشاف قيمة الشيء عند فقدانه. قلت له: «لازم تحسب سعر هذا الخاتم، ليس وفقًا لعيار ذهبه وإنما بمعيار حاجتي لثمنه». ابتسم مخفيًا سخرية خفيفة. ثم قلت: وأحسب كمية العطر الذي اختزنه هذا المعدن النبيل من معانقة إصبعها. أبتسم دون سخرية. أردفت: وقل لميزانك أن يحسب مثقال تلك الدمعة التي انحدرت على وجنتيها، ونحن نفترق على تقاطع شارعين، وهي تعيد إلي الخاتم. فجأة... دوى انفجار قنبلة طائشة، فانبطح الصائغ تحت طاولته. وعندما نهض مصفرًّا، قلت له، كأن شيئًا لم يحدث: أعطني ما تشاء. إن معدتي على عجلة من أمرها. ومددت يدي كمتسول صاحب كبرياء سابق. خرجت من المكان. ولم أحسب المبلغ. وذهبت إلى بائع سندويتشاتنا أيام الزمن الجميل، في حي الشعلان، وقلت له: سندويشتان. واحدة بفلفل حار، والثانية.. فسبقني قائلًا: والثانية بالنعناع. كنت أفكر وأنا التهم الساندويشه... بأنني سأستعيد الخاتم. بعد أن تهدأ الحرب والكورونا، سأبيع موسوعاتي التي ألغى وظيفتها الورقية جوجل الرقمي.. ولكن الحرب لم تنته، والكورونا تلتهمنا. أحصيت النقود.. فعلمت أنها تكفي عشرة أيام، حيث يصادف اليوم العاشر عيد ميلادها: قلت لنفسي ما قاله بابلونيرودا: «أي بيت يسكنه الحب، بعد أن يرحل؟»